المادحات الشواعر

عبد السلام البسيوني

حبائب رسول الله صلى الله عليه وسلم

عبد السلام البسيوني

مقدمة

اللهم صل على من علمنا الأدب كالرقة، وفهمنا أن العربية وعاء القرآن، ولسان الأمة الخالد إلى يوم الدين، من أوتي جوامع الكلم، وكان أفصح الناس لساننا، وأعلاهم بياناً، وأصدقهم لهجةً، وأحرصهم وأرحمهم بالعالمين، وبعد:

فهذا هو الجزء الثالث من كتابي (ملائح المدائح) المخصص لمدائح بعض الشواعر المعاصرات، اللواتي مدحن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، إعلاننا لحبهنَ، ومباهاة بانتسابهن لنهجه وسنته؛ بأبي هو وأمي وأهلي أجمعين.

وقد احتاج هذا الكتاب – على لطف حجمو - جهداً وصبراً وتنقيباً، عجزت معها أن أجد من الإبداع الشعري النسائي المعاصر نسبة ولو قريبة من الإبداع الشعري الرجالي، وعجزت أن أجد نسبة من الشواعر المتقنات كنسبة الرجال المتقنين..

وقد لفت نظري وجود مئات الشواعر (الإنترنتيات) إذا صح التعبير، اللواتي يسبغن على أنفسهن الألقاب الكبيرة والشاعرية، التي تهولك، وتشوقك للنظر في عطائهن، ثم لا تجد تحتهن قوقأة ولا (صوصوة) مع أنني في الوقت نفسه وجدت بعض الشواعر البارعات، اللواتي لا يمكن إلا الإشادة بشاعريتهن، وإبداعهن، وحسن تأتيهن، واقتدراهن الشعري اللافت، مع جزالة، وطول نفس، وبراعة تعبير وتصوير، وحسبك بأمينة المريني وثريا نبوي، ومروة حلاوة، ومي السبيعي، وغيرهن شاعرات قديرات متقنات..

والكتاب مرتب أبجدياً، حسب اسم الشاعرة، فأما جودة القصيدة فأترك لكم تقديرها، سائلاً الله تعالى لكل من كتب في رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يحرم شفاعته وقربه.. اللهم آمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك وأعز وأرضى نبيه وآله وصحبه وتابعيه إلى يوم الدين، اللهم آمين.

عبد السلام البسيوني

مدخل

يميل بعض الباحثين – مع استثناءات في ظني لا تلغي الرأي – إلى أن شعر النساء أضعف في جملته من شعر الرجال، وأن مقاصده عندهن محدودة معروفة، قاصرة على فنون معينة لا تعدوها غالباً..

يقول اللغوي العلامة مصطفى صادق الرافعي عليه رحمات الله ورضوانه:

)لا يهولك كثرة أسماء النساء اللاتي يقلن شعراً؛ فعمود الشعر عندهن الرثاء، ولم تبن منهن إلا الخنساء، وليلى الأخيلية، والعجيب أن الذين ألفوا في طبقات الشعراء لم يذكروا الشواعر معه، لا في الحجاز ولا الشام ولا العراك ولا مصر والمغرب والأندلس؛ إذ لا يكاد أن يعرف في التاريخ كله من تستحق اسم الشاعرة غير بضع نساء معدودات)!

وفي مقالة عن المرأة العربية والشعر، كتبها السيد: شاكر فريد حسن يعمق رأي الرافعي رحمه الله؛ ذاهباً إلى أن المرأة تختلف عن الرجل بشدة المشاعر، ورهافة الحس، ورقة العاطفة، وعمق الاختلاجات، التي تؤثر في سلوكها البوحي.

وهي ضعيفة، كثيرة البكاء والعويل، وشديدة الحزن والكآبة؛ إذا فجعت بفقدان حبيب أو قريب، وتحرص دائماً أن تكون قريبة من أهلها وأحبائها، ولهذا نجدها صادقة في التعبير عن خلجات قلبها، وما تلاقيه من صنوف العذاب، كالألم الإنساني، والمعاناة الحياتية، أكثر من الرجل.

ويلحظ كذلك أن غالبية القصائد التي تكتبها وتنتجها المرأة (المعاصرة) متحررة من القيود والأوزان، ولا تخضع لبحور الخليل بن أحمد الفراهيدي، لأنها تريد لقصيدتها أن تكون حرة، طليقة، دون التقيد بالوزن والقافية والتفعيلة، وتريد لكلماتها - الصادرة من الأعماق وسويداء القلب ورحم المعاناة- الانسياب على الورقة كما هي!

وخلاصة القول، أن القصيدة التي تكتبها المرأة العربية هي ومضات ونبضات آتية من الحلم والواقع، ومشحونة بالحزن والألم والنقمة على المجتمع، وتتفجر حباً للإنسان العاشق المحب والوفي، الذي يصون الوعد والعهد، وتلون حياتنا بالصدق والموقف الإنساني المتفهم لمشاعرها، والداعم لها في كفاحها من أجل تحررها الاجتماعي.

وفي محاكاة للانتصاف للنساء – وليتها لم تفعل - كتبت أستاذة اللغة والشاعرة والأكاديمية السعودية الدكتورة أشجان هندي تحت عنوان (قصر القصائد المعاصرة وضعف عقول الشاعرات):

.. ولعل من الطريف ملاحظة أن قصائد الشاعرات - بصفة عامة - قد تميزت بقصرها نسبياً! وقد يكون في ذلك ما يعزز ما ذكرته الناقدة رشيدة بن مسعود، من أن معظم الشاعرات العربيات - باستثناء الخنساء - كتبن القصائد القصيرة عبر كل عصور الأدب العربي؛ فالخنساء نفسها – مثلاً- كانت تكتب قصائد قصيرة لا تتعدى بيتين أو ثلاثة حتى توفي أخوها، فأصبحت تكتب المرثيات، وطالت قصائدها.

وقد لفتت بن مسعود الانتباه إلى أن بعض النقاد والدارسين قد حكموا على شعر الشاعرات بقساوة؛ حين أطلقوا أحكاماً غير منصفة بحقهن؛ حيث رأى هؤلاء النقاد أن الشعراء الرجال يميلون إلى كتابة القصائد الطويلة، التي تعكس مهاراتهم الفنية؛ لأن طريقتهم في التفكير أكثر نضجاً، ولأنهم يكتبون من غير تسرع! وفي المقابل فإن الشاعرات يملن إلى كتابة القصائد القصيرة؛ ما يعكس ضعف عقولهن، ومحدودية مهاراتهن الأدبية، وتسرعهن في الكتابة..

ولكن – والكلام لا يزال للدكتورة أشجان - إن سلمنا بقصر القصائد التي تكتبها الشاعرات المعاصرات اليوم؛ فماذا عن القصائد الأخرى التي يكتبها الشعراء، والتي يصل طولها أحياناً إلى سطر واحد؟ هل نستطيع القول حينها إن هذا دليل على ضعف عقولهم، وعدم نضجهم، وقلة مهاراتهم الأدبية فضلاً عن تسرعهم في الكتابة؟! أم أن العصر الذم نعيشه بأنفاسه المتلاحقة، وعجلته التي تسير بسرعة مذهلة قد أسهم - مع عوامل أخرى - في الاقتصاد في طول القصيدة لدى الطرفين: شاعرات وشعراء؟ أ.ه.

والحقيقة أنني لا أدري هل هي تنصف الشواعر بكلامها هذا – وهي الباحثة الأكاديمية - أن تصمهن!؟ ولقد لاحظنا في هذا الكتاب ندرة الشواعر طويلات النفس كنازك الملائكة وثريا نبوي، وقصر نفس معظم من كتبن، ومحدودية عطائهن..

وظني أن الحال بدأ يختلف قليلاً، مع الشواعر المعاصرات؛ فإن منهن شواعر عديدات كتبن كثيراً عن هموم الأمة، وواجهن بعطائهن الشعري القهر والظلم واستبداد الحكام، وحملن مشاعر التنوير، وخرجن عن السياق التاريخي للشعر النسائي؛ على قلة في أولئكن، مع وفرة عجيبة من المتشاعرات، اللواتي يسبغن على أنفسهن الألقاب الباذخة؛ مع سهولة التسلل إلى الإستوديوهات التلفزيونية والإذاعية، والمنتديات، وأعمدة الصحف، وإقامة المواقع الشخصية التي تؤسس فيها المتشاعرة مساحتها التشاعرية الخاصة، وتتكلم كأنها أشعر أهل زمانها، ثم يخيب ظنك حين لا تجد لها تعابير بليغة، ولا صوراً جميلة، ولا طروحاً أصيلة، وإنما هي جمل ملحونة، ورمزيات خالتها أبلغ مما كتبت الخنساء والأخيلية، وما أبدع المتنبي وشوقي، وما صاغ نزار والبردوني!

وأول امرأة مدحت سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم - فيما أعلم – هي السيدة الشماء، أو الشيماء حذافة بنت الحارث السعدية؛ وإن نسب شيء من الشعر أراه منحولاً، للسيدة آمنة بنت وهب، أم سيدي المصطفى، صلى الله عليه وسلم..

جاء في الاستيعاب لابن عبد البر عنها رضي الله عنها: أخت سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وهي بنت حليمة السعدية، رضي الله عنهما، قال ابن إسحق:

"يقال لها الشيماء؛ غلب عليها ذلك، فلا تعرف في قومها إلا به".

وذكروا أن الشيماء كانت تحضن النبي صلى الله عليه وسلم مع أمها إذا كان عندهم، وكانت ترقصه صلى الله عليه وسلم وهو صغير، مرددة:

يا رب أبق لنا محمد           حتى أراه يافعاً وأمردا

ثم أراه سيداً مسود           واكبت أعاديه معاً والحسدا

وأعطه عزاً يدم أبداً

وقد مدحه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه من النساء الصحابيات كثيرات، منهن السيدة أروى بنت عبد المطلب، عمّته صلى الله عليه وسلم، التي رثته صلى الله عليه وسلم بأبيات منها:

ألا يا رسول الله كنت رجاءن           وكنت بنا برّاً ولم تك جافيا

وكنت بنا روفاً رحيماً نبين           ليبك عليك اليوم مَن كان باكيا

أفاطم صلّى الله ربّ محمد           على جدث أمسى بيثرب ثاويا

أرى حسناً قد أيتمته وتركته           يبكي ويدعو جدهُ اليوم نائيا

فدى لرسول الله أُمّي وخالتي           وعمّي ونفسي قصرة ثم خاليا

صبرت وبلّغت الرسالة صادق           وقد مت صلب الدين أبلج صافيا

فلو أنّ ربّ الناس أبقاك بينن           سعدنا ولكن أمرنا كان ماضيا

عليك من الله السلام تحية           وأدخلت جنات من العدن راضيا

 

وقالت أيضاً ترثي النبيٌ صلى الله عليه وآله وسلم:

يا عينُ جُودي بدمعٍ منكِ مُنحَدِرِ           ولا تَمُلِّي.. وابكِي سيِّد البَشَرِ

اِبكِي الرَّسُولَ فقد هَدَّت مُصيبتُهُ           جَميعَ قومي وأهل البَدْوِ والحَضَرِ

وَلا تَمُلِّي بُكاكِ الدَّهر مُعوِلَةً           عليه ما غرَّد القمري في السَّحَرِ

ورثته صلى الله عليه وسلم كذلك السيدة عاتكة بنت عبدالمطلب عمَّته صلى الله عليه وسلم، ومن شعرها:

عينــي جــودا طوال الدهر وانهمر           سكبا وسحا بدمـــع غيـــر تعـــذير

يا عين فاسحنفري بالدمع واحتفلي           حتى الممات بسجل غير منزور

يا عين فانهملي بالدمع واجتهدي           للمصطفى دون خلق الله بالنور

بمستهل من الشؤبوب ذي سيل           فقد رزئت نبي العدل والخير

وكنت من حذر للموت مشفقة           وللذي خط من تلك المقادير

من فقد أزهر ضافي الخلق ذي فخر           صاف من العيب والعاهات والزور

وممن رثين رسول الله صلى الله عليه وسلم السيدة أم أيمن، بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن الحبشية، وكانت لعبدالله بن عبدالمطلب، وصارت للنبي صلى الله عليه وسلم ميراثا، وهي أم سيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنهم، قالت:

عين جودي فإن بذلك للدمع           شفاء فأكثري من البكاء

حين قالوا الرسول أمسى فقيد           ميتاً كان ذاك كل البلاء

وابكيا خير من رزئناه في الدني           ومن خصه بوحي السماء

بدموع غزيرة منك حتى           قضي الله فيك خير القضاء

فلقد كان ما علمت وصول           ولقد جاء رحمة بالضياء

ولقد كان بعد ذلك نور            وسراجاً يضيء في الظلماء

طيب العود والضريبة والمعدن           والخيم خاتم الأنبياء

ومدحه من السابقات كثيرات من الشواعر، ومن أشهرهن عائشة الباعونية المتصوفة (1460- 1516) التي كتبت في المدائح خاصة: فتح المبين في مدح الأمين، والمورد الأهنى في المولد الأسنى، وفيض الفضل..

ولست معنياً في هذا العمل بالمدائح القديمة، فثمَّ من كتب عنها، لكن احتفالي هنا بالمادحات المعاصرات، أسأل الله تعالى أن يبارك في كل من كتبت، أو نظمت، أو أبدعت شعراً فيه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله تعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.