البلبل والوردة

د. محمد دخيسي - وجدة المغرب

[email protected]

مقدمة

إن الحديث عن قضية " البلبل والوردة" من جانب مجانبة مادة الأدب المقارَن الذي يسهر في إحدى أدواره على تقصي المبادرات والتأثيرات التي تخضع لها بعض المضامين الفكرية واللغوية عند مجموعة من المبدعين، هذا الحديث تشوبه جملة من العثرات خاصة حين نكون أمام تعدد لسني ( من لغة لأخرى). لكن مع ذلك نحاول في إطار مضمون البلبل والوردة أن نستقبل بعضا من الآراء والاتجاهات غاية الوصول إلى نقط التشابه والاختلاف.

تتم - غالبا- دراسة هذه الأنواع من منطلق التأثير والتأثر، والمنحى ذاته لا يهمل أحقية المبدع بامتلاك نوع من الابتكارات سواء على مستوى اللفظ أم المعنى، بعكس ما نجد عند أحد الدارسين الذي يرى أن :" أكثر دراسات التأثير قد انحصرت عند التطبيق العملي في التقاليد والأعراف الأدبية: القوالب الشكلية للقصيدة أو المسرحية أو الرواية، الرموز الأسطورية أو التاريخية شكل المرئية أو الموضوعات (التيمات) وكل هذه العناصر قد أصبحت ملكية مشاعة لا يمكن نسبتها إلى كاتب معين، ومعها ينتفي الحكم بالتأثير والتأثر"((1 لأن هناك معان عقما لا يملكها إلا من أتى بها أولا.

لن ندخل في هذه التفاصيل لأنها تحمل من التشابكات ما يجرنا إلى مواضيع أخرى. ونقف الحين عند القضية الأساس لنقول أننا إزاء منحى من مناحي الرمز والأسطورة على السواء، مادامت القضية تكشف عن أولية الطبيعة في امتلاك العاطفة الإنسانية، ثم اعتراف التأريخ للتراث بهذا المجال حقيقة وخيالا.

1- البلبل / الوردة: الأصل والحقيقة.

جاء في قاموس الرموز Dictionnaire Des Symboles مجموعة تعاريف للوردة نذكر منها:

-الوردة رمز للجمال شكلا ورائحة.

-الوردة الكونية التي استخدمت مرجعا لجمال الإلهة الأم.

-رمز لكأس الحياة، الروح والقلب..

وغيرها من التنظيرات ، إلا أن اللافت للانتباه اعتبار الأسطورة عند المسلمين في هذا المجال استثناءً عند سعدي الشيرازي لأن حديقة الورود هي حديقة للتأمل والتمعن وهو القائل- حسب نفس المصدر-:" كنت سأقطف ورودا من الحديقة إلا أن عطر الورود أسكرني". كما أن الوردة لها صلة وثيقة بالدم وتظهر بمظهر الانبعاث الروحي في ميدان الحرب، والمكان الذي يموت فيه الأبطال تنمو فيه الورود وأزهار النسرين، والورود نمت في المكان الذي مات فيه أدونيس.

كما قارن عبد القادر جيلاني الندوب Les cicatrises بالورود ذات الطابع الروحي (الصوفي) ...

ويقول إنه عندما جرح أدونيس إلى حد الموت سارعت الإلهة إليه ووخزته بشوكة حيث تلونت الورود بدمه فكانت مقدسة..(2)

أما العندليب فهو الطائر المعروف بكمال صوته وجماله0 وقد رد جون كيتس John Keats بإعجاب إلى الكآبة التي يحدثها غناء العندليب.(3)

أما في المصادر العربية، فنصادف رأي الخليل الفراهيدي في كتابه "العين" حيث يقرن البلبل بأرض الحرَم.

من هذه المنطلق نبرز أهمية هذين اللفظتين باعتبار الترابط المعنوي (الدلالي) بينهما على أساس الحقيقة الدالة على الحب من طرف العندليب الولهان الشاذي ، والوردة المعشوقة الملطخة بدماء العاشق.

 2- ثنائية الحب والتضحية في الحكاية المروية.

عندما نطالع ما ورد في الحكاية/ السرد عند أوسكار وايلد Oskar Wilde نجد هذه العلاقة متميزة من حيث الدلالة العميقة والمتحولة، ذلك أن العندليب كان إزاء مهمة تضحية بحياته من أجل الطالب الذي أراد أن يقدم لمحبوبته التي ستحضر حفل الأمير وردة حمراء كي ترقص معه. لكن أين له هذه الوردة؟

إن تنقل العندليب بين الأشجار طلبا للوردة الحمراء جعله يقدم حياته رمزا لحياة الوردة الحمراء:" لما برز القمر في السماء حلق العندليب نحو الشجرة ووضع صدره على شوكة . في هذه الوضعية غنى طوال الليل حتى انحنى القمر البلوري البارد لينصب. غنى العندليب طوال الليل وكانت الشوكة تنغرس شيئا فشيئا في صدره حتى خرج منه دم الحياة.((4

إن الأصل في هذه الحكاية لا ينزع عنها سمة التحول والتغير نحو الطارئ الجديد، فالعندليب لا يضحي من أجل الطالب، وإنما هو الرمز الحقيقي:" للعاشق المتيم، و(الوردة) هي المعشوق العلوي. العندليب هو المريد والوردة هي الحقيقة المنشودة التي يكابد العاشق المريد من أجلها الأهوال، ويركب إليها طريق الجذبة ومسالك الأحوال."(5)

أما في (منطق الطير) لفريد الدين العطار، فيتوجه الاعتراف إلى عذر البلبل العاشق للصورة كما سماها الهدهد." قال له الهدهد : يا من تعلقت َ بالصورة، لا تتباه أكثر من ذلك بعشق الجميلة"((6 لكن البلبل لا يكفيه إلا عشق الوردة وإن صار الفقر صفته.

 3- تجلي القضية في الشعر: بين صفة الثبات والتحول.

عند بحثنا في القضية برز هذا ا لرمز بكثرة في الشعر المرتبط بالروح الخالصة، أي بالشعر الرؤيا/ الشعر التصوف. وعالمية هذا الرمز تجلى في مجموعة من الأشعار وقد صادفنا الحديث عن رومنسية الوردة Roman de La Rose في مقال حيث القول إن برنار Bernart De Ventadorn تمثل هذه الصورة:" في توزيع الموضوع وهي قصة حب رفيع على ثلاثة أصعدة .. بعد حرفي.. وبعد مجازي.. وبعد ثالث هو الأخلاقي. " ( 7)

وجنح الشعراء المتصوفة إلى الحديث عن هذا الشدو المرتبط بالطيور إذ:" لم يغفل ( محمود حسن إسماعيل) في ديوانه (أغاني الكوخ) حياة الطير، وتغريدها الذي يواري فيه تواجد الأرواح، وتناغمها في نشوة الطرب:

ونرى الصادح الطروب من الطي ر يناغي أليفه المتوجد.."

ونجد رمزية القصة عند شاعر الإسلام محمد إقبال في قصيدة " صدر الشاعر"

صدر الشاعر مجلى سر الحسن

تشرق من سينائه أنوار الحسن

.. ومن نفثاته تعلم البلبل التغريد

ومن خضاب دمه اشتعلت وجنة الوردة((8

ونجد حافظ الشيرازي وهو من قدماء المتعاملين مع الرمز:

تقول الوردة استسلم

وستبدأ العنادل(9)

الأستاذ بديع الزمان النورسي

ويتناول النورسي كما ذهب إلى ذلك د- حسن الأمراني،" في آخر المثنوي ، قصة العندليب والوردة فيشرح فلسفتها، ويجمع صورة الشعر وبهائه إلى دقة الحكمة وبيانها، فيقول:" إن العندليب المشهور بالعشق للورد يستخدمه فاطره الحكيم لإعلان المناسبة الشديدة بين طوائف النبات وقبائل الحيوان.." ( 10)

إن هذه الثنائية عممت عند بعض الشعراء فجعلوا منها عنوانا لقصيدة،ومثال ذلك نص البلبل والوردة لمعروف الرصافي الذي يقول في بعض أبياتها:

إن الـبلبل من نسيم iiالسحرْ
..صـادف  فيه وردة iiزاهرهْ
مـضمومة  أوراقها iiالناضرهْ
..ثـم تـمادى غردا iiصادحا
يـنـطـق بالحب لها iiبائحا




لما جرى في المربع iiالمُخمِل
والـطـل كاللؤلؤ فيها iiانتظم
مـثـل  فم يطلب تقبيل iiفتم
يـعـلـن  لـلوردة iiأشواقه
وهي التي تفعل إنطاقه( 11)

ثم يعلن في قصيدة ثانية "أغرودة العندليب" سر هذا الوله والعشق:

فـالـعيش عندي فوق iiالغصون
..وسـل  بشدوي زهر iiالرياض
فــكـم زهـور لـمـا أفـوه


لا  فـي قصور ولا في iiحصون
إنـي  بـحـكم الأزهار iiراض
أصغت وقالت لا فض فوه( 12)

إن هذه القصة قد تسربت كذلك للشعر المغربي عبر أحد رموزها الذين حفلوا بالرمز الصوفي، فالشاعر حسن الأمراني كان في صدارة المهتمين به، يقول في ديوانه (مملكة الرماد):

فلا تنكريني

ولا تعجبي من جنوني

فإن دمي الزهرة اليانعة

وروحك من دمي البلبل المنتظر( 13)

وفي ديوانه ( يا طائر الحرمين) من نص ( تاج محل) يقول:

إنني يا وردتي بلبلك العاشق غنى عند بابك(14)

أما في ديوان سآتيك بالسيف والأقحوان فيورد قصيدة ( الدخول إلى حدائق السندسية) حيث العنادل صفة للجمع باشتياقها وحنينها:

يضَوِّئُ صوتُكِ شوقَ العنادلْ

..يخبِّىءُ صوتك لي وردة من دم. ( 15)

وغير هذه النماذج كثيرة في شعره مع ذلك نقف عند قصيدة (عندليب الروح):

أنا  بلبل  في   الخافقين  مغرد          شفتاي  عن  قبس   النبوة  تغرد

..أنا عندليب الروح من  نغماته          ينهل قطر الطيبات ويسكب..( 16)

إذ اقتصر الشاعر على نعته نفسه بالعندليب إشارة إلى رمز الشهادة والجهاد في سبيل الأقصى.

 خاتمة:

 إذا كان من اللزوم الخروج بنتائج ملموسة من هذا المبحث ، فنقول إننا إزاء قضية واضحة المعالم، ما دام قد أرخ لها أصحابها بالشرح والتفسير، وتتبعها الشعراء بالتقفية والتحرير، ولامسها المتصوفة أصحاب التوحد والتقرير. من هذا كله نجد صفة البلبل والوردة قائمة بكل أسسها الحقيقية والأسطورية، لأن عشق الوردة عشق للصورة المثلى ، للعشق العلوي، ولأن لكل مخلوق عندليبه يتغنى به ويطوِّع ذاته لخدمته.

إن هذا الشيوع الذي لاحظناه في هذه القضية أعطانا فكرة عن درجة التأثير والتأثر لا من الأصل ( العقم) بل من خلال التأثير في المتلقي الذي ينتظر ويتوقع أفقا رحبا من خلال تجدد الدلالة، والتحول الدلالي هو الذي بعطي الجدية للقديم والمتداول:" من ثمة ، تمثل التأثيرات مظاهر الأعمال، على حين تهتم الدراسات الجيدة - ربما- بنجاح عمل ما، دون عمل آخر، بدل التوقف فقط عند حدود التأثيرات التي أصابتها، إذ يجب أخذ هذا العنصر الأخير بعين الاعتبار، حيث إن علينا أن لا نذهب فقط إلى مجرد الاقتصار على تقييم دور المسلسل فقط، على حساب دور المرسل إليه في التأثيرات." (17)

              

 الهوامش:

1- د- أحمد شوقي رضوان: مدخل إلى الأدب المقارن، دار العلوم العربية، بيروت، ط-1- 1990، ص- 119.

2- Dictionnaire Des Symboles: Jean Chevalier Et Alain Gheerbdant- Ed. Dobert..1982- Paris- P- 822.

3 - نفسه:ص- 826.

4- Oscar Wilde: The Nightingale And The rose، ت0 حسن الأمراني.

-5 د- حسن الأمراني: شعرية النص في المثنوي العربي النوري،المناهل، ع- 50، س- 21، مارس 1996، ص- 30.

6- فريد الدين العطار، منطق الطير، دراسة وترجمة د- بديع محمد جمعة، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1996،ص- 188.

7- محمد إسماعيل الموافي: الطوربادور00 والحب الرفيع،عالم الفكر، مج- 11، ع- 3، ( 12-11-10) 1980، ص- 133-132.

8- حسن الأمراني، المناهل ، (م- س)، ص- 31.

9- محمد زروقي: الخصوصيات الفنية والذهنية في شعر حسن الأمراني، مؤسسة النخلة، وجدة، 2002، ص- 91.

10- حسن الأمراني، المناهل، (م- س) ، ص- 32.

-11 ديوان معروف الروصافي: دار العودة بيروت،1986،ص- 671.

12- نفسه: ص- 675.

13- حسن الأمراني: مملكة الرماد، منشورات المشكاة، المطبعة المركزية، وجدة، K 1987، قصيدة الحزن، ص- 15.

14- حسن الأمراني: ديوان يا طائر الحرمين، ديوان المغرب الشرقي، منشورات كلية الآداب وجدة، 1995،ص- 45- 44.

15- حسن الأمراني: سآتيك بالسيف والأقحوان، مؤسسة الرسالة، ط- 1، 1996، ص- 44.

- قصيدة العندليب: حسن الأمراني، مجلة المشكاة، العددان37/36 ، 2001 ، ص- 140 ...

17 – سعيد علوش: مكونات الأدب المقارن في العالم العربي ، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، ط- 1، 1987 ، ص- 458