ناصر الدين الأسد.. منصف الشعر الجاهلي

الراحل الدكتور ناصر الدين الأسد، رجل التعليم والبحث والتراث، اجتمع على تكريمه، مساء الثلاثاء 16 يونيه الجاري، منتدى التراث بمعهد المخطوطات العربية، والموسم الثقافي لمعهد البحوث والدراسات العربية، بمقر الأخير بالقاهرة.

وقال مدير معهد المخطوطات العربية د. فيصل الحفان إن ناصر الدين الأسد، الذي ألقى دروسه في معهد البحوث والدراسات العربية، وكان عضوا للمجلس الاستشاري لمعهد المخطوطات في الكويت، في الثمانينيات من القرن الماضي، ألزم المعهدين بواجبهما تجاهه بعد الرحيل، فكانت هذه الندوة، وهذا النشاط المشترك.

وأضاف: هذا هو المشترك الشكلي، إنما المشترك الموضوعي، مشترك كبير، فالرجل؛ رجل تراث، ورجل بحث، في آن واحد.

رجل تراث، أعطى جزءا كبيرا من اهتمامه للمخطوطات، ولإحياء التراث، وخاصة التراث الشعري، ورجل بحث، درس وكتب في مجال الدرس الأدبي، أحيانا ارتبط بالجغرافيا، وأحياناً كان مطلقاً، لكن في جميع الأحوال هو شخصية جامعة، استطاعت أن تكون جسراً، على حد تعبير أحد الباحثين، جسراً بين العصور من جهة، وبين التخصصات من جهة أخرى.

نشأ في البادية، وما عرف المدينة إلا بعد أن أصبح يافعاً، ومن حسن حظه أن أول مدينة رآها، كانت القدس، فاجتمع له سمو الروح، واستقامة الفكر، وسمو المقدس.

وقال د. الحفيان إن بعضهم قال نريد أن نؤبن.. ولم أكن ميالاً إلى التأبين، فالتأبين احتفالية حزينة، نحن نريد أن ندور في فلك الأفكار التي كان ناصر الدين الأسد يعنى بها.

وعندما وضعت هذا العنوان: "مشروع فرد.. مشروع أمة"، وأنا زاهد أبدا في قضايا التعظيم، تعظيم الأشخاص بخاصة، لكن أردت أن أقول من هذا العنوان: إن تلك القضايا التي شغل بها ناصر الدين الأسد، هي نفسها القضايا التي انشغلت بها الأمة في القرن الماضي..قضايا تطوير التعليم وإشكاليات اللغة وغيرها.

 ولأن الشخص ناصر الدين الأسد، لنقل إنه صعب المراس، صعب على أن نحتويه، أردنا أن نجعل المحاور مفتوحة، فلم نخصص لكل اسم من القامات الكبيرة التي تتحدث عنه، فكرة أو موضوعاً معينا، بل نريد أن يكون الكلام كلاماً منفتحاً، يأخذ من كل فكرة طرفاً كما يقولون.

إذن، هذا هو الموسم الثاني للمنتدى التراثي لمعهد المخطوطات، والموسم الثقافي لمعهد البحوث، التقيا على هذه الشخصية، وقد راعينا أن نختار الأساتذة الذين شرفونا، كل منهم له صلة بجانب من شخصية الدكتور ناصر الدين الأسد.

وبدوره، قال د. صلاح فضل: أشكر للدكتور فيصل الحفيان هذه المبادرة الكريمة التي سعى فيها إلى أن يكون أول من يكرم اسم ناصر الدين الأسد عقب رحيله بأيام قليلة.

هذا الحفل التكريمي، وليس التأبيني، إنما هو فرصة حقيقية لكي نتأمل مسيرة مفكر من جيل المؤسسين، هذا الجيل الذي درس مراحله الأولى في أقطاره العربية المختلفة، ثم جاء إلى القاهرة في الخمسينيات من القرن الماضي حيث كانت جامعتها هي جامعة فؤاد الأول التي تحولت إلى جامعة القاهرة، بعد ثورة 1952م، هي الجامعة العربية الوحيدة في المنطقة العربية.

جاء ناصر الدين الأسد مزوداً بالبكالوريا من كلية القدس العربية وعمره 19 سنة عام 1941م، وميزة هذه البكالوريا أن التدريس بها كان باللغة الإنجليزية.

وكان شباب العرب الأردني والفلسطيني والشامي عموماً يدرسون بكلية القدس المرحلة الثانوية، ثم ينطلقون إما إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، وإما إلى جامعة القاهرة.

هذا التأسيس في اللغة الإنجليزية، سنجده بعد ذلك، بالغ الأثر في شخصية ناصر الدين الأسد، لأنه عندما جاء إلى القاهرة ودخل كلية الآداب، وتتلمذ على شيخه وأستاذه، وشيخنا وأستاذنا د. شوقي ضيف، حتى حصل على الليسانس الممتازة عام 1947م.

وكعادة شوقي ضيف، احتضنه وسط مجموعة من رفاقه أذكر منهم حسين عباس، ووجهه لدراسة الماجستير عن "القيان في الجاهلية" قبل الإسلام.

كتب بعد ذلك شوقي ضيف عن القيان في العصر العباسي، وكان مشروعه أن تلاميذه يبدأون أبحاثهم بتوجيهه، وهو يكمل لهم الحلقة، متى شاء.

في هذه الأثناء، تعرف ناصر الدين الأسد على الأستاذ محمود شاكر، وسمعت أنه أعد رسالته للدكتوراه في بيت محمود شاكر، وكانت في صلبها، رداً على كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، وعندما سألت الدكتور ناصر الدين الأسد، بعد أن تزاملنا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، عن سر الجفوة التي نشأت بينه وبين أستاذه محمود شاكر، أبهم الجواب، وكنت قد سألت من قبل الأستاذ محمود شاكر نفسه عام      1962 فشتمني، فتوقعت أن ناصر شعر بأنه ما كان ينبغي له أن يقف هذا الموقف من طه حسين، ولاحظت كذلك أنه في كل العروض التي يقدمها لكتابه يذكر أنه لم يكن يقصد الرد على طه حسين.

 في الخمسينيات عمل الدكتور ناصر الأسد مديراً للإدارة الثقافية بالجامعة العربية، وهو المكان الذي كان يشغله د. طه حسين، وربما ارتبط بشيء من الود مع طه حسين، وخالف في هذا شيخه، وأستاذه، فغضب عليه.

هذا توقعي، ولا أعرف إن كان صحيحاً أم لا، لكني بدأت بالحديث عنه مؤسساً، فبعد أن عمل في جامعة الدول العربية، في الإدارة الثقافية، ثم عمل في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم حتى أصبح مديراً لها وهو في سن باكر من شبابه، عاد إلى عمان وأسس كلية الآداب وعمل عميداً لها، ثم امتد تأسيسه ليؤسس الجامعة الأردنية ذاتها.

هذا الجهد، قاده بطبيعة الحال، إلى أن يكون رائداً من رواد التعليم العالي في المملكة الأردنية الهاشمية، ووصل إلى أن أصبح وزيراً للتعليم العالي في المملكة من عام 1985 حتى 1989م.

ثم أسس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية، ومؤسسة آل البيت، وجامعة الإسراء، ورأس مجلس أمناء جامعة عبد المجيد شومان.

وأعود إلى رسالته للدكتوراه "مصادر الشعر الجاهلي"، لأنها لها خواص تجعلها من الكتب الفريدة المتميزة التي تبقى في الذاكرة.

كان همّ ناصر الدين الأسد في مصادر الشعر الجاهلي، تحقيق عدة غايات علمية، في غاية الأصالة، والقوة، والوضوح:

ـ إثبات التراث الحضاري العربي قبل الإسلام.

ـ إثبات صحة الروايات الموثقة للشعر الجاهلي في مجمله.

ـ القيام بالتحقيق العلمي الرصين للبراهين التاريخية التي اعتمد عليها.

ـ استبعاد الدين، أو استخدامه، في الحجاج العلمي الثقافي.

واستمر ناصر الدين الأسد في علاقته بالتراث على النحو التالي:

أصدر تحقيقاً لديوان قيس بن الخطيب، وتحقيقاً لديوان شعر الحادرة، وكتب الاتجاهات الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن، وكتب عن الشعر الحديث في فلسطين والأردن، وكتب بحثاً عن محمد روح الخالدي "رائد البحث التاريخي الحديث في فلسطين"، كما كتب بحثاً عن قصص كامل الكيلاني للأطفال.

وألقى في المجمع اللغوي عدداً ضخماً من الأبحاث منها: معاجم ومعجمات، نواد أدبية، وديان وأودية، حماس وحماسة، البلقاء في كتب الجغرافيا، معاجمنا اللغوية بين التراث والمعاصرة.

وأوضح د. صلاح فضل، أن ناصر الدين الأسد قد أصل لنشأة الفكر العلمي في التراث العربي الإسلامي، وأثبت أن الأساس الذي يعتمد عليه الفكر العلمي العربي الإسلامي، هو ما يطلق عليه "النصوص التربوية"، وهي النصوص التي تحث على العلم في القرآن الكريم والسنة النبوية. 

إذن الدين عند ناصر الدين الأسد هو المنطلق المؤسس للوعي والمعرفة العلمية، بالغة الأهمية، وأن هذه النصوص التربوية، تقود إلى ما يطلق عليه، تعقل سنن الكون وتدبرها.

وتصدى ليصدر حكماً، أخالفه فيه، حيث يقول: "هذا التقديس الديني الأصيل للفكر العلمي العربي الإسلامي، هو الذي حمى الثقافة العربية الإسلامية، من أن تذوب في الثقافات الأخرى، وأعطى لها طابعها المميز، وجعلها عندما قامت بالترجمة بعد ذلك في مراحل متأخرة، تحتفظ بشخصيتها كاملة ولا تذوب في الثقافات السريانية، واليونانية، والثقافات القديمة، التي نقلت إليها".

وهذا يعني، أن الدكتور ناصر الأسد بوضوح شديد يعزو القوام الصلب للثقافة العربية، إلى أنه ارتكز على المرتكز الديني في الدرجة الأولى، مما جعل هذه الثقافة العلمية العربية، تتميز بصفائها، وخلوها من المؤثرات الأجنبية.

طبعاً، هذه المقولة حولها جدل كبير، وهناك من يثبت أن الثقافة الفقهية ذاتها، تأثرت في مراحل كثيرة بالعلوم المنطقية، والعلوم الفلسفية، وأن الثقافة العربية، من نحو، وصرف، وبلاغة، وكل علوم العربية، لم تخل من هذ التأثيرات، ولم تكن نشأتها عربية بحتة.

وهذا القول بالنشأة الدينية للثقافة العربية الإسلامية، يجعلني أقول إن الدكتور ناصر الأسد بالرغم من بعده قليلاً عن خط الشيخ محمود شاكر، ظل أميناً له، فأجد في ناصر الدين الأسد عرقاً سلفياً أصيلاً، هو الذي بقي لديه من محمود شاكر.

أضف إلى ذلك، أن الدكتور ناصر الأسد يرى أن العرب هم الذين اخترعوا مفهوم العلم لديهم، وأنا أحسب أن الأمر لم يكن بهذا الصفاء والوضوح، لأن مفهوم العلم كان انسانياً، استقاه العرب، ونموه، وأضافوا إليه، لكنه لم يكن مفهوماً عربياً بحتاً.

اشترك د. ناصر في تأسيس معظم الجوائز العربية الكبرى، ودل ذلك على بروزه في الصف الأول بين المثقفين العرب، فهو قد أسهم في صناعة السلطة الثقافية والأدبية في الوطن العربي، وهو الذي قطف ثمارها الأولى، تكريماً، واعتزازاً مستحقاً.

كان بعيداً عن كل التيارات اليسارية، لكنه كان يتقبل الحداثة، بصدر رحب، مما يدل على أن وعيه الفكري كان وعياً حداثياً حقيقياً.

عشق اللغة العربية، وتحمس حماساً شديداً لمستواها الفصيح، ومع ذلك تسامح مع كل اللهجات العربية، بكونها تنويعات لا تحط من شأن العربية الفصحى.

وأشار د. صلاح فضل إلى أن الكاريزما الشخصية والحضور الثقافي والتأثير الحقيقي في كل الأوساط التي تحرك فيها الدكتور ناصر الأسد ضمنت له مكانة في القلوب "وأرجو أن نتوارث هذه المكانة لدى الأجيال القادمة".

وهناك أشخاص يصنعون مدارس واتجاهات ورجال، أكثر مما يخلفون من أوراق وكتب، وهكذا كان ناصر الدين الأسد.

وتحدث الدكتور محمد أبو موسى، أحد تلامذة الشيخ محمود شاكر، كيف أن أهل الجاهلية القدماء، قبل ظهور الإسلام بزمان، يذكرون أنهم إذا غاب منهم كوكب ظهر فيهم كوكب، لأنهم لا يقبلون أن تغيب نجومهم، ولا يقبلون أن تغيب نوابغهم.

وأكد العلامة أبو موسى أن شخصية ناصر الدين الأسد، شخصية مولعة بالقراءة، مولعة بمساءلة الكتب، ظهر ذلك في رسالتيه عن الشعر الجاهلي، في القناء والغناء، وفي مصادر الشعر الجاهلي، ومن توفيق الله له أنه عاش مولعاً بهذا الأصل الثقافي لثقافة هذه الأمة، وهو الشعر الجاهلي.

 ليس له آراء فيما كتب، بل كشف المخبأ في الكتب التي بين أيدينا، فأذهلنا بما كشف، وأذهلنا بما أزاح من غيم، وضباب.

صبر، وجاهد، وقرأ النصوص وفسرها، وحللها، بل قرأ الكتاب المطول ليستخرج منه نصاً واحداً، وربما قرأه ولم يجد فيه شيئا.

اعتنى بالشعر الجاهلي مبكراً، كما اعتنى شيخه الأستاذ محمود شاكر، فكان مولعاً بحفظ الشعر الجاهلي، وكان يجد في نفسه للشعر الجاهلي أثراً لم يجده لشعر العصور التي تلته.

والشعر الجاهلي، علم قوم لا علم عندهم سواه، ثم داخل العلوم الإسلامية فصار أساساً في فهم التفسير، والحديث، والنحو، بل عول عليه علم النحو، وهو مصدر من أهم مصادر الثقافة العربية، وأجمع العلماء على أنه ليس عندنا بيان بعد كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أعلى من الشعر الجاهلي، وأن معجزة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يعتمد في إدراكها على هذا الشعر الجاهلي.

لقد جعل الله تعالى عجز هذا الجيل حجة على الأجيال من بعدهم، ولو كان سبحانه يعلم أن جيلاً من الأجيال سيكون أفضل من هذا الجيل لما تحداه هذا التحدي، في قوله تعالى في سورة هود "أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إلاه إلا هو فهل أنتم مسلمون"، هود:13 ـ 14.

تميز الطالب ناصر الدين الأسد، بأنه لم يعتقد تفوق الشعر الجاهلي بناء على ما قاله العلماء، ولا على ما أجمعت عليه الأمة، لم يعول على ذلك، وإنما عول على ذائقته البيانية، وأنه كان يجد لهذا الشعر ما لم يجده في شعر العصور التي تلته.

ولقد صدم ناصر الدين الأسد، كما صدم شيخه الأستاذ محمود شاكر من قبل، بكتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، ورغم حب ناصر لطه حسين ، فإن إحقاق الحق عند هذا الجيل كان لا مجاملة فيه.

ومات ناصر الدين الأسد وهو مقر بحب طه حسين وأستاذيته، وطه نفسه قد تخلص قبل أن يموت من هذه الشوائب، وكأنه رمى كتابين من أتفه ما كتب، وهما "في الشعر الجاهلي" و "مستقبل الثقافة".

ولقد رثا شاكر طه حسين بعد موته رثاءاً حميماً، ويتذكره وهو يمسك بيده عقب الخروج من المنتدى يشاركان فيه، ويمازحه ويقول له: إلى متى ستظل صعيدياً.

وأكد الدكتور محمد أبو موسى أن ناصر الدين الأسد فسر الاعتقاد بأن العرب أمة أمية بمعنى "لا كتاب لهم"، كما قال ابن عباس: "لم يصدقوا رسولاً أرسله الله، ولا كتاباً أنزله الله، ويكتبون الكتاب بأيديهم، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله"، لكن بعضنا يكتفي بما يكتبه البعض، وينقل ما يكتبه البعض، دون الرجوع للمصادر الأصلية، والبحث فيها.

استخرج ناصر الدين الأسد من كتب العلماء، التي بين أيدينا، أن القراءة كانت شائعة في الجيل الذي نزل فيه القرآن، واستخرج أن الكتابة كانت شائعة في العرب قبل ظهور الإسلام بثلاثة قرون، وأن القول بأن الشعر الجاهلي شعر عاش على الشفاهية، ليس بالقول الصحيح، لأن رواة الشعر الذين أخذنا عنهم الشعر الجاهلي كانوا يروون من كتب يقرأونها، بل كانوا يقرأون دواوين الشعراء من الكتب على شيوخهم، وأن الكتب كانت تملأ بيوتهم.

ولذا فإن كتابه "مصادر الشعر الجاهلي" لا ينازعه كتاب، وأوصي الأجيال بقراءته.

وإذن فجاهلية هذا المجتمع الذي ظهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاهلية دين، وليس جاهلية أخلاق، وناصر الدين الأسد أعاد اكتشاف العصر الجاهلي ورجاله الذين فتحوا الفتوحات، والذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية".

ومن ناحيته، قال د. خالد زيارة سفير لبنان بالقاهرة، إن ناصر الدين الأسد ولد عام 1922م، وبدأ حياته العلمية، مع إعلان المملكة الأردنية الهاشمية، فكان هو الوجه الأدبي والتربوي للأردن، وإذا كان قد تقلد في مناصب عديدة، منها السفارة والوزارة، فإنه كان على الدوام الرجل التربوي، مدرساً وأستاذاً وعميدا.

هو واحد من تلامذة النهضويين العرب، بل إنه من الجيل الذي أكمل مسيرة النهضويين الرواد، وقد آمن رواد النهضة أمثال الطهطاوي ومحمد عبده وعلي مبارك، بالتربية، ليس باعتبارها وسيلة للتعلم، وإنما باعتبارها وسيلة لترقية المجتمع، وأداة للنهضة والإصلاح.

لكن ما خلفه ناصر الدين الأسد من فكر نحتاج إليه اليوم.. نحتاج إلى اهتمامه باللغة العربية التي فقدنا الاهتمام بها، ونحتاج إلى مفهومه للحداثة، ومفهومه للعروبة، فقد قال عن مفهوم القومية إنه مفهوم مستورد غريب، وقال إن العروبة نقيض ذلك، فالعروبة ليست عرقاً، وإنما هي ثقافة، وعليه، فليست العروبة في مقابل الإسلام، وإنما هي هو.

أما الدكتور حسن الشافعي، رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فعبر عن ألمه وحزنه لفراق ناصر الدين الأسد، وأحمد شفيق الخطيب، مؤكداً أنهما "أسهما طوال عقود في خدمة مجمع اللغة بالقاهرة".

وقال الشافعي إن البطل الحقيقي في حياة الرجل هو الكتاب والمكتبة، وليس المناصب، وإنما في ساعاته بين كتبه وفي مكتبته.

هؤلاء، ألموا بتراث هذه الأمة، ولم تكن علومهم علوم الأميين، الذين لا يعلمونه إلا أماني، وإنما علوماً محققة، مدققة، والمحقق في مصطلح العلوم التراثية هو الذي يعلم الشيء بيمينه، فيبتعد عن مستوى التقليد، ويرتفع إلى العلم الحقيقي، وهو اليقين القائم على الدليل، والدليل في القرآن هو السلطان، فلا سلطة لثروة، ولا سلطة لجاه، ولا سلطة لعصا، وإنما السلطة الحقيقية، للدليل والبرهان.. قال تعالى في سورة الكهف "هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا"، سورة الكهف، 15.  والسلطان هو الدليل.