صلوات على بحر من دم

ديوان (تراتيل) للشاعر الشهيد رامي سعد:

صلوات على بحر من دم

بقلم: الدكتور الشاعر (كمال أحمد غنيم)*

لعل منطق اللغة يرى أن التراتيل هي صلوات وأدعية، تتلى بصوت جميل ملحن مرتب مبين، والترتيل صفة لازبة من صفات تلاوة القرآن الكريم ، حيث يقول سبحانه وتعالى "ورتل القرآن ترتيلا "، وذهب بعض المفسرين إلى أن الترتيـل هنا هـو التحقيـق والتبيـين  والتمكين، أو أنه الترسل والتأني والتمهل، مما يؤدي إلى تبيين جميع الحروف ويوفيها حقها من الإشباع ، وهل جاوز "رامي سعد" عندما آثر أن يقدم لنا تراتيله هذه المعاني؟ لعله قد انسجم مع ما في طبيعته من ميل إلى الأجواء القدسية ، والتجويد ، وروعة الإلقاء المنضّد ، حيث يوشك أن يقنع سامعيه أنه ما ندّ عن تلاوة القرآن وهو ينغم بمعانيه وكلماته على نسجه، وينطلق من روحه ليصب أعذب الكلام في الآذان والقلوب .

هي باحة القدسية والذكر والتلاوة التي يجذبنا إليها رامي سعد بلطف وعذوبة ، وهو يحاول أن يعلن للمرة المليار شهادة الإيمان والعمل الصالح ، ويبشر بالانتصار من بعد الظلم ، ولو بعد حين،  ذلك الانتصار الذي تحقق برفض أطفال فلسطين قبل كبارهم الاستسلام أمام مخرز الدبابة ومخالب الطائرات ، وذلك الانتصار الذي رأيناه مع دفقات دم رامي الزكية؛ وهو يشدّ يديه على بندقيته ، وهو ليس انتصار المكابرة، بل انتصار الذات والوطن ، لأنه ما دام المثقف الفلسطيني يتخذ قرار المواجهة بالكلمة الصادقة الطاهرة حتى الطلقة الجريئة وقطرة الدم الزكية؛ فليس من السهل أن لا نسمي الأشياء بمسمياتها، ولذلك نقول إن النصر قد تحقق من تلك اللحظة.

ويسافر رامي سعد بهذه التراتيل في حنايا قلوبنا ، ويأبى ألا أن يترك كلمات نورانية، يرتلها المرتلون، ويحفظها المبلَّغون، لساعة مرهونة في عالم الغيب، قد تكون ساعة النصر الكبير  في الدنيا عندما ينهض الشهداء جيشاً كبيراً  ليحتفلوا برحيل الاحتلال، أو ساعة النصر الأكبر عندما يبعث الناس ليسألوا عن مواقفهم وعن مشاهد كانوا أبطالا لها بمفهوم البطولة الدرامي الواسع!‍‍

وتنبثق التراتيل لتعبر عن عالم رامي المتخم بالألم والمعاناة ، والقائم على الصمود والتفاؤل، والمنطلق إلى التحريض والثورة، إذ إن معظم قصائده تدور حول محور الألم وتقوم على الشكوى من الواقع السيّئ، وتحمل هذا المعنى، وتعبر عناوينها عنه: (من القاتل ؟ ، الموت ، الردة ، دوي صراخك يدمني، لن تهاجر الطيور، البحر، الغرقى، الظلمات ، طلبات ، أراك تنهزمين، هذي الجريمة، أواه بغداد)، وجاء الصمود والتفاؤل في المرتبة الثانية من نبض التراتيل، من خلال عناوين عدة قصائد، بالإضافة إلى مضامينها: (كربلاء فلسطين ، عجل الزمان ، إليك يا فاطمة ، حكاية وطن، المشهد)، وظل نداء الثورة والمقاومة ديدن المجموعة الشعرية، لكنه برز أكثر ما يكون في عدة قصائد: (أين الفرار، الصبح القريب، للعراق، قاوم)، ويمكننا القول هنا بسهولة ويسر أن ثورة رامي ظلت تطل من خلال وصف الألم بشكل كبير، فسعيه إلى تشخيص الواقع المؤلم ، ووضع اليد على مواطن الداء بشكل جريء لا يعرف التردد ولا الخور، بقدر ما يعرف الاندفاع والاقتحام؛ بمنزلة ثورة ورفض وتحريض على الفعل والمقاومة والتغيير، وذلك ينسجم مع واقع الشاعر العملي الذي تمثل في الانضمام لصف التغيير الفاعل في المجتمع من خلال أكثر من منبر ووسيلة ، حتى توّج ذلك بشهادة المقدام المواجه المدافع على أرض (الشجاعية) .

وقد تفجرت شاعريته بهم وطني وديني متصاعد ، يوشك أن ينشغل به عما سواه:

وطني والليل إذا جن

وطني والدمع إذا غنى

وبنوك إذا نشدوا الجنة

وطني والأمة كالقصعة

مليار لا يملك رنة

ستعود دروبك حمراء

والدم نخضبها والحنا

برجال أحرار بررة

إذاً فهي ثلاثية المعركة : (الوطن ، والمعاناة ، والجهاد القائم على عقيدة ) ، وكأنها نسيج متكامل يقود بعضه إلى بعض، ويرتبط أوله عند رامي بآخره ، تتضح معالمه في التكرار اللذيذ لمفردة (الوطن) المنسوبة إلى ياء المتكلم، بكل ما في ذلك من معاني التلاحم والارتباط والانصهار في بوتقة التفاعل ، ويلوح المحور الثاني (المعاناة) في الليل الذي جنّ وسيطر، والدمع المكابر، والأمة التي تتداعى الأمم لنهشها، دون أن تحرك ساكناً، ولا تصدر رنّة صراخ واحدة ، ليطل المحور الثالث (الجهاد) برأسه، حتى تستقيم المعادلة وفق رؤية رامي الإسلامية ، ذلك الماثل في نشدان الجنة والدروب الحمراء المخضبة بدماء الشهداء، ذات رائحة الحناء الزكية من رجال أبرار عرفوا الله وأقسموا  على نصرة دينه .

وتدور معظم القصائد في ذلك الفضاء اللازوردي المنسوج من ألوان واقع سريالي، يختلط فيه الأبيض بالأسود والأحمر بالأخضر، لتعطينا أكثر من شكل وترتيلة لهذه المعاني السامية في ديوان رامي، الذي لا ينسى في أثناء ذلك حزناً مميزاً على رجال أبطال مثل صلاح شحادة وإبراهيم المقادمة وعوض سلمي ، في مقابل هجاء لاذع للحل السلمي ونتائجه، وتواصل إنساني وديني مع  جراح الأمة في العراق، وانغماس طبيعي في بعض الجوانب الاجتماعة المحيطة لرتق الخلل ، والعمل على انسجام اللوحة الفنية؛ التي يرسمها شعب فلسطيني مسلم، يمتلك عطاء جباراً لا يكاد يعرف الحدود ، ويتوّج كل ذلك بحب إنسانيٍّ؛ يشكّل جزيرته، التي كان يستريح إليها استراحة المحارب، تلك الاستراحة التي كان يجد في مفرداتها كل ما يعايشه، كيف لا ونحن نتحدث عن قصيدة غزلية لشريكة عمره وأفكاره، فهو يكتب كلماته ليجدها عندها في شكل متوازٍ على لوحاتها الكاريكاتيرية الساخنة، وكأنه أقسم أن يعيش الوطن والدين في كل جزيئات حياته وعمره:

لو أملك ريشة فنان

لطبعتك صورا زينية

لو لي بالنحت مهارات

لجعلت الصور جدارية

عذراً يا قلب أنا الجاني

خفقاتي تعلو مدوية

لا أملك إلا العبرات

لتصوغك دررا شعرية

يحفظك الشعر بدفتره

زينة أنغام صوتية

أغفو في الحلم ألاقيك

أصحو أتفقد عينيّ

أبحث عن نفسي فأجدها

في رسمك تلهو بحرية

وقد لجأ رامي إلى توظيف التراث على أكثر من صعيد ، من ذلك توظيف الألفاظ ذات الدلالة التاريخية أو الدينية المرتبطة بمواقف معينة، حيث استطاع بشكل عابر وسريع أن يشحن شعره بما تحمله مثل تلك الألفاظ والمواقف، من ذلك: (ووالد وما ولد ، عاد التتار ولم يعد ، واقرأ على الأعراب فاتحة الكتاب، وخشب مسندة ، وكربلاء ، وأراك كخنسا) ، ويبدو  أن أبرهة ومحاولة هدم الكعبة قد أخذت عنده أكثر من بعد؛ لانسجامها مع واقعه الجديد ، كما أن التتار وهولاكو ظلوا يطلون برأسهم في شعره في أكثر من موضع.

ولم يستند رامي إلى جدار التراث الكبير على سبيل الهرب من الحاضر واللجوء إلى أمجاد الماضى، بل مارس عملية كسر المعطى التراثي في أكثر من موضع، ليصنع أكثر من مفارقة، فشعب الله (المحتار) يعاني الأمرين على يد شعب الله (المختار) ، وكربلاء تتجدد في جنين ، وأسامة في زمن الردة الجديد لا يجد من يناصره ، وعثمان يعاني من شتم أبرهة ، وعنترة لا يمثل في عصرنا واقعه الأليم ، وكأن رامي أراد في ثورته العارمة أن يقلب الأمور رأساً على عقب، كما انقلبت على أرض الواقع ، لأن عثمان وأسامة وعنترة اليوم ليسوا هم رجال الأمس ، وهي مفارقة صادمة تعتمد على البون الشاسع بين مفردات تراثية مشرقة وواقع معاصر مهين ، في محاولة منه لبعث اليقظة في نفوس المتلقين والقلوب ، وإخافتهم بكسر المألوف وقلب المعدول ، من ذلك قصيدته الجميلة عن (الردة) التي يقول فيها :

تعقد قمة

لشد الهمة

فيشتم أبرهة عثمان

ويرفع للردة عنوان

ويترك عنترة قمتهم

ليبقى في القمة اثنان

تطوى صفحتنا على عجل

وتوضع في ركن معروف

لتنهش أحرفها الجرذان

وعلى الإثر

جيش الردة

يزرع في الوطن الأحزان

ويبقى أسامة

كفرخ حمامة

يبكي لضياع الأوطان

جرح في خاصرة القائد

سهم صائد

يتفرج كل الجيران

رحل أسامة

ترك الأمة دون حصان !

ويستمد رامي صوره من بيئته المشحونة بالتوتر والمذابح والتخاذل والصمود ، وهو لا يستطيع أن يزيف واقعه؛ فيقدم صورا مشرقة لواقع جريح ، ويعتمد في كثير من الأحيان على أسلوب المفارقة؛ لإبراز المأساة:

بغداد يخنقها الحصار

والعلج على شرف الهرة

يهدر آلاف ا لآبار!

ويتكئ على البناء الدرامي في أكثر من قصيدة، ليشد أنفاس المتلقي، وهو يرتقي البناء، ثم يسقط في لحظة التنوير نحو المفاجآت الصادمة، وقد ظهر النفَس الدرامي الحواري في قصيدة "طلبات"، التي يعلن فيها شخص ما عن رغباته ، ويأتيه الرد الصارم والتأنيب الفظيع على أبسط الأحلام .

كما أنه يعتمد لغة سهلة أقرب إلى لغة الصحافة، التي عشقها، وتميل إلى البساطة التي أحبها، وتنهل من الفكاهة السوداء، التي تميز بها، واتسمت شخصيته بمعالمها ، بل إنه يستخدم بعض الألفاظ الطافية ، ويتخذها بصمة تميز بعض المعاني التي يريد، من ذلك قوله: (مات الولدْ)، التي تجسد صرخة والد محمد الدرة شهيد انتفاضة الأقصى الأكثر شهرة ، وعبارة: (لن نصالح) التي يتماهى فيها مع حكاية المهلهل، ووفائه لدم أخيه كليب ، ويتوازى فيها مع صرخة الشاعر المصري المعاصر أمل دنقل، التي جعلها شعاراً لقصيدته المشهورة في رفض كامب ديفيد، ومن ذلك تعبيراته: (رجال الكفيار، وعلى الباب لحدي ، وعظامنا صارت مكاحل) .

   وبعد ، فإن ما سطرته يدي هنا بعض الإشارات الفنية والموضوعية، التي يكتنز بها ديوان الشهيد الرائع (رامي سعد) ، وهي مفاتيح تفسر بعض ملامح الجمال، وإضاءات تكشف بعض خبايا النفس الزكية، وقطرة الحبر الساخنة، التي ما قلل من سخونتها انسفاح الدم على رصيف الشهادة، بل لعلنا الآن نراها متأججة، وقد دفع صاحبها روحه ثمناً لها، ليصدق مع الله، ويقفل دائرة القول والعمل، ويثبت إيماناً وحقاً جديرين بنصر كبير، وانتصار أعظم.

*رئيس الرابطة الأدبية