القصة الشاعرة اليوم

الذائقة العربية يعتريها منذ زمن، ليس بالقصير، تغيراً، وتحولاً، طرح أشكالاً كتابية مختلفة، وتجاوز ـ إلى حد ما ـ المراحل الكتابية الماضية.

هذا التحول والتغير، جاء بدافع الرغبة في مواكبة العصر الذي نعيشه، بما أنه عصر السرعة، وعصر اللقطة، وعصر الإشارة الضوئية الخاطفة.

هو عصر لا يمكن القاص أو الشاعر لأن يقول كثيراً، لأن الزمن زمن سرعة، ولأنه، وببساطة، قد ملّ المطولات، والثرثرة، شعرية كانت، أو نثرية.

ومنذ عقدين أو أكثر، ظهرت أشكالاً كتابية جديدة، أشكالاً قائمة على الاختزال، والتكثيف العالي، والرمز، كاسرة النمط التقليدي للقصيدة وللقصة، فهنالك القصة القصيرة، والقصة القصيرة جداً، والقصة الشاعرة، والقصة الومضة، وهنالك الشذرات، والومضة الشعرية.

وأصبحت الكتابة تشبه الإضاءة السريعة في كاميرا التصوير، فعين الكاتب أو الأديب، عين لاقطة، وأصبحت كتابته ترجمة لعينه اللاقطة.

وأضحى الكاتب ليس في حاجة إلى الكلام الكثير، فالثياب الطويلة أصبحت عبئاً عليه، وكل ما يحتاجه لحظتها اقتناص فكرة، وتمريرها بلغته السردية، مفصلة على مقاس تلك الالتماعة الفكرية.

هذه الألوان الأدبية القصيرة التي ينشدها الكاتب الحديث، ما هي إلا انعكاس للزمن الذي يعيشه، إذ أصبح يجترع سياقات كلامية جديدة، وأصبحت لغته مكثفة مضغوطة تشبه إيقاع حياته وتوترها.

والقصة الشاعرة اليوم، تقدم نفسها كمنجز إبداعي جديد، وبخاصة أن هذا المنجز؛ (القصة الشاعرة)، يجمع بين السرد والشعر، بتدويرين عروضي (شعري)، وموضوعي (قصصي)، بتقنيات ومعايير مستحدثة، تواكب العصر وتجعل القصة الشاعرة فنًّا كتابيًّا / جنسًا أدبيًّا جديدًا، يقف جنبًا إلى جنب مع الفنون الكتابية والقولية الأخرى.

وهي إذ تتميز، تتميز بالاختصار في اللغة، وصياغة اللحظة الإنسانية الشاعرة، التي تتخذ من قوة العاطفة، ومن الفضاء المتخيل، ومن الاختزال، ومن الإيحاءات الخصبة، ومن التكثيف والرمز، ما يبني نصاً متكاملاً، ومبتكراً، سواء على صعيد الفكرة، أو على صعيد الوجدان.

هذا النوع من التكثيف الكتابي القائم على الدرامية، والتضاد، والفاعلية، والإيقاعية، يخرج، حين يخرج، من رحم المعاناة اليومية.

والقدرة على رسم هذا النوع، تحتاج إلى ممارسة كتابية متمكنة، لا تغفل الحالة الشعورية، وبالتالي تتحقق بها الوظيفة الجوهرية، لمبنى وبناء القصة الشاعرة.

يقول محمد الشحات محمد في قصته الشاعرة "أشرقت":

" فتحت طفولتها، على عين تواريها براويز الأشعة في جنوب اليتم..

ذات محبة، راحت تراود نفسها عن نفسها..

تنساب في المرآة، تبدو سدرة حينا..

وحينا، تشتهي جسد التمني عاريا..

دقت محطات الأنوثة في السياسة..

أشرقت".

وسر الإتقان في هذا النص هو اقتصاد التعبير، ولطف الإيقاع والتصوير، وتعدد المعاني والدلالات، وفيه من المفردات والإيحاءات، ما يرسم صوراً فنية نجحت في إثارة الخيال، وتحريك العواطف، من مثل: (تشتهي جسد التمني عارياً)، (تراود نفسها عن نفسها)، وتجاوز مجرد الإشارة إلى الواقع الحسي السياسي الملتهب، (دقت محطات الأنوثة في السياسة)، لتقدم عالماً مشرقاً، يختلف في قوانينه وإيقاعه، عن العالم الواقعي المتصارع ويسمو عليه.

غير أن هناك ظلالاً إشراقية تمتزج بلغة القاص / الشاعر هنا، وهو يلامس المعجم الديني في الحديث عن نور الله، الذي أضاء الوجود كله، وهداه إلى سواء السبيل.. "وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب.." (سورة الزمر: 69).

وربما كان معنى "أشرقت" في النص، ينصرف إلى الاتجاه إلى المشرق، الذي ينبثق منه النور، وتتجه إليه أبصار الذين سئموا الغرب كله.. (مؤامراته.. جشعه.. استغلاله)، واستحضاراً للمثل القائل: "لا يأتي من الغرب ما يسر القلب".

ويقول حسن حجازي في قصته الشاعرة "حورس":

"بعدما حلقَ مع النسور يوم نصره تِيها و ظفرا..

بدأت المسيرة لبناء المحروسة إنفتاحا وفجرا..

أطلت الفتنة السوداء من داخل الحصنِ تدبيرا وغدرا..

فسال الدم الغالي عزيزا ونكرا..

ليحلق حزينا مع ركب الشهداء عصرا..

سارت المحروسة على الدربِ للبيتِ ترتيبا وعزا..

أتي الغربان محلقين في سواد الليلِ تنكيلا وقتلا..

فنهضَ "حورس" محققا في ربوع الوادي إجلالا ومجدا..

فانتبه العالم وأدرك بأن في الشرقِ تاريخا وفخرا..

وعلى الطريق يحلقُ كل يومٍ لله سجدا .. إجلالا وذكرا..

يحققُ للحرافيشِ الذين " الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ " من بعدِ العسرِ يسرا..

فتخضرُ الأرض وتزدان السماء أفراحا ونصرا..

من الغرب للشرق يجوبُ العالم حاملا آمالا وبشرا..

ساجدا لله يشكر أنعمه تسبيحا وشكرا..

للغدِ المأمول محققا..

مغطيا الأرضَ أحلاما وتبرا".

فالقارىء / المتلقي للنص، يدرك التقاط الشاعر / القاص إشارات من الواقع السياسي العربي، وتحديداً الواقع المصري، هي التي بنى عليها قصته الشاعرة.

والقصة هنا، تكتنز بالرموز التراثية الدالة، فتعمق المعنى، وترسخه في وجدان المتلقي، فضلاً عن اعتمادها على الصورة، والتنضيد الموسيقي، المرصع بنظام هندسي محكم.

والمتلقي ينتبه لخمس مفردات في القصة (النسور، المحروسة، حورس، الحرافيش، الغربان)، تمثل أبطالاً للقصة ذات الصور الشعرية الحسية الباذخة.

والربط بين النسور المحلقة في السماء، وحورس، المعبود المصري القديم، الذي اتخذته شركة مصر للطيران شعاراً لها، والمحروسة، الوصف الدائم لمصر، والغربان، مصدر الشؤم والطيرة، ربط طريف يجعل الحاضر امتداد للماضي، والنهوض إرهاصاته العمل، كما يجعل الحرية غاية "الحرافيش" وحلمهم.

وملحمة "الحرافيش" التي تعد من أجمل وأروع ما أبدع نجيب محفوظ، وحولهم يدور النص، راسماً أحلامهم، وآمالهم، في وطن حر، مستقر، متقدم، قد مضى عليهم عهداً طويلاً ينتظرون "حورس" الذي يحلق بهم في أرض الواقع، واضعاً عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.

والإيقاعات النغمية المتتالية، تشهد للنص، بأنه منحوت من جسد موسيقي موشح بالخيال الحسي الذي ترتوي من لذته الأسماع والقلوب.

وعود إلى محمد الشحات محمد، في قصته الشاعرة "أغنيات للموت" نجده يقول:

"ليلة البرهان غطت أمسيات الأحد الماضي بوجدان ابتسامات بنات الليل..

كانت حالة الإجهاض تبدو كاعترافات سرايا الملك التاسع إثر الحملة الأولى على غابات كسرى..

اشتعلت كل قرابين الهوى حيث تدلى حبلها السري من تحت لسان الجن..

فاعتادت سكون البخر طمساً للروابي..

سكنت..

لكنها لم تستطع تصوير آلات دعاة الفجر عصراً..

شجر الصبار أرخى عضلات من حواديت الصبابا..

صرت حياً بينما ظلت تغني حيث ماتت".

فالنص يستلهم من حوادث، تكون المرأة فيها هي الجاني والضحية معاً، قصته الشاعرة.

وإذا أمكننا أن ندين المجتمع الذي تهان فيه المرأة، وتضطهد، وتضطر إلى أن تأكل بثدييها، فإنه ما لم يتكاتف المجتمع بذكوره لرفع كافة أشكال الظلم والقهر عن إناثه فلا معنى للحديث عن الاستقرار والبناء والوحدة والتقدم.

ونعود إلى القصة الشاعرة، وعنوانها "أغنيات للموت"، فنجده ناقوس خطر، وصرخة استغاثة وتحذير، والنص نفسه يخلط الموت بالحياة، ويمزج الجنس بالسياسة، ويقرر للجن لساناً وربما شفتين.

والقاص / الشاعر، يرسم لنا صورة من الماضي البعيد (سرايا الملك التاسع)، و (غابات كسرى)، ويتركنا لنتأمل، في شجن وإثارة، تنويع القول، وتعديد المداخل، وتنويع الدلالات الموحية بثنائيات: الحق والباطل، العفاف والطهر، العدل والظلم، الماضي والحاضر.

هكذا هي القصة الشاعرة.. فن قائم على القص والشعر، وفيه إسقاطات سياسية واجتماعية وتراثية، واستدعاء للرمز، واعتماد على الصور الدرامية الموحية، واستعانة بالموسيقى الشعرية الإيقاعية.