رثاء البنات في مرآة الشعر

يحيى بشير حاج يحيى

عضو رابطة أدباء الشام

ذاع في أدبنا العربي القديم قصائد رثاء الأولاد من الذكور ، فما تزال قصيدة أبي ذؤيب الهذلي تهز القلوب ، وتستدعي المواجع ! حتى جعلها بعضهم سلوى لأحزانه ؛ تروي كتب الأدب أن أبا جعفر المنصور قال لمن حوله ،وهم يعزونه في مصاب : أفيكم من يحفظ قصيدة أبي ذؤيب ؟ فسكتوا ، فتألم  وجعل مصيبته فيهم ألا يكون أحد يحفظ هذه القصيدة أشد عليه من مصيبته !!

أمن المنون وريبها تتوجع

والدهر ليس بمعتب من يجزع

أودي بني ، وأعقبوني غصة

بعد الرقاد وعبرة لا تقلع

سبقوا هوي ، وأعنقوا لهواهم

فتخرموا ، ولكل جنب مصرع

فغبرت بعدهم بعيش ناصب

وأخال أني لاحق مستتبع

 وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

 

كما يصور ابن الرومي عاطفة الأب المفجوع تصويرا يحرك الأسى في القلوب ، إذ يقول :

 توخى حمام الموت أوسط صبيتي

فلله كيف اختار واسطة العقد

وأولادنا مثل الجوارح ، أيها

فقدناه كان الفاجع البين الفقد

ثكلت سروري كله إذ ثكلته

إلا أننا لا نكاد نقع في أدبنا القديم على قصائد في رثاء البنات كما هو الحال في رثاء الذكور، و هي – إن وجدت – لا تبلغ درجة رثاء الذكور ! ولا تعدو أن تكون أمنيات بموتها ، حتى لا تلاقي الهوان بعد أبيها . أما في أدبنا الحديث فإن أوتارا كثيرة شدت إلى قيثارة الحزن ، فسمعنا قصائد تبدت منها العاطفة الأبوية في قواف دامعة ، وكلمات خاشعة ، فها هو ذا الشاعر ( عبد المعين الملوحي ) يصور لوعة الأم ، وجزع الأب .. يحاول أن يتجلد أمام زوجته وأن يخفف عنها بعد فقد ابنتهما (ورود) وبه من الأسى ما بها :

الليل أقبل ، والزقاق يغط في نوم عميق

وسهرت أرقب أمك الثكلى على حذر وضيق

وتلوب في الحجرات تهتف : يا ورود . ولا جواب

وتفتح الأبواب تسألها ، عسى يخفيك باب

وأظل أخدعها ، فإن نامت قتيل أسى وسهد

أقبلت أسترق الخطى ، وأهيم في الحجرات وحدي

وجعلت أبحث مثلما بحثت ، وأفعل فعل أمك

فلعلها نسيت – وقد ينسى العجول – مكان نومك

ويقدم الشاعر (خالد محمد الخنين) لموت ابنته فينثر كلماته دموعا : "إن موت الأبناء مثل موت النجوم ، وموت البجع الأبيض وموت الأسماك يخلع النفس ، ويطفئ قرص الشمس ، وما دام الموت يجرفنا هذا الجرف الجماعي ، ويقذفنا إلى الضفة الثانية دون أن يكون لدينا وقت للرفض أو الاحتجاج .. فليس أمامنا سوى الإيمان بمن وهب الحياة وقدر الموت ، ذلك هو الله سبحانه وتعالى".

وتأتي قصيدة الشاعر بعد موت ابنته المفاجئ لتعبر عن جرح عميق في نفسه ، وتكون الأبيات بعضا من التعبير عن مدى الأسى والألم :

أهديت للترب أحلى العمر أجمعه

فمن يعيد لي العمر الذي ذهبا

ما كنت أحسب أن الدهر يفجعني

حتى رأيت عليك القبر منتصبا

وماذا حال الأهل والدار والصديقات بعدها ؟

الدار بعدك لف الحزن ساحتها

والعام عام من الأحزان قد كتبا

تقول أختك ، والأحزان تعصفها

ألن نراها ؟! فكيف الشمل قد ثلبا

تبكي عليك صبايا الحي من وله

دوامعا من عيون خلتها سحبا

أين التي يسعد الأطفال بسمتها

أين التي ما علا صوت لها لجبا

ويدرك الشاعر محمود مفلح أن الموت ليس نهاية الأحياء ، ويدرك أن هذا الفقد له أجر كبير ! فإن الخلاق العليم الذي فطر قلوب الآباء على حب الأبناء يعلم أية رحمة أودع في القلوب ، وأية لوعة تكوي هذه القلوب عندما تذوي رياحينها ؟!روى الطبراني بإسناد جيد عن حبيبة أنها كانت عند عائشة – رضي الله عنها  فجاء النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى دخل عليها ، فقال : " ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث ( سن البلوغ) إلا جيء بهم يوم القيامة حتى يوقفوا على باب الجنة ،فيقال لهم : ادخلوا الجنة ،  فيقولون : حتى يدخل آباؤنا ، فيقال لهم : ادخلو الجنة أنتم وآباؤكم "

والموت- كما أسلفنا – عند الشاعر المؤمن ليس نهاية الأحياء يقول محمودى مفلح في قصيدته " نفحة من الخلود " وقد أهداها إلى روح طفلته ( أمامة ) :

لا تقولي : ماتت . فإن فتاتي

في جناب الرحمن ، في الغرفات

أنا لما وسدتها بيميني

فاح عطر الخلود في راحاتي

فانعمي (يا أمام) عند مليك

وأتمي تلاوة الآيات

تلك بوابة النعيم ، وهذا

مورد الخلد فاشربي يا قطاتي

ولا يغيب عن الشاعر وهو في غمرة الحزن ، ثواب الله تعالى الذي أعده للصابرين :

فغدا نلتقي فها هي تسقيني

                   فراتا في غمرة الغمرات

يوم يدنو من الرؤوس لهيب

                   ويضج  الأنام بالدعوات

ويود الإنسان لو يفتدي

                  النفس بزوج وصاحب وفتاة

يوم تجري إلي تحمل كأسا كوثريا

فيا لكأس نجاتي !!

                هاك : بابا : أحضن الوجه والكأ

س وأغفو في ظلها ساعات

ولنقف لحظات مع مشهد وفاة إحدى بنات النبي – صلى الله عليه وسلم – وحزنه عليها . فإن ذلك يجعلنا أكثر تساؤلا : لماذا خلا الأدب العربي القديم أو كاد من رثاء البنات ؟ والنبي –صلى الله عليه وسلم – ضرب المثل الأعلى للرأفة بالبنت والرحمة بها . وقد صورت الدكتورة بنت الشاطىء ، هذا المشهد ، إذ قالت :

" وجاء الأب الثاكل ، فدنا من ابنته الراقدة يودعها بادي الحزن والأسى ، ثم انثنى في رفق نحو ابنته (فاطمة) التي أكبت على مضجع أختها تبكي . فجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمسح دموعها بطرف ثوبه "

يقول أنس بن مالك – رضي الله عنه - : شهدنا دفن بنت رسول الله –صلى الله عليه وسلم – ورسول الله جالس على القبر ، ورأيت عينيه تدمعان .