إشراقات كنعانية في شعر عز الدين المناصرة

د. عمر عبد الهادي عتيق

[email protected]

مشرف أكاديمي في جامعة القدس المفتوحة

فلسطين جنين

تسبح في الفضاء الكنعاني كوكبة من الدلالات الوجدانية التي تشكل مساحة من نسيج ثقافة الحب ، وكنعان في هذه المساحة عصارة رؤى وكتلة مشاعر ، ويمكن رصد الخلايا الدلالية الوجدانية في الفضاء الكنعاني على النحو الآتي :

كنعان رمز لانتصار الحياة على الموت

يوظف كنعانَ إطارا لحب الحياة ولديمومة العطاء في قوله :

الخير ينتظم البلاد : بلاد كنعان السخية

من بعد أعوام عجاف عادت إليك مزارع التفاح من فرح صبية ( ج 1 ص 9 )

ينطلق من هذه الأجواء الكنعانية التي تفيض حبا وخيرا وخصوبة لسرد مأساة فتاة ترمز لمأساة الوطن  ، ويمهد الشاعر لسرد القصة المأساوية  بظلال ساحرة فاتنة تقطر حبا وأنوثة وجمالا :

كانت على النبع الذي أحببته

بعصارة الحناء تصبغ وجهها تُسقى السلاف

وتنام حتى تحرق الشمس الصباحيةْ

خد البُنيّةْ .

وسرعان ما تنزلق حركة الأحداث الرمزية من ظلال السحر والحب إلى صحاري الموت والدموع :

تبكي على خل مضى

نسيته فاختطفته منها النائحات

يا حلوتي : جسد وفات

وفوق الأكف وفي النعوش العابرات

فلتعبر نحو ابتهاجات الحياة

و بهذا تصبح أرض كنعان السخية رمزا للتعالي على الجراح ، وتجسيدا لانتصار الحياة على الموت . وقد أبدع الشاعر في خلق مقاربة بين كنعان الأرض السخية التي ( تجاوزت ) محنة السنين العجاف من جهة  –    والتجاوز هنا  تفاؤل ينبع من مناهل الغد الآتي – والفتاة الباكية على خلها التي يدعوها إلى تجاوز محنتها والعبور نحو ابتهاجات الحياة .

 وخطاب الحب في هذا المقطع يقوم على حركة تحول من سياق المأساة والموت إلى سياق الحب وبهجة الحياة ، ويمكن تصور حركة التحول على النحو الآتي :

حركة التحول في مسار الحب والعطاء

أرض كنعان ( الوطن الجريح)                               الفتاة الباكية على خلها        

             |                       مقاربة                         |

انتصار على سنين العجاف                              العبور نحو ابتهاجات الحياة

التفاؤل بالغد الآتي  -- -----------> انتصار الحياة على الموت

ويبدو أن فلسفة حب الحياة التي تجلت في الإطار الكنعاني تشكل نبضا مسموعا في جسد الديوان ،فنبض حب الحياة يُسمع في دعوة الشاعر للتعالي على الجراح في قوله :

  دفنته اليوم صباحا

وضعت شجر الغار على حجر القبر .

ظهرا ،

كانت تتكحل ،

أو في أقصى الحالات – مع الفجر

لعريس ... واعدها قرب النهر !!! ( ج 1 ص 46 ، 47 )

يكشف هذا المقطع عن شفافية الرمز ، فالفتاة هي فلسطين التي ودعت شهيدا في باكورة الصباح ، وسرعان ما كفكفت دموعها واستعادت عافيتها ، لتستعد مع الفجر لزفاف شهيد جديد اجتاز النهر نحو فلسطين . فالفتاة ( الوطن ) هي ذات الفتاة في المقطع السابق ، إذ تبدو الفتاة في المقطع السابق في أبهى نضارتها  ، فالحناء يصبغ وجهها ، والسلاف يفيض منها نشوة ، والشمس تلوّح خديها . وفي هذا المقطع تودع شهيدها صباحا ، وتستعيد زينتها ظهرا ، وفي فجر اليوم التالي تنتظر زفاف شهيد جديد ،   وليس هذا التشابه أو التماثل تكرارا للصور السردية ، بل هو تأكيد على حب الحياة والتعلق بالمستقبل الآتي في الخطاب الشعري المناصري .

كنعان الموحد

يتجلى كنعان رمزا لوحدة جينات التراب العربي في قوله :

من خاصرة البحر الشرقي يكون الأردن

ومن البحر الغربي تكون فلسطين

مع هذا يلتقيان

يا هذا

ان نادانا كنعان ( ج 1 ص 164 )

يملك كنعان قدرات خارقة وسحرية ، تتجاوز مفردات الواقع السياسي ، وتترفع عن صورة التجزئة الكاريكاتورية . وعشق الشاعر لكنعان في هذا السياق ينبع من وعي قومي وحدوي يبحث عن مخلّص وموحّد فلا يجد إلا صوت كنعان الذي يدوّي في أعماق التاريخ بل يدوّي في أعماق الوجدان الفلسطيني .

كنعان الفارس المخلص :

وجهز لكنعان بيرقه بعد هذا الرقاد العتيق

ليشعل ألوانه الأربعة ( ج 1 ص 152- 153 )

كنعان فارس منتظر في زمن عزت فيه الفروسية ، فارس يجسد أمنية طال انتظارها ، يحقق فرحا وحبا لم ير النور بعد ... وتتردد هذه الدلالات في قوله :

يجيئك كنعان ملتحيا بالثلوج

يطير الحمام على كتفه ،

على فرس أشهب ، ليلة الاجتياح

وسبحته صدف تلحمي ... وجبته من حرير

قبيل صلاة رفيف الطيور

.....

يجيئك كنعان ، فابتهجي يا بلاد الندى وقلاع الغمام

عليك السلام ، عليك السلام ، عليك السلام ( ص 217 )

شخصية كنعان في هذه السطور منتزعة من  حكايات شعبية وجدانية ، نلمح فيها شخصية القديس سانت نيقولاس (بابا نويل ) بلحيته البيضاء رمز الحب والفرح الطفولي ، ثم تتحول الشخصية إلى داعية  ورمز سلام يطير الحمام على كتفه ، وسرعان ما تكتسي الشخصية لون الفروسية  وإذا بكنعان يمتطي فرسا أشهب ليلة الاجتياح ، ثم نراه من الأولياء يرتدي جبة وسبحته صدف تلحمي ....  وكنعان في كل هي التجليات هو شخصية منتظرة معشوقة تمثل قاسما مشتركا للوجدان الفلسطيني بعيدا عن الطائفية وهو ما حرص عليه الشاعر ، فالحب لا يقف على مفترق الأديان في سياق تحرر أرض كنعان .

كنعان الشهيد

مثل غسان كنفاني لا يكفيه اسم لامع أو نعت بلاغي ، لأن حضوره في الذاكرة الثقافية والمسرح الاجتماعي أكبر من اسم يُعرف به ، لذا جاء اختيار الشاعر اسم كنعان بديلا لغسان . وحب الشاعر لغسان كنفاني – وإن كان في سياق الرثاء – نافذة  رمزية تطل على حب كنعان (غسان ) للطبقة التي انتصر لها  في إبداعاته الأدبية ،( فهو حنين الحب لأحبابه الفقراء ) في قوله:

وما كان كنعان إلا حنين المحب لأحبابه الفقراء( ج 1 ص 416 – 417  )

وما كان إلا صهيل خيول الجزيرة تشتاق البحر

والبحر صار بعيدا وأهلك كنعانُ قد عُرضوا للشراء

وإذا كان لفظ ( كنعان) يختزل حب الشاعر المناصرة للأديب الشهيد غسان كنفاني فإن حب الأخير لقضيته ولأبناء شعبه يتجلى في مسارين ، الأول : حب الفقراء والقابعين في هامش الحياة . والثاني :  عشق الوطن وانتظار العودة . 

وقد توسل الشاعر لإبراز الإشعاعات الوجدانية لكنفاني بأسلوب لغوي وآخر فني ، فاللغوي فيتمثل بأسلوب الحصر بوساطة النفي والاستثناء (وما كان .. إلا ) وهو أسلوب يقصر سياق المحبة على المخاطب ( غسان ) ، وأما الفني فيتجسد بالإشراقات النفسية والوجدانية في قوله : ( حنين المحب لأحبابه الفقراء ) وبالصورة الصوتية الرمزية في قوله : ( صهيل خيول الجزيرة تشتاق البحر ) ، وهي صورة رمزية عنقودية تحوي كثافة عشق الوطن وانتظار العودة.

واللافت في السطر الأخير زفرات حارة لافحة مؤلمة يسوقها الشاعر للحبيب المرثي ، الغائب الحاضر ، وهي زفرات تخالف سياق الرثاء المعهود ، إذ من المتوقع في سياق الرثاء أن يمنح الشاعر ظلال الطمأنينة والسكينة لروح الشهيد من خلال التأكيد على ثبات القيم النضالية والتفاؤل بدنو فجر النصر والتحرر ، إلا أن الشاعر يعدل عن الخطاب الرثائي المألوف إلى خطاب المكاشفة المرة بأن العودة ( البحر ) مازالت بعيدة ، وأن الأهل ( الشعب الفلسطيني ) تتنازعه مشاريع التسوية والبيع والشراء ، ولعل العدول عن الخطاب المألوف يعود إلى أن غسان كنفاني لم يعد فردا ، بل أضحى في وعي الشاعر رمزا للجذر الكنعاني ، كما أن المكاشفة بين الأحبة من مقتضيات دفء العلاقة وصدقها . 

وتتوالى الدفقات الشعورية تجاه غسان الكنعاني في قوله :

وما زلت .. وما زلت خفقة أجنحة الشعراء الغضاب

وما زلت كنعان أرجوحة الميجنا  

 يبدو أن كثافة الشعور وتزاحم الصور قد قطعا انسيابية الاختيار لدى الشاعر فلجأ إلى القطع الكتابي ( وما زلت ... وما زلت ) ، ويشير هذا القطع أو الحذف ( ... ) إلى أن الصور والدلالات تتقافز في ذهنه إلى درجة يصعب فيها الاختيار ، وأزعم أن هذه الحال تنشأ حين يكون عشق المخاطب أكبر من أن تحيط به صورة أو تنهض به دلالة ، ولكن صورة واحدة استطاعت أن تختزل كثافة الشعور وتخترق ازدحام الصور وهي (خفقة أجنحة الشعراء الغضاب ) وهي صورة تعكس تلاقحا فكريا وتناغما روحيا بين غسان الكنعاني والشعراء الغضاب .

ويشكل السطر الأخير تكاملا موضوعيا وامتدادا وجدانيا ؛ فإذا كان غسان الكنعاني خفقة أجنحة الشعراء الغضاب فهو صوت الميجنا وصدى الأصالة وعبق التراث .

كنعان نشيد حب في المدارس :

أكرر كلمة كنعان ، أ... مو... طو.. ها

هكذا في الصف :

كا

ن

عا

ن

حتى اصدق أنها تخصني وحدي ( ص 115 )

كنعان حروف هجاء يتغنى بها تلميذ في مدرسة ، يتغنى بمقاطعها فتزهر في وجدانه عشقا أبديا ، وتتجذر في وعيه رمزا للحقوق الوطنية  . إن لجوء الشاعر إلى صورتين بصريتين في المستوى الكتابي لهذا المقطع يحول النشوة بالجذور الكنعانية الى مشهد كتابي لافت وهو من المثيرات الأسلوبية في المستوى الكتابي للخطاب الشعري الذي يعد عصبا نابضا في جسد الدلالة . ولا يخفى أن الشاعر يرمي إلى قصر الجذر الكنعاني على الفلسطينيين ، وبهذا يكون كنعان نشيد حب على  السنة الجيل الناشئ الذي تتشكل جيناته الفكرية والوجدانية من الحق التاريخي الكنعاني .

كنعان أنثى تتألق جمالا وسحرا :

سوزان البيضاء

مثل حصى الشاطئ

عيناها زرقاء

كالبحر الدافئ

.......

سوزان

غصن من شجرة كنعان ( ج 1 ص 197 )

يبدو أن السياق الوصفي للبحر لم يقو على النهوض بأنوثة ( سوزان ) على الرغم من خصوبة التشبيه في الصورة البحرية ، فعمد الشاعر إلى الثراء الدلالي للكنعنة ، فلا بياض الحصى ولا زرقة المياه ودفئها  قادرة على النهوض بمقومات الأنوثة والخصوبة ، ولكن غصنا واحدا من شجرة كنعان كفيل باحتواء إشراقات سوزان .