السابحون في السماء
السابحون في السماء
للأديب الكبير عبد الله الطنطاوي
محمد علي شاهين*
د. عبد الله الطنطاوي |
منذ أن فتح الأدب الإسلامي المتجذّر في ثقافتنا صدره للفنون الأدبية الحديثة، برز عدد من الأدباء الإسلاميين في ميدان القصّة والرواية والمسرحيّة والمقالة والقصيدة الشعريّة والنقد الأدبي، في مقدمتهم الأديب الكبير عبد الله الطنطاوي، المعروف بإبداعاته القلميّة الفنيّة الراقية.
وتأتي مجموعته القصصيّة (السابحون في السماء) إضافة جديدة إلى الأدب العربي عامّة، وفن القصّة القصيرة خاصّة.
عبد الله الطنطاوي وتضم المجموعة أربعاً وعشرين قصّة قصيرة مبتكرة أو واقعيّة، مستوحاة من البيئة المحليّة، والشخصيّات الشعبيّة، أو من التراث الإسلامي الغني بهذا الفنن.
يشعر قارئ قصص الطنطاوي وهو يقلّب صفحات المجموعة، بصدق العاطفة، وسلامة المنهج، ودقّة التعبير بلغة فصيحة وكلمات منتقاة.
ويتلقى دروساً أخلاقيّة وتربويّة في الحب في الله، والإخاء، والأمانة، والإيثار، من خلال السرد الأدبي للقصّة، تلك الدروس التي افتقدناها في مناهجنا النظريّة، وحياتنا الاجتماعيّة.
وللمرأة في أدب الطنطاوي عامّة حضور لا يمكن إغفاله، لكنّها في هذه المجموعة تبدو أشد حضوراً، فهي التي تنجب الرجل الصالح من الزوج الأمين، وهي التي تأخذ بيد زوجها القاسي نحو الخير، وهي التي تأبى أكل المال الحرام فتكون وراء استقامة زوجها، وهي التي تعجب بأمانة شاب مسلم فتتزوّجه وتعلن إسلامها.
أمّا قصّة (السابحون في السماء) التي سميت المجموعة باسمها، فهي حوار بين زوجين تقيين حول حلم رآه بطل القصّة في منامه، حيث رأى فيما يراه النائم أنّه يسبح بين شهيدين في السماء، وما لبس الحلم أن تحقّق والتحق الزوج بقافلة الشهداء لتسبح روحه في الفردوس الأعلى.
تحن قصص الطنطاوي إلى الماضي بكل ما فيه من أصالة وصدق ووفاء، فيمجّد المواقف الحميدة ويحي ذكراها، ويبرز هذا الحنين في قصّة (هكذا أفهم الآية).
ويتحدث في قصّة أخرى عن الإبداع والمبدعين الذين يعيشون على هامش الحياة مغمورين، وكيف تنطلق طاقاتهم بقليل من كلمات التشجيع في قصّة (النظر الثاقب).
ويروي لنا قصّة نقل طفل يتيم موهوب من دكان الفوّال إلى المدرسة، حيث تفجّرت طاقات العطاء عند الصغير بسبب هذه النقلة، في قصّة (أجير الفوّال).
يستلهم الطنطاوي الدروس التربويّة من سيرة الإمام الشهيد في قالب قصصي جميل فيحدثنا عن نقلة التكروري من الضياع إلى الشهرة، ثم يفسّر سرّ هذا التحوّل على لسان التكروري: إنّها الكلمة الطيّبة التي أصرّ عليها الإمام، حتى قهر بها جهلي وتخلّفي وقلّة ذوقي.
والقصة القصيرة عند الطنطاوي ميدان فسيح للتعبير عن السيرة الذاتيّة، فكيف بها إذا كانت تتحدّث عن جدّته لأمّه التي يكنّ لها فضل تربيته وتوجيهه وهو طفل صغير، ثم يختم (جدّتي . .) فيرسم صورة حزينة لموكب وداعها فيقول: وعندما ماتت جدّتي رحمها الله، خرجت نساء البلدة لتشييعها وهنّ يبكين، والرجال أمامهن يحملون النعش في تأثّر، ولا يكادون يمسكون دموعهم.
وأجمل ما في المجموعة قصّتان الأولى: (لا يذهب العرف بين الله والناس) التي تمنيت أن تكون عنوان المجموعة، وإن كان العنوان الذي اختاره الكاتب أكثر جاذبيّة وسحراً، لأنّ قارئها لا يتمالك نفسه وهو يرويها حتى ينفجر باكياً، بسبب حشد المواقف الإنسانيّة الحميميّة بكثافة، وتوزيع المشاعر العاطفيّة بين ثنايا القصّة، وهذه سمة الأديب الإنسان، وروعة الأداء الفني ..
أمّا القصّة الثانية: (عرس في الشارقة) فهي قطعة من الأدب الرفيع في قالب قصصي جذّاب، تحكي قصّة ثلاثين عاماً من المشاعر الحبيسة لشاب وفتاة، كانا قد كتما حبّهما، التقيا صدفة، وقد شاب الزمان، فتقدمت الأرملة الجدّة على استحياء، كأنّها الفتاة العذراء ابنة السبعة عشر عاماً، وجمع الله الشتيتين، وزفّ العاشقان.
ولأدب الحريّة الذي أطلقوا عليه أدب السجون ـ بسبب تفشي ظاهرة سجن أهل الفكر والأدب ـ مكانة بارزة في قصص الأستاذ الطنطاوي، حتى أنّه يتخذ هذا الأدب مدخلاً للقصّة ففي قصّة (أخت الرجال) يتحدّث الرجل الثمانيني الذي انضمّ إلى الزنزانة الكبيرة عن حياة اليتم التي عاشها في كنف أمّه، وقد ألقوه جثّة مدماة، ثم أغلقوا الباب خلفهم وخرجوا كالوحوش الكاسرة.
ويختم مجموعته القصصيّة الرائعة بقصّة طريفة من أدب الحريّة بعنوان: (قم يا حسين) عرض فيها التناقضات العجيبة، والصور المخيفة لما يجري في سجون الأنظمة بأسلوب رشيق ووصف دقيق، وهذه ميّزة الأديب الطنطاوي الذي يملك مخزوناً كبيراً من الذكريات الحلوة والمرّة.
وهكذا تنساب القصص بين يدي القارئ كأنّها جدائل الحرير، وتذوب في الوجدان، كما تذوب قطع السكّر، الواحدة تلو الأخرى، فيشعر بالمتعة والفائدة.
صدرت المجموعة عن دار عمّار في مئة وخمسين صفحة من القطع العادي في غلاف جميل.