جولة في "بلد النوابغ" لمحمد الحسناوي
جولة في "بلد النوابغ" لمحمد الحسناوي
بقلم: حيدر قفّه
هل يملك المرء الفكاك من ماضيه؟ هل يقدر على إلغاء سني طفولته من ذاكرته؟ وماذا عن فترة الصبا والشباب؟ ماذا عن الأحداث المرتكزة في عمق الذاكرة؟ وكيف بك إذا وجدت من فعل فعلك في الموقع ذاته، والتاريخ ذاته دون أن تعرفه أو تلتقي معه؟!!
أسئلة
كثيرة دارت في ذهني وأنا أجول في صفحات المجموعة القصصية "بلد النوابغ" للأديب
محمـد
الحسناوي.
محمد الحسناوي من بلدة جسر الشغور بسورية، وهو من مواليد سنة 1938م، وحاصل على "الماجستير" في الأدب العربي من الجامعة اللبنانية، كتب في الشعر، والرواية، والقصة القصيرة، والدراسات الأدبية والنقدية.
و "بلد النوابغ" واحدة من أعماله الرائعة، وهي مجموعة قصصية فريدة، تقع في 162 صفحة من القطع الوسط، وتحتوي على سبع عشرة قصة قصيرة. أما فرادة المجموعة فلأنها نمط جديد من القصة القصيرة، فالكاتب يقرر ابتداءً أنها حدثت –أو معظمها- في مدينته أو بلدته "جسر الشغور" وترك للقارئ أن يستنتج وحده –وهنا بلا مشقة- شخصية "حامد عبد الواحد" التي تكررت في خمس عشرة قصة، ويقيناً أنها الشخصية صاحبة العين الناقدة في القصتين الأخيرتين "الحديقة المتوحشة" و "طريق ألف غصة" المكملتين للمجموعة، وإن لم يَردْ ذكر الاسم صراحة، وهذا ما يحمل القارئ على الاعتقاد بأن شخصية "حامد عبد الواحد" هي "محمد الحسناوي" نفسه، في طفولته وصباه وشبابه وكهولته.
قلتُ: إن المجموعة نمط جديد في القصة القصيرة، فبينما شخصية "حامد عبد الواحد" هي الشخصية المحورية التي تدور حولها أحداث المجموعة كلها، وهي الشخصية الحاضرة النامية في القصص كلها، إلا أن الشخوص الأخرى –المتغيرة المتبدلة- في كل قصة شخوص ثانوية تحتاجها الشخصية المحورية لتنمو نمواً طبيعياً في سياق السرد.
وهذا العمل –رغم تكرار شخصية حامد عبد الواحد- لا نستطيع أن نسميه رواية، ولم يسمه صاحبه بذلك –ولو شاء لجعلها رواية، وهو صاحب رواية "خطوات في الليل" التي كتبت عنها منذ سنوات.
وكما تكون في فمك قطعة من الحلوى لا تريد أن تنفد، مستحلباً ريقك لمزيد من الاستمتاع والنشوة، كنت أقرأ قصص هذه المجموعة، أقرأها قصة قصة، وأتوقف يوماً أو بعض يوم حتى أستمتع بالقصة وأعايش شخوصها، ثم أنتقل إلى التي تليها، وهكذا حتى أتيت عليها جميعاً، وأنا في نشوة غامرة.
وكما قلت، فالقصص قصص حقيقية لم يخترع الكاتب واحدة منها، فهي من الأدب الواقعي، إلا أن الإعجاب بالمجموعة وكاتبها يتملك مشاعرك للقدرة الفائقة في استبطان الكاتب لتلك المشاعر، رغم بعد المسافة بينه وبين طفولته، حتى تكاد تشعر بأنك تعيش في تلك الفترة التي تفصلك عنها أكثر من خمسين سنة، بزمانها ومكانها وناسها وملابسها وتعبيراتها وبساطتها.
وإذا أراد أي ناقد الكتابة عن هذه المجموعة الثرية، فيقيناً سيخرج عن حد الاعتدال إذا أراد أن يتناول كل قصة على حدة، وربما تجاوزت الصفحات عدد صفحات المجموعة نفسها، ولذا يقدم على عمله، وهو يقدّم الاعتذار سلفاً للكاتب والقراء جميعاً عن عجزه في تجلية الجوانب الرائعة في هذا العمل الفريد.
ففي قصة "طفل سعيد" يقدم الكاتب تعريفاً بشخصية الحاج عبد الواحد بائع العطور والتوابل والأصباغ مع السلع الممنوعة آنذاك، كورق الكتابة والسلاح، وتعجب أن يكون ورق الكتابة في زمن الاستعمار الفرنسي من الممنوعات، وفي خطورة السلاح. وهو –أي الكاتب- يرسي في هذه القصة القاعدة الأساسية لشخصية "حامد عبد الواحد" الذي يطل علينا فيها بطفولته وبراءته، مع تجلية الواقع الحياتي في ذلك الزمان الموغل في البعد (سنة 1944م).
وفي قصة "حياة جديدة" يطالعك "حامد عبد الواحد" وقد أصبح تلميذاً في الصف الخامس الابتدائي، وعدم استمتاع التلميذ "حامد عبد الواحد" بحصص التربية الإسلامية مع محبته لأستاذ المادة لأنه خطيب المسجد، ثم حدب أمه (وهي الزوجة القديمة لأبيه) عليه، مما اضطرها للذهاب إلى المدرسة للاطمئنان عليه عندما سمعت بحادث سيارة كاد أن يودي بحياته.
والحسناوي لا يكتفي بالسرد، بل يوظف موروثه الثقافي في تبليغ الفكر الذي يؤمن به، فالقصة قصة صبي يافع خرج مع زملائه من المدرسة إلى الشارع العام، فدعسته سيارة، ولكنه نجا بأعجوبة، فجعل هذه الحادثة منعطفاً إلى حياة جديدة تُبنى على الاستقامة، ولكن ثقل الحياة وتكاليفها تنسي المرء عهوده.
وفي قصة "حين تبصر الفطرة" نتعرف على "أم سالم" العجوز العمياء التي تمت بصلة قرابة ما لحامد عبد الواحد، الذي يزورهم بين الفينة والأخرى في سكناهم المتواضع، وبستانهم الصغير الذي يكفيهم عن ذل السؤال، وهذه العجوز دائمة السؤال عن الدول التي تصُفُّ معنا في معاركنا وصراعاتنا، وهو إيحاء بنور البصيرة التي يحجبها العمى، وكذلك العرب بإمكانهم أن يروا أبعد من حاضرهم ومحيطهم إن شاؤوا وحاولوا، بل هي دعوة من الكاتب لذلك!
وفي القصة الرابعة "هموم صغيرة" يوغل بنا الكاتب في صميم الحياة الاجتماعية، والصراع بين الزوجتين، وغلبة الجديدة على حياة الأسرة حتى إنها تكاد تُفرّق بين الأخ وأخيه، مع صورة للحمامات العامة التي تشتهر بها سورية، ويركز الكاتب على أثر الصراع بين الضرتين في تحديد مستقبل الأولاد عندما ترفض زوجة عبد الواحد الجديدة أن يكمل ابنه من ضرتها السابقة تعليمه، كما يوضح الموروث الاجتماعي الخاطئ في عدم تدريس البنات خوفاً من كتابتهن لرسائل الغرام.
بينما في القصة الخامسة "مملكة الليل" يوظف الكاتب أغنية مصرية بالعامية ليختصر المسافة في وصف معاناة الفقر الذي يحسّ به ويعانيه الحارس الليلي "أبو ديبو" ثم ما يتلو ذلك من الضعف البشري أمام إغواء الشيطان له بسرقة بعض المحال التجارية التي يحرسها، حتى يقع في شرك نصبه له الشيخ "هدايا" وهو يؤكد للقارئ بقاء عنصري الخير والشر يتصارعان في النفس البشرية إلى قيام الساعة.
أما في القصة السادسة "بلد النوابغ" التي عنون باسمها مجموعته القصصية، فهي واسطة العقد في المجموعة، بث فيها الحسناوي فلسفته في الحياة، رافضاً أن يكون النبوغ حكراً على القادة أو العلماء أو الأدباء أو المخترعين أو الرياضيين، وهم الصفوة التي يمجدها الإعلام ليلاً ونهاراً، بل النبوغ هبة من الله مشاع بين خلقه، فبائع "العرق سوس" وبائع العصير، وبائع الجرائد.. إلخ ما هنالك من المهن التي قد نعتبرها متدنية، يمكن أن يكون صاحبها عبقرياً نابغة، حسبه أمران لينال العبقرية والنبوغ: الإخلاص في العمل، والتطوير المستمر، وهذان أمران يجعلانه يَبُزُّ أقرانه ويتميز عليهم، ولعمر الله إنه لصادق. كما أن هذه المهن وأصحابها وما هو أقل منها أو منهم، نحن –بل المتميزون جميعاً- في حاجة ماسة إليها وإليهم، فهل نستطيع أن نستغني أو يستغني العظماء عن الكنّاس، والخباز، والحلاق، والسباك.. إلخ هذه المهن، لا والله، وقد صدق المعري إذ يقول:
الناسُ للناس من بدوٍ وحاضرةٍ بعضٌ لبعضٍ، وإنْ لم يشعروا خَدَم
وفي القصة السابعة "رسالة عطار" يوضح الكاتب النقلة النوعية التي أحدثها "عبد الواحد" في حياته عندما ترك مهنة أبيه وجدّه (البيطرة) لينتقل إلى حرفة العطارة، ثم صور ما يشاهده ويلاقيه العطار من صعاب في مهنته، لكن القصة لم تأت هنا اعتباطاً أو بغير تخطيط، بل تمهيد من الكاتب ليتمرد "حامد" على والده في اختيار مهنة مستقبله، فكما تمرد "عبد الواحد" على مهنة أبيه وجدّه، فلا غرابة أن برفض ابنه "حامد" حرفة العطارة لمستقبله، فهو شاعر بالغليان في أعماقه، هذا الغليان الذي يقوده إلى الفكر والأدب.
أما في قصته الثامنة "في انتظار فيصل" فرغم أنها تبدو فصلاً في حياة "حامد عبد الواحد" إلا أنها نقلة واضحة يأخذنا فيها الحسناوي إلى حقبة من تاريخ سورية، وهي فترة الاستعمار الفرنسي، الذي سبقه وعاصره وتبعه غليان شعبي ضد هذا الغازي المذِل، ثم تبرز أمامنا مجموعة من الأسماء لها طابع خاص يمثل جيل هذه الفترة، الفترة التي تفصل بين حاكم الأتراك والاستقلال الوطني، (أبو صفوات) و (صبحي عبد العال) و (الشيخ محمد ماردنلي).. فئة من كبار السن تعرف القراءة، وهي فئة قليلة على كل حال، لكن لها الحظوة والاحترام والتبجيل في نفوس أهل جسر الشغور.. ومع أن "حامد عبد الواحد" يعرّض بالملك فيصل لأنه ثار على الأتراك المسلمين، إلا أن الحسناوي يختم قصته بأن البلاء لا يأتينا إلا من الغرب، حتى (أبو صفوات) جاءته الضربة من الغرب، والتطور الذي حدث في البلدة إلى الأسوأ كان في ناحية الغرب وهكذا يزاوج الحسناوي بين حاضر محسوس، وغائب منظور يوجه إليه اتهامه.
وفي قصة "قبل أن يرحل الليل" يوظف في قصته أربعة شخوص فتتوهم أنهم شخوص مختلفون، ولكنهم في الحقيقة شخص واحد بأبعاد ومشاعر ومواقف مختلفة، يصف لحظة الرحيل من بلدته لإكمال دراسته في مدينة أكبر هي (اللاذقية) حيث المدرسة الثانوية.
الدراسة -فضلاً عن أنها حلمه المؤرق- إلا أنَّ حافزها -أو من حوافزها- انتشال أمه وأخيه وأختيه من حالة الذل التي تضعهم فيها زوجة الأب الغشوم، ثم ماذا عن القلب؟ أليس له نبض في مثل هذه السن؟ نعم!! إنه يقع في حب زميلته في الدراسة، ولكنه حب عفيف لا يخرج عن دائرة بث الآهات في مقالات وأشعار، لكن الخلفية الإيمانية تدفعه –وهو في السيارة التي تقله وهي محملة بأكياس القمح- إلى أن يقرأ سورة النمل، فيستشعر عظمة الخالق... ويبكي..
وفي القصة العاشرة "امرأة من استانبول" تطل علينا بعض موروثات ذلك العهد، حيث إن "استانبول" كانت عاصمة الخلافة، وفيها الخليفة والصدر الأعظم والعلم والتقدم والقوة والحضارة، فالزواج من إحدى بناتها مفخرة يتسابق إليها الناس، والشيخ محمد الشجري (مفتي جسر الشغور) واحد من هؤلاء، ولذا كان عرسها متميزاً، ولها هيبة في نفوس الناس، و "حامد عبد الواحد" على وجه الخصوص. حامد قد نجح في البكالوريا، ويستعد لدخول الجامعة التي ترفضها زوجة أبيه، ويستكين لرفضها والده، فتأتي "أم فارس" التركية أرملة الشيخ الشجري بقصة الشبح العجيبة لتعرض على "حامد" الزواج من ابنتها، وتؤيدها زوجة الأب. ومع أن العروس لا بأس بها، إلا أن "حامد" يعتبر العرض نوعاً من التمثيلية المحبوكة بين "أم فارس" وزوجة أبيه لصرفه عن حلمه في إكمال دراسته الجامعية.
وفي قصة "فاكهة السوق" يعرض لنا الحسناوي لوحة من سوق "جسر الشغور" وما يجري فيه، وهربه من هذا الجو الخانق إلى الريف، حيث يجد نفسه الشاعرة الحالمة هناك. ثم ينتقل بنا في لقطة مفاجئة إلى دمشق والمكتبة الظاهرية، والعودة إلى بيته سالكاً طريق "الحريقة" بعيداً عن ازدحام "سوق الحميدية".
ثم يعرض صورة بائع الصبر (التين الشوكي) ذلك الطفل الذي خدعه في عدد حبات التين الشوكي التي أكلها "حامد"، وشخصية "حامد" التي كبرت ونمت، وتحدّد مستقبلها الفكري والأدبي، ورغم تقبله الموقف على مضض، إلا أنه لا ينسى النصيحة لذلك الطفل (الصبي) الذي يجعل كسبه من حرام، قائماً على الغش والخداع، ويدهش لبلادة حسّه في عدم الاهتمام بالنصيحة، مما يدل على تعوّده على هذا النمط من الحياة.
أما في قصة "أيهما أجمل" فلقد عجبتُ لهذا التوافق العجيب بيني وبين الحسناوي، فلقد حدث معي الموقف نفسه، في المنطقة نفسها من دمشق، وربما قريباً من زمنها، وقد كتبت في ذلك قصتي "المتفضل" في مجموعتي القصصية الأولى "هناك طريقة أخرى" التي صدرت سنة 1988م، مع الفارق في أن بطل الحسناوي كان طفلاً صغيراً، وبطل قصتي كان شيخاً كبيراً، وخرج كلانا بأن الإحساس الذي تركه فينا هذا الموقف كان أعظم وأفضل وأحسن من النقود التي بذلناها، لذا كانوا هم المتفضلين علينا لا نحن!
وفي قصته "السيل والليل والموسيقى" يدرك القارئ من العنوان تأثر الحسناوي بالشاعر المتنبي صاحب "الخيل والليل والبيداء تعرفني" وليس مصادفة أن تكون أحداث القصة في "حلب" المتنبي وسيف الدولة الحمداني، وما أدراك ما حلب في نفوس الشعراء! "فجلسة حامد عبد الواحد" المدرس مع زميليه (راشد) و (خيري) أستاذي الفلسفة في المدرسة ذاتها، في شرفة منزل "حامد" وسماعهم للموسيقى القادمة من بعيد، وما تثيره في نفوسهم من تناغم مع الكون وسكون الليل، يدفعهم إلى الفلسفة، ومن ثم إلى تذكر ابن عطاء الله السكندري هذا الصوفي الفيلسوف صاحب "الحكم العطائية" وهي خلاصة فكر ذاب في وجد صوفي قربه إلى الله –رحمه الله رحمة واسعة- ثم نقله إلى الحسّ الخفي –أو ما نسميه بالحاسة السادسة، أو قل: الاستشعار عن بعد- الذي يدفع "حامد عبد الواحد" إذ وصل إلى اللاذقية في مهمة رسمية (رحلة عمل مع مجلة حضارة الإسلام) أن يذهب تحت إلحاح خفي إلى بلدته "جسر الشغور" فيجد أمه قد كُسرت رجلها، والسيل قد أحدث دماراً مروعاً في البلدة، مما كان له أثر في عودة بعض العصاة إلى جادة الصواب، ودفعهم إلى التقرب من الفقراء وإلى صلة الرحم.
وفي "ثقب الذاكرة" تبدأ إطلالة الكهولة في حياة "حامد عبد الواحد" وتنتقل الأحداث إلى العراق بعد حرب الخليج الثانية، وما أحدثه الحصار الظالم من تهتك في بنية النفس البشرية، مما دفع بعض الناس إلى السرقة، والسرقة بشكل فيه تحدٍ ساخر، حتى يكاد صاحب السيارة أن يساوم سارقها عليها أو على بعض أجزائها المرشحة للسرقة مقابل أن يدفع له مبلغاً مقابل تركها، وقصص أعجب من ذلك.. وفي ظل هذا الخوف والتحسب والترقب تختفي سيارة "حامد عبد الواحد" ولموجة السرقة الطاغية يتبادر إلى الأذهان أنها سرقت، وما أحدثه هذا الظن من همٍ وغم وتداعيات في نفس البطل، ثم يعثر عليها بعض أبنائه واقفة في مكانها، ليكتشف البطل أنه نسي أين وقفها؟! وهذه بداية لضعف الذاكرة في مثل هذه السن، فضلاً عن الهموم المبددة لطاقات الذاكرة أصلاً.
أما قصة "الإمبراطورة إيريني" فهي قصة المرأة الخائنة التي تعشق نفسها حد الهوس، وبالتالي تبحث عن ملذاتها أينما كانت، وكيفما كانت دون أن تعبأ بمن حولها، أو من لهم ارتباط وثيق بها، فها هي ذي "نجوى" تعشق زميلها في كلية التجارة "عبد الفتاح" وتتزوجه وتنجب منه ابنها "هلالاً" ثم تهرب مع صديقه "خليل" من سورية إلى العراق، وتعيش معه هناك بلا زواج ولا أوراق دخول رسمية، وتنجب له ثلاث بنات (بلقيس – شجرة الدر – والخنساء) ثم تهرب مع آخر بعد اعتقال زوجها (أو عشيقها وأبو بناتها) "خليل" فيخرج من المعتقل فلا يجدها، ولكنها تعيش في ذل مع الرجل الأخير، حيث يستغل هربها وعدم امتلاكها لأوراق رسمية ليزيد في إذلالها وابتزازها، فتحاصرها الإهانة والخيانة والشيخوخة، نموذج للمرأة الأنانية التي تتعلق بوهم التقليد، وفي وسم القصة بـ "الإمبراطورة إيريني" ما يشير إلى ذلك.
وفي قصة "حديقة متوحشة" نمط جديد للقصة القصيرة، حيث استخدم الكاتب أسلوب التداعيات، وأي تداعيات؟ إنها تداعيات ضمنها نصباً آخر، فصديقه "أبو كريم" مريض، و "أبو كريم" كاتب وناقد، وقد كتب دراسة عن روايته "خطوات في الليل" فهو يزور أبا كريم، ويدخل معه في نقاش، ولكنه بأسلوب الاسترجاع، فيعود إلى دراسته فينقل منها سطوراً، ثم يعاود الحديث عن الحاضر، ثم يعود إلى الدراسة فينقل منها سطوراً.. وهكذا في القصة كلها، ويتخلل ذلك إثارة هموم ثقافية عدة.
أما قصته الأخيرة "طريق ألف غصة" فهي مكرسة لأمرين: عاطفة الأبوة، والهم العام.
أما عاطفة الأبوة فتجلت في حدبه على ولده "أحمد" الذي أصيب بحادث سيارة فكسرت رجله مما استدعاه العودة العجلى من عمان إلى بغداد، وهو في إبراز هذه العاطفة يتذكر شغب "أحمد" ومواقفه التي كانت تزعجه سابقاً، لكنها اليوم من أحب الأشياء إليه!! وهي حالة نفسية يشعر بها كل أب، حيث ينسى كل الهموم والإساءات التي يسببها لهم الأبناء.
وأما الهم العام، فهو العمل الذي يضطره إلى كثرة السفر بين عمان وبغداد، وربما غيرها من العواصم، لكن الطريق بين عمان وبغداد غير آمن، ففي ظل الحصار والضنك الذي يعيشه الناس، أوجدت –هذه الظروف- عصابات من قطاع الطرق، عصابات لا تتورع عن القتل فضلاً عن النهب والسلب، وهاهو في عودته السريعة من عمان إلى بغداد (ألف كيلو متر تقريباً) تطارده سيارة خضراء مريبة، ويسيطر عليه ومن معه الخوف، إلى أن يصلوا إلى محطة الوقود، ويروا السيارة المطاردة لهم، لكن الحسناوي لا يختم قصته، بل يتركها مفتوحة لاحتمالات عدّة يتوقعها ذهن القارئ.. وبعد..
هذه مجموعة الحسناوي الجديدة، ولا أريد أن أتحدث عن بنيتها، ولا عن لغتها، ولا عن التحليل النفسي لشخوصها، ولا عن جوانب الإبداع الفني فيها –فقد طالت المقالة- وكل ذلك سيلحظه القارئ، وحسبي أن قدمت لها تلخيصاً يلقي الضوء عليها، ولو فعلت ما أتجنبه الآن لوقعت فيما حذرت منه في أول المقالة، وهو الطول الذي قد يفوق المجموعة نفسها.
بيدَ أنّ لي ملحظين على المجموعة: الأول: استخدام الحسناوي لألفاظ عامية، أو لثغات الطفولة، وأنا أجيز ذلك ولا أرى فيه غضاضة إن كان قليلاً وعلى لسان أصحابها، طالما له جذر في اللغة، فلا يُعقل أن أُنطق الرجل الأمي أو الطفل الصغير بالعربية الفصيحة بكل جزالة ألفاظها.
الثاني: تكرار بعض العبارات في بعض القصص، كما في قصة "ألف غصة" وقوله: "أحمد ولدي الله يشفيك ويحميك يا ولدي" وهذا عندي له ضرورة فنية لبيان مدى تأثر الأب وحدبه على ابنه مما يجعل القارئ يتعاطف معه، لا كما يدعي بعض النقاد الأكادميين والذين لا خبرة لهم بالإبداع، إن ذلك يسبب ضعفاً في العمل المرصود. إن التكرار الفني حين يجيء في مكانه يكون أحد قوانين علم الجمال السبعة، وقد رأينا منه صوراً باهرة في أسلوب القرآن الكريم، وهذا هو الفرق بين ناقد له إسهامات إبداعية، وناقد لا حظّ له في الإبداع الأدبي، فالأخير لا يعرف كيف يولد الكلمات، ولا مخاضها المؤلم، ولم يذق اللحظات الحالمة التي يكون فيها العقل –عند الإبداع- شبه مغيَّب، والكلمات تتناثر من شباة قلمه كأنه يوحي إليه بها، حتى إذا أفاق تملكه العجب: كيف أبدع ذلك؟ ويتملكه إحساس بالعجز أنه لن يقدر على مثلها مرة أخرى.