ذاكرة المكان في شعر يزيد بن معاوية
د. خالد سليمان الشريدة
هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الخليفة الأموي الثاني بعد أن استخلفه أبوه معاوية رضي الله عنه على ولاية عهده في حياته، وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن كنانة الكلبية، ولِد في الخلافة الراشدة في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة 26هـ/646م، وكان مولِده في بيت راس البلدة الشامية ذات الكروم الكثيرة في شمال مدينة إربد الأردنية وقيل كان مولِده في الماطرون الدمشقية، تكنى بأبي خالد في شبابه وسمّى بهذا ولده الثاني بعد ولده معاوية، ونشأ يزيد متنقلاً بين بادية الشام موطن أخواله بني كلب وبين قصر أبيه الخضراء في دمشق ، وسجلت أمه بشعرها عشقاً لتلك البادية في قصيدة مطلعها :
لبيت تخفق الأرواح فيه أحب إليّ من قصر منيفِ...
للمكان ذاكرة وذكرى في شعر يزيد بن معاوية لما له من أهمية في نظره، فهذا المكان متمكنٌ في أعماقه يؤثر ويتأثر به، فطالما أعطى المكان بجماليته عمقاً في شعر يزيد وأعطاه دلالة في التكيّف مع الآخر فنسب ليزيد نهره في دمشق، وتلك البادية حيث السهول والفيافي وحرية روحه في مهب رياحها فأخذ يزيد منها الفصاحة حتى لُقب بالأشدق، وقال الشعر ونظمه منذ نعومة أظفاره بتأثير البيئة المكانية الشامية في يومياته وأخذ مأخذاً مرابعاً في شعره حيث نظر يزيد إلى المكان بفساحته لا إلى ضيقه ورتابته كما هوعند البعض الآخر، فتأتي أهمية شعر يزيد بن معاوية لا بموقعه القيادي وإنما بذكره الأماكن وتأثيرها في كلماته وتميزه في صوره الشعرية، فإن كانت ذاكرة المكان تؤرقه أحياناً فتدخل إلى نفسه البهجة في أحيان أخرى وتجعله أكثر تصويرياً في صوره الأدبية المتألقة ونظمه الشعري، وبخصوص التناقض البيئي في حياة يزيد حيث القصر بالترف والرفاه، ثم البادية القاسية التي أخذت بيزيد مأخذاً إلى اللسان الأفصح وزيادة التحمل واستيعاب الآخر، فجالس يزيد شعراء عصره وأدبائه ومنهم الأخطل الشاعر التغلبي المشهور، ويوحنا الدمشقي أشهر رجال عصره فصاحة.
تنوع يزيد في أغراضه الشعرية وكانت وقفتنا هنا عند الأمكنة التي توقف بذكرها وذكر حالها وأحوالها، لنترك للباحثين استشراف محطات أخرى تستحق الدراسة في شعره، ففي حصن المرقب تلك القلعة الحصينة على الساحل الشامي قرب مدينة حمص وإن قيل هذا الشعر لمسلم بن جندب يقول يزيد:
طرقتك زينب والركاب مناخة بجنوب خبت والندى يتصببُ
بثنية العلمين وهنا بعد ما خفق السماك وجاوزته العقرب ُ
إني إهتديت ومن هداك وبيننا فلجٌ نقلة سنعج بالمرقبُ.....
وفي الماطرون والغور بالقرب من مدينة دمشق ذات المناظر الجميلة وقيل أن هذه الأبيات للأحوص تغزّل بنصرانية ترهبت بدير في بستان في ظاهر دمشق فيقول :
صار حتى أنني لا أرى أنه بالغور قد وقعا
ولها بالماطرون إذا أكل النمل الذي جمعا
خرفةٌ حتى ارتبعت سكنت من جلق بيعا
في قباب حول دسكرة بينها الزيتون قد ينعا
وفي القذقذونة ذلك الثغر الذي جمع بلداناً مثل المصيصة وطرطوس جنوب غرب خليج الإسكندرونة يقول يزيد :
فما أبالي الذي لاقت جيوشهم بالقذقذونة من حمى ومن مومِ
وفي دير سمعان أو دير مران على تل قرب حمص والطوانة البلد الواقع في ثغر المصيصة الكثير الضياع ذات المناخ الجميل والخيرات الوفيرة، وقد أرسله أبوه في غزوة الطوانة سنة 45هـ/664م لغزو الروم وكانت زوجته أم كلثوم بنت عبدالله ابن عامر ترافقه حيث أصاب الجيش وباء الجدري يقول يزيد بتكرار القافية في حال الأسى والمرض الذي أصاب القوم :
أهون عليّ بما لاقت جموعهم يوم الطوانة من حمى ومن مومِ
إذا إتكأت على الأنماط مرتفقاً بدير سمعان عندي أم كلثومِ
وفي قصيدة أخرى بصور شعرية مكانية نادرة يقول :
على شاطئ الوادي نظرت حمامة أطالت عليّ حسرتي والتندمِ
مدنية الألفاظ مكية الحشى هلالية العينين طائية الفمِ
والله لولا الله والخوف والرجا لعانقتها بين الحطيم وزمزمِ
وفي حوارين ذلك الحصن المنيع في إحدى القرى الحلبية حيث تزوج على زوجته أم مسكين بنت عمرو بن عاصم بأم هاشم وإن لم تناظرها في المكانة والمنزلة يقول يزيد :
مالك أم هاشم تبكين من قدر بكم تضجين
باعت على بيعك أم مسكين ميمونة من نسوة ميامين
زارتك من يثرب في حوارين في منزل كنت به تكونين
وفي بيوت أحد أحياء دمشق أنشد قائلاً:
وسرب من نساء بني عقيل وجدنني وراء بيوت الحي مرتجزاً أشدو
فسددن أخصاص البيوت بأعين حكت قضباً في كل قلب له غمدُ
ويقول :
تقول نساء الحي تطمع أن ترى محاسن ليلى مت بداء المطامعِ
فالقارئ في أبيات القصيدة يعايش القصيدة بذكر تلك الأمكنة وفي هذا قوة للقصيدة إن صحت نسبتها للخليفة يزيد بن معاوية، وأن لم يكن مثل هذا يصبح هذا المكان ليس بذي قيمة تذكر فيقول في خبر وفاة أبيه :
لما وردت وباب القصر منطبقٌ وصوت رملة هُد القلب فانصدعا
ويقول وقد خرج مودعاً جيشه المتوجه لإخضاع تمرد عبدالله بن الزبير في مكة :
أبلغ أبا بكر إذا الجيش انبرى وهبط القوم على وادي القرى
أجمع سكران من القوم ترى أم جمع يقظان نفى عنه الكرى
وفي حوارين تلك كانت وفاته سنة 64هـ/683م حيث يقول ابن عرادة السعدي :
أبني أمية إن آخر ملككم جُسد بحوارين ثَم مقيمُ
ويقول أبو بكر بن حنظلة بن عنزة في هذا :
يا أيها القبر في حوارينا ضممت خير الناس أجمعينا
ويقول الأخطل :
مقيم بحوارين ليس ببارح سقته الغوادي من ثوي ومن قبرِ
وبهذه الصور الشعرية المكانية دلالة للقارئ على مسار حياة يزيد ويومياته القتالية، ورباطه في ثغور كان له بها وقفات وتأملات لا للهو، وكأنه أصابه الملل وكلّ من طول المقاتلة مع القوى المحيطة، وبهذه الصور الشعرية بيان لعلاقة دار الإسلام بدار الحرب في الحقبة الأموية، ولا أدل على ذلك من بادرة على يديه غزوة بقيادته إلى القسطنطينية ومحاولة فتحها في حياة أبيه سنة 56هـ/675م وكان برفقته الصحابي أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد بن كليب الذي دفن عند أسوارها، فهدد ملك الروم بنبش قبره، فرد عليه يزيد وهدده بهدم كنائسهم في دار الإسلام إن هم نبشوا قبره فرجع صاحبهم عن تهديده وأقسم مغلظاً :" لا يحرسه سنة أحد غيري " وأصبح قبره هذ الصحابي مزاراً للروم يتبركون به، ثم ربما أعطتنا هذه الذاكرة المكانية في شعر يزيد تميزاً له عن غيره في كثير من المواقف والأغراض، كيف لا وقد كان على لسانه أشهر بيت شعري قيل في الوصف :
وأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت ورداً وعضت على العناب بالبردِ
المراجع:
الأصفهاني، أبو الفرج علي بن الحسين. الأغاني، دار إحياء التراث العربي، القاهرة (1963م).
البصري، صدر الدين علي بن أبي الفرج بن الحسن البصري. الحماسة البصرية، عالم الكتب، بيروت (1964م).
البغدادي، عبدالقادر بن عمر. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب ، تحقيق عبدالسلام هارون،الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة،ط2(1979م).
خالد سليمان الشريدة. حديث جديد في يزيد بن معاوية، دار عماد الدين للنشر والتوزيع،عما ن (2011م).
ابن خلكان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان. وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت(1972م).
صلاح الدين المنجد. شعر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، دار الكتاب الجديد، بيروت، ط1(1982م).
ابن طولون، محمد بن علي الدمشقي . قيد الشريد من أخبار يزيد، تحقيق محمد زينهم، محمد عزب، دار الصحوة للنشر، القاهرة، ط1(1986م) .
فريال بنت عبدالله بن محمود الهديب. صورة يزيد بن معاوية في الرواية الأدبية، دراسة نقدية، دار إحياء ، الرياض (1995م).
المبرد، أبو العباس محمد بن يزيد. الكامل، عارضه بأصوله وعلق عليه محمد أبو الفضل إبراهيم، دار تهضة مصر للطباعة والنشر، القاهرة (د.ت).
ياقوت الحموي. معجم البلدان، دار إحياء التراث العربي، بيروت (1979م).