تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 82

تَعْليقاتٌ عَلى مُتونِ الْكُتُبِ الْعَرَبيَّةِ = 82

مَنْهَجٌ فِي التَّأْليفِ بَيْنَ كُتُبِ الْعِلْمِ وَبَيْنَ طُلّابِها ، بِوَصْلِ حَياتِهِمْ بِحَياتِها

[ تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ " أَسْرارُ الْبَلاغَةِ " لِعَبْدِ الْقاهِرِ الْجُرْجانيِّ ]

د. محمد جمال صقر

[email protected]

قالَ

قُلْتُ

هكَذا قَوْلُ أَبِي الْعَتاهِيَةِ :

تُسَرُّ إِذا نَظَرْتَ إِلى هِلالٍ وَنَقْصُكَ إِذْ نَظَرْتَ إِلَى الْهِلال

لَيْسَ الْمُنَكَّرُ غَيْرَ الْمُعَرَّفِ ، عَلى أَنَّ لِلْهِلالِ في هذَا التَّنْكيرِ فَضْلَ تَمَكُّنِ لَيْسَ لِلْقَمَرِ ؛ أَلا تَراهُ قَدْ جُمِعَ في قَوْلِه - تَعالى ! - : " يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ " ، وَلَمْ يُجْمَعِ الْقَمَرُ على هذَا الْحَدِّ !

ذاكرت أستاذنا في تخطيء كسرة نون " تَمَكُّنِ " ، المفردة ، وتصويب الكسرتين " تَمَكُّنٍ " ، فقال : لقد كانتا كسرتين ، ثم ذابت العليا في النون ، فقلت له : هي عندي كسرة واحدة ، فقال : الأخرى لاصقة بالنون ، لكنك لا تراها ؛ فعجبت له يثق في نظره كل الثقة ، دون نظري ، وبيننا ستون عاما !

إِذا كانَ الْأَمْرُ كَذلِكَ ( أن أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه أبدا ) عَلِمْتَ أَنَّ اللَّفْظَ بِالتَّشْبيهِ وَالْخُروجِ عَنْ صَريحِ جَعْلِ اللَّفْظِ لِلْحَقيقَةِ ( في قول الفرزدق :

أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي متى تخلف الجوزاء والدلو يمطر )

مُتَعَذِّرٌ عَلَيْكَ .

هكذا " الْخُروجِ " بالرفع ، وصوابه " الْخُروجَ " بالنصب ؛ فلا لفظ بخروج، بل الخروج معطوف على اللفظ عطف نتيجة على سبب .

حَصَلَ مِنْ هذَا الْبابِ ( ادعاء المجاز حقيقة في عقد التشبيه ) أَنَّ الِاسْمَ الْمُسْتَعارَ كُلَّما كانَ قَدَمُه أَثْبَتَ في مَكانِه ، وَكانَ مَوْضِعُه مِنَ الْكَلامِ أَضَنَّ بِه وَأَشَدَّ مُحاماةً عَلَيْهِ وَأَمْنَعَ لَكَ مِنْ أَنْ تَتْرُكَه وَتَرْجِعَ إِلَى الظّاهِرِ وَتُصَرِّحَ بِالتَّشْبيهِ - فَأَمْرُ التَّخْييلِ فيهِ أَقْوى ، وَدَعْوَى الْمُتَكَلِّمِ لَه أَظْهَرُ وَأَتَمُّ .

ذاكرت أستاذنا في تخطيء تذكير " كان " لـ" قدمه " وهي مؤنثة ، بقول الفيروزآبادي : " الْقَدَمُ مُحَرَكَةٌ (...) الرِّجْلُ - مُؤَنَّثَةٌ ، وَقَوْلُ الْجَوْهَريِّ : واحِدُ الْأَقْدامِ ، سَهْوٌ ، صَوابُه واحِدَةُ " ، وكأنه ذكر أن كلام الفيروزآبادي مردود عليه ، فقام إلى تاج العروس ، وفي أثناء ذلك ذكر أخي الحبيب الدكتور محمد أشرف مبروك ، جليسنا ، عن الفراء في المذكر والمؤنث أنها تذكر وتؤنث - فإذا القول ما ذكر أخونا ، بارك الله فيه !

ثم لكنني غفلت آنئذ أنا والمجلس جميعا ، عن أن الفعل يُذَكَّر أصلا لمثل هذا المؤنث المجازي جوازا ، إذا ارتفع به ، فأما إذا ارتفع به ضميره ، فإنه يؤنث ولا يذكر !

ثمت عامَلَ سيدنا " كُلَّما " معاملة أدوات الشرط وما هي منها ؛ فقَرَنَ بالفاء أَوَّلَ جملتها المؤخَّر " فَأَمْرُ التَّخْييلِ (...) " ! فكأنه لما طال ما بين طرفي التركيب ، حمله على المألوف فيه - إلا أن يقدَّر أصل جملتها محذوفًا ، و" أَمْرُ التَّخْييلِ " جملة تعليلية مستأنفة : " كُلَّما (...) تَمَكَّنَ (...) ؛ فَأَمْرُ التَّخْييلِ (...) " .

افْرِضْ هذِهِ الْمُوازَنَةَ فِي الشَّيْءِ الْواحِدِ ، كَالثَّوْبِ الْواحِدِ يُعارُهُ الرَّجُلُ ، فَيَلْبَسُه عَلى ثَوْبِه أَوْ مُنْفَرِدًا ، وَإِنَّمَا اعْتَبِرِ الْهَيْئَةَ ، وَهِيَ تَحْصُلُ بِمَجْموعِ أَشْياءَ .

كأنك - سيدنا - استعملت " إِنَّما " استعمال " لكِنْ " ، وقد كنا من قبل نَسْتَرِكُّه ونُرَكِّكُ

به !

أَمَّا الْقَضيَّةُ الصَّحيحَةُ وَما يَقَعُ في نَفْسِ الْعارِفِ ، وَيوجِبُه نَقْدُ الصَّيْرَفِ - فَإِنَّ الْأَسَدَ واقِعٌ عَلى حَقيقَتِه ، حَتّى كَأَنَّه قالَ : لا قَرارَ عَلى زَأْرِ هذَا الْأَسَدِ ، وَأَشارَ إِلَى الْأَسَدِ خارِجًا مِنْ عَرينِه مُهَدِّدًا موعِدًا بِزَئيرِه !

كسر سيدنا همزة " إِنَّ " من قبل ، في أول خبر المبتدأ ، ولم أتعوده وهو جائز ما دام هذا الخبر هو المبتدأ ، ولكنني ازداد قلقي هنا بكسرها في جواب " أَمّا " !

هذا كُلُّه في أَصْلِه وَمَغْزاهُ وَحَقيقَةِ مَعْناهُ ، تَشْبيهٌ ، وَلكِنْ كَنى لَكَ عَنْهُ ، وَخودِعْتَ فيهِ ، وَأُتيتَ بِه مِنْ طَريقِ الْخِلابَةِ في مَسْلَكِ السِّحْرِ وَمَذْهَبِ التَّخْييلِ ؛ فَصارَ لِذلِكَ غَريبَ الشَّكْلِ ، بَديعَ الْفَنِّ ، مَنيعَ الْجانِبِ لا يَدينُ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَأَبيَّ الْعِطْفِ لا يَدينُ بِه إِلّا لِلْمُرَوِّي الْمُجْتَهِدِ !

علق أستاذنا على " لا يَدينُ بِه " ، قوله : " الْأَجْوَدُ أَنْ يُقالَ : " وَأَبيَّ الْعِطْفِ لا يَلينُ بِه " ، أي رآه تصحيفا ؛ فذاكرته في ارتيابي ؛ فلم يرده ، ثم تبين لي الآن ألا تصحيف ، وأنه " لا يَدَيْنِ بِه إِلّا لِلْمُرَوِّي الْمُجْتَهِدِ " ، أي لا قدرة عليه إلا له ، كما في قول العرب : " لا يَدَيْ لِواحِدٍ بِعَشَرَةٍ " ، ولا سيما أنني قرأت مثله في كلام سيدنا ، والخطأ قرائي !

الِاحْتِفالُ وَالصَّنْعَةُ فِي التَّصْويراتِ الَّتي تَروقُ السّامِعينَ وَتَروعُهُمْ ، وَالتَّخْييلاتُ الَّتي تَهُزُّ الْمَمْدوحينَ وَتُحَرِّكُهُمْ ، وَتَفْعَلُ فِعْلًا شَبيهًا بِما يَقَعُ في نَفْسِ النّاظِرِ إِلَى التَّصاويرِ الَّتي يُشَكِّلُهَا الْحُذّاقُ بِالتَّخْطيطِ وَالنَّقْشِ أَوْ بِالنَّحْتِ وَالنَّقْرِ ؛ فَكَما أَنَّ تِلْكَ تُعْجِبُ ، وَتَخْلُِبُ ، وَتَروقُ ، وَتُؤْنِقُ ، وَتَدْخُلُ النَّفْسَ مِنْ مُشاهَدَتِها حالَةٌ غَريبَةٌ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ رُؤْيَتِها ، وَيَغْشاها ضَرْبٌ مِنَ الْفِتْنَةِ لا يُنْكَرُ مَكانُه ، وَلا يَخْفى شَأْنُه .

حذف سيدنا الفعل والفاعل وربما قدر معهما غيرهما : " (...) تفعل هذه " ، واكتفى بالجار والمجرور : " كما أن تلك (...) " ، على طريقة من البيان قرآنية عالية فاخرة !

مِنَ الْعَجيبِ في ذلِكَ ( صنعة الشعر الساحرة ) قَوْلُ الْقائِلِ في كَثيرِ بْنِ أَحْمَدَ :

لَوْ عَلِمَ اللّهُ فيهِ خَيْرًا ما قالَ لا خَيْرَ في كَثير

فَانْظُرْ مِنْ أَيِّ الْمَداخِلِ دَخَلَ عَلَيْهِ ، وَكَيْفَ بِالْهُوَيْنا هدَى الْبَلاءَ إِلَيْهِ ! وَكَثيرٌ هذا هُوَ الَّذي يَقولُ فيهِ الصّاحِبُ :

وَمِثْلُ كَثيرٍ فِي الزَّمانِ قَليل

فَقَدْ صارَ الِاسْمُ الْواحِدُ وَسيلَةً إِلَى الْهَدْمِ وَالْبِناءِ ، والْمَدْحِ وَالْهِجاءِ ، وَذريعَةً إِلَى التَّزْيينِ وَالتَّهْجينِ .

سبحان الله ! أين أنت - يا سيدنا - عن قولك آنفا : " وَالنَّفْسُ تَنْبو عَنْ زِيادَةِ الْقَوْلِ عَلَيْهِ (...) وَأَبْعَدُ ما يَكونُ الشّاعِرُ مِنَ التَّوْفيقِ إِذا دَعَتْهُ شَهْوَةُ الْإِغْرابِ إِلى أَنْ يَسْتَعيرَ لِلْهَزْلِ وَالْعَبَثِ مِنَ الْجِدِّ " ! أم تستجيز في الهجاء ما لا تستجيز في الغزل ! ولقد علق أستاذنا على ذلك قولَه : " اقْتِباسٌ سَيِّءٌ مِنْ آيَةِ سورَةِ النِّساءِ 114 : " لا خَيْرَ في كَثيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ " ، وَلا أَدْري كَيْفَ اسْتَساغَهُ الشَّيْخُ ، رَحِمَهُ اللّهُ " ! فذاكرتُه فيه ، ولا سيما أنه لم يكن يَرُدُّ تدريب العروضيين تلاميذهم بأجزاء الآيات الموزونة ، وكنتُ أستبشعه : أترد الاقتباس من القرآن ؟ فقال : لا ، ولكنه أساء بقطع " كَثيرٍ " ، عن " نَجْواهُمْ " ؛ فأفسد ، وهذا قبيح . عفا عنهما ، ورضي عنك ! وإن في مثل هذه الجرأة على كلام الحق - سبحانه ، وتعالى ! - من التضييع ما لا يخلو من سخرية - وإن لم تُقْصَدْ - تلتبس بالكُفْريّات ! ولقد سَرَتْ بين الناس هذا الزمان ، ملح خبيثة تخوض في أصول العقيدة ، ينبغي ألا يسكت عليها مدافعة ومخاصمة ومقاتلة ! ولقد شهدت أوائل تسعينيات القرن الميلادي العشرين ، ندوة مجلة روز اليوسف المصرية بشارع القصر العيني من القاهرة الفاخرة ، فسمعت جمال الغيطاني ، يتكلم ، ويُكْثِر ، حتى أَهْجَر ؛ فلم يكد يكمل كلمة جريئة على القرآن الكريم ، حتى زجره رجل لا يُعْرَفُ له قَدْرٌ ولا ذِكْرٌ ، قائلا : " أَنَا مَا اسْمَحْلَكْشْ " ! فازدجر جمال ، فغبطت الرجل أن لم أسبقه إلى هذه الغضبة الربانية !