عدوان على اللغة العربية بالإعلانات
أ.د/
جابر قميحةاللغة العربية ــ لا أقول تمر بمحنة ــ ولكن أقول تعيش في محن ، وهي محن متشابكة متلاحقة ، في مجال التعليم ، ومجال التأليف ، ومجال الإعلام . حتى قادتنا الأشاوس ، من وزراء وغيرهم إذا خطبوا كانوا كراما فيما يصفعون به آذاننا من أخطاء قاتلة ، مع أنهم يسكنون أواخر الكلمات .
ونرى من عوامل العدوان ــ غير ما ذكرنا ــ مظاهر آخرى متعددة ، قد لا تثير انتباه الكثيرين ، ومنها : الإعلانات التلفازية .
ومما لا شك فيه ــ كما ذكر الدكتور ابراهيم إمام ــ أن الإعلان التلفازي حقق نجاحا هائلا ، وأصبح شغلا شاغلا للأطفال والشباب ، ولكن ذلك لم يكن على حساب الإعلانات الصحفية ، فهي تحظى بنصيب الأسد من مخصصات الإعلام ، أي قرابة ثلثي المخصصات في مصر ، وبنحو نصفها في البلاد الأوربية المتقدمة " .
ونلاحظ أن لغة الإعلانات في التلفاز المصري هي العامية المصرية غالبا ، ولكن هناك قلة قليلة من العربية الفصيحة .
ومن أهم التأثيرات اللغوية السيئة لهذه الإعلانات ــ وخصوصا التلفازية ــ ما يأتي :
1- الترويج للعاميات ، وخصوصا إذا كان الإعلان رفيع المستوى من الناحية الفنية .
2- الترويج للغات الأجنبية وخصوصا الإنجليزية بعرض بعض الإعلانات بهذه اللغة ، أو بتطعيم الإعلانات العربية بكلمات أجنبية .
3- الترويج للأخطاء اللغوية التى تجري على ألسنة شخصيات الإعلان ، إذا ما اعتمد الإعلان على التمثيل والحوار .
4- الترويج لعادات نطقية سيئة : كترقيق ما حقه التفخيم ، أو العكس ، ونطق الذال زينا ( هزا بدلا من هذا ) والصاد والثاء سينا ( سدقه بدلا من صدقه ) ، ( سم بدلا من ثم ) .
5- إفساد الذوق الأدبي واللغوي ، وذلك بتعمد استعمال قوالب غالطة ، أو غربية في الإعلان .
**********
ويؤكد التأثيرات السابقة ، وأكثر منها ما لمسته بنفسى ، من وقائع في محيط الأسرة والأبناء و المجتمع العام ، وأجتزئ هنا ببعض الأمثلة :
1- إعلان في التلفاز المصري عن أحد الأفلام يظهر فيه الممثل محمد رضا متلاعبا بالعربية والإنجليزية . وأذكر من عباراته :
أ- أنا مثلت أكتر من ميت فلم سلمائي ( بدلا من سينمائي ) ، وكان آخر فلم " جُــنْــدِنْ فِــنْــجَـــنْ ". وهو يقصد الفيلم الأمريكي المعروف "Golden Fingers " ــ الأصابع الذهبية ــ وأصبح الصغار في الشوارع يرددون دائما "جُــنْــدِنْ فِــنْــجَـــنْ " ، حتى إنهم أطلقوا هذه التسمسة على واحد منهم .
ب – في التلفاز المصري عُـرض ــ مئات المرات لعدة أشهر ــ إعلان عن مسرحية اسمها ( فارس بني خيبان ) ، زيادة على الإعلانات التى غصت بها الشوارع والميادين عن هذه المسرحية .
وقد أخبرني أحد أصدقائي المدرسين بالمرحلة الثانوية أنه طلب من طلابه ــ في تطبيق تحريري ــ استخدام صيغة ( فعلان في جملة ) . وفوجئ بأن قرابة 40% من الطلاب أجابوا بالاتي :
ـــ شاهدت فارس بني خيبان .
ــ نظرت إلى فارس بني خيبان .
ــ انتصر فارس بني خيبان .
ــ ما أجمل مسرحية فارس بني خيبان .
جـ - وإعلان أخر عن مسرحية باسم " بحبك يا مجرم " . وهي تسمية لا أخلاقية كما هو واضح . وقد حكى لي أحد أصدقائي أنه كان يداعب ابنه الصغير " عادل " فقال له : أنا أحبك يا عادل ، فأجاب الصغير على الفور " ونا بحبك يا مجرم " . وهي واقعة على بساطتها تدل على قدرة الإعلانات على السيطرة على عقول الصغار ، وخطرها على قيمنا الخلقية .
والسوأة ألثانية لهذا الإعلان أنه يروج للعامية ، التى تتسع لوضع الباء قبل الفعل المضارع للتدليل على الحال ، أو ديمومة الحال ، وأصبح الفعل " بحبك " ، بدلا من " أحبك ".
ومما يروج هذه الإعلانات ـ كما ذكرت أنفا ــ الإنفاق على صنعتها ببذخ شديد حتى تبدو في صورة جذابة ، تشد إليها المشاهدين ، وخصوصا الأطفال .
**********
وما عرضته آنفا يعد قليلا جدا من كثير جدا ؛ فما عرضته إنما سُـقـته على سبيل
" الانتقاء التمثيلي الدال" ، لا " الإحصاء التفصيلي الشامل " .