القلم والريشة في متوالية "شذى المحبة" لنوران فؤاد
القلم والريشة في متوالية
"شذى المحبة" لنوران فؤاد
عبد الرحمن هاشم
نوران فؤاد صاحبة تجديد، فقد انتبهت إلى مناصفة عملها الأدبي مع الفنان خالد نصار، الذي أبدع من وحي قصصها، لوحات تشكيلية بعبق بلدته غزة العزة والثورة، ما أضفى على القصص، نكهة تغري المتلقي بتركيز الاهتمام، والوقوف على المعاني والدلالات.
إن بنية كتاب "شذى المحبة"، تؤطر لحكايات رومانسية، تعبر إذ تعبر، عن المرأة في همومها وأحزانها وأفراحها وثورتها، كما تعبر عن هموم المجتمع كله.
وإذا ما جودنا النظر في لوحات خالد نصار المصاحبة لنصوص المتوالية، اتضح لنا ثوريتها وتجريديتها، الملتحمة بالعديد من القصص، في انسجام وتكامل، وكأن اللوحة تكمل القصة أو أن القصة تستدعي اللوحة.
فاللوحة الخاصة بقصة "العيش الشمسي"، تخرج عن التجريدية إلى الواقعية، فتعبر عن المرأة، وهي تخبز هذا العيش في جنوب مصر، والواقعية في اللوحة تكشف عن عناء هذه المرأة، فتتدرج الخلفية من الفاتح إلى الغامق.
وألوان خالد نصار، مع رومانسية نوران فؤاد، تبدع لوحة مفعمة بالتألم والحزن، وكأنهما يحملان في صدريهما هماً وقلباً بائساً.
وأنت تجد الحفر العميق في بنية المشاعر الإنسانية، وهذا الغموض الذي تكتنفه لوحة خالد نصار في قصة "طقوس الشاي"، ما يعكس نفسية البطل، الذي يبحث عن حلمه، فلا يجده إلا في اليابان.
وفي قصة "إكتمال" تتحدث المؤلفة عن المعاناة اليومية للفنان الذي لا يجد من يعترف بفنه، فضلاً عمن يأخذ بيده، لإظهار هذا الفن وتقديمه للناس، لكنه في النهاية يستلهم روح الفنانيين التشكيليين الفرنسيين، ليعدلوا مزاجه الفني، فيكمل لوحته التي يأمل أن تباع وهو في أشد الاحتياج إلى المال، وتأتي الرؤية التشكيلية للفنان خالد نصار لتضفي بعداً انعزالياً عن المجتمع، يستقر في وجدان البطل الفنان.
أما غلاف الكتاب، بلوحته الرائعة التي تظهر فيها (العين)، التي هي أصدق ما يعبر عن مشاعر الإنسان، إن فرحاً وإن غضباً، يدلل على عبقرية الفنان خالد نصار، كما يدلل في الوقت نفسه، على التوفيق الذي حالف المبدعة نوران فؤاد، إن في اختيار عناوين قصص مجموعتها، وإن في اختيار الفنان المبدع الذي يعبر عن هذه القصص بفن تشكيلي صادق وجميل.
لا تكتفي نوران فؤاد بتعويض المرأة عن معاناتها المجتمعية بإعطائها دوراً سردياً مركزياً في متواليتها، بل تلفتنا، إلى أن المرأة المقهورة والمهمشة في المجتمع، هي نفسها المرأة التي يتغني بها المجتمع، بأنها رمانة ميزانه، مستدعية في ذلك، ماضينا وتراثنا الشعبي، مؤكدة في الوقت نفسه، احتياجنا إلى تلك الروح الطيبة التي كانت تجمع الأسرة الكبيرة على "الطبلية" في وجود الأم، في جو يغمره الدفء والحب والسعادة.
اختارت نوران فؤاد أسماء شخصيات متواليتها، بما يتوافق ويخدم النسيج الدرامي القصصي، ولم تترك إقليماً من أقاليم مصر إلا ومثلته بقصة أو قصتين، بأفكار فلسفية بسيطة، وبحشد مكثف، فجاءت مجموعتها مصورة لحياة بعض المصريين بروعة وحرفية.
فهذه البيوت المصرية، وما فيها من مد وجزر، وهدوء واشتعال، وهذه الأم المضحية بكل شيء من أجل سعادة أبنائها، لا تريد شيئاً سوى المودة والصلة، وهذه الأدوية والأعشاب العطرية التي ما زالت تستخدمها الأسرة المصرية في المناطق الشعبية حتى الآن.
صورت نوران كل ذلك، وفصلت في حرفة صناعة الفخار وأماكنها، وما تنتجه من أدوات المائدة والطعام، حتى يُخيل للقارىء أنه يجلس في هذه الأماكن ويستخدم هذه الأدوات.
ونوران بذلك ـ كما ألمحنا سابقاً ـ تواصل الحفر عميقاً في أسس بنية العلاقات الاجتماعية في المجتمع المصري، متخذة المكان مسرحاً لأحداث قصص مجموعتها، كشريان تجري دماء السرد فيه.
وشذى، أول مفردة في عنوان المتوالية، نحسب أنها عبارة عن مجموعة أطياف تتصل بالرائحة، وفيها ما فيها من الامتداد والنفع والوقع الرقيق على الأذن.
وفيها إيحاء بمجموعة من عطور متجانسة من العواطف والأحاسيس النبيلة نجدها من خلال مطالعتنا للمجموعة.
أما المحبة (المفردة الثانية، في العنوان) فهي تكسب اللفظ الأول (شذى) التعريف والتخصيص بمعنى أن الحب يشيع في أرجاء المجموعة كلها.
ومن حسن الطالع، أن يوضع اسم (نوران فؤاد) مع (شذى المحبة)، فالإسم نفسه الذي يدل على (النور) من ناحية، يقابله (الفؤاد)، الذي هو محل الحب والمشاعر والأحاسيس من ناحية أخرى.
وإذا كانت القصة القصيرة جدا، هي إيجاز، وإيحاء، ورمز، وتكثيف، وفيها استخدام لتقنيات الشعر في مشهد تصويري، فإن نوران فؤاد، ضمنت مجموعتها هذا اللون الأدبي، مستحضرة الجمل الموزونة، مثل: (الحقول البعيدة العنيدة، ومرفأ المياه الوفيرة) في قصة " وحدانية". كما أتت بالصورة الاستعارية، مثل تعبير "نوبات الفراق"، وجاءت بالمقابلة المزدوجة المعبرة عن موقف، مثل "هو سافر وهي بقيت". وأيضاً، التضاد، مثل "أضاء انطفاؤه".
وحماس المبدعة نوران فؤاد للثورة على الظلم والاستبداد، حماس ظاهر في قصة (من الشبه أربعين) وهي تقصد بها ـ على ما ظن ـ حادثة خالد سعيد، وهي ترسل من خلالها رسالة مفادها: "تيقينوا أن الشهيد يحيى ويرزق.. لا يموت".
وأستشعر من قصة (حالة خاصة( أن الكاتبة قد رأتها رأي العين، وإذا كانت قد كتبت )ضد الكسر(، تحية للفنان محمود مختار، كما أخبرتني بذلك، فإن في (البحر موج)، أفكاراً فلسفية تربط بين الفن والموسيقى كطريق لمواجهة الجهالة والتخلف.