بصور شعرية ثلاثية الأبعاد 3D)) يَبعث يسري الغول الموتى في غزة
على سبيل التقديم:
صدر لكاتب القصة القصيرة في غزة يسري الغول، مجموعة جديدة بعنوان :" الموتى يبعثون في عزة" وذلك عن دار فضاءات، في العام 2014.
بدأت المجموعة بشاشة كبيرة منخفضة الشفافية، تظهر أسفلها صور وكلمات وعناوين لخمسة عشر قصة قصيرة. ثم بدأت كلمات الإهداء بالنزول على الشاشة لتأخذ حيزاً فوق كل القصص، ولتؤكد منذ البداية أن القصص جميعها قصص المعذبين والمقهورين والمضطهدين والتائهين في أرض غزة.قصص من وجد أن جحيمه في غزة، وكذلك قصص من خدع وعاشها على أنها جنته وفردوسه ليكتشف بأنه عاش الهباء، وعاش كل ما جرى سهواً.
من البداية أهدى الكاتب مفتاح قصصه إلى كل المشابهين لأبطال قصصه، في بلده وفي العالم العربي الذي تحولتشخوصه إلى صور مشابهة خاصة بعد ماأطلق عليه (الربيع العربي)، وإلى كل من يجد صورة له داخل القصص من العالم أجمع.
وعنوان المجموعة القصصية (الموتى يبعثون في غزة) هو عنوان إحدى القصص. ومن خلال الحضور اللامتناهي بعث القاص يسري الغول الروائي ارنست همنجواي المنحدر من أسرة أغلب أفرادها انتحروا -وهو انتحر كذلك- بعثه من موته، وحكى له عن عبد الوهاب البياتي الشاعر العراقي الذي أهداه قصيدة، كتب له فيها :" لوركا صامت/ وأنت في مدريد/ سلاحك الألم/ والكلمات والبراكين التي تقذف بالحمم/ لمن تدق هذه الأجراس؟ أنت صامت والدم/ يخضب السرير والغابات والقمم. وحاول أن يعرف منه رأيه بما يحدث في غزة المدينة الصغيرة الملطخة بالدم كغيرها من بقاع العالم في حرب 2014، سأله وهو الذي لا يستطيع تحمل الألم الموجود في هذه البسيطة ولذلك انتحر، يقول همنجواي:" فمناظر الدماء والإعاقات والأمراض والفقر والعبودية تقتلنا فلا نقبل بالبقاء صامتين أمام تلك الحماقات التي جاءت رغم أنوفنا" ص 54.
قصص سينمائية بصور شعرية ثلاثية الأبعاد 3D
زمننا هو زمن السينما ولقد بات الفن السابع هو الفن الأول حيث أثبتت السينما قدرتها الفائقة على امتصاص جميع الخطابات والسياقات السردية من مختلف الحقول الثقافية وجعلها عنصراً فاعلا في البناء الدرامي. وبات التداخل بين عالم السرد وعالم الحكي السينمائي الشغل الشاغل للكتاب والأدباء والسينمائيين على حد سواء.
لقد انبثق مفهوم اللغة السينمائية عن الحركة النقدية التصحيحية المعاصرة في مجال النقد السينمائي كما هو الحال عند مارسيل مارتن بكتابه اللغة السينمائية. ومع تطور الفيلم السينمائي، وظهور تقنية المونتاج وعدم الحاجة إلى تصوير الفيلم كاملا بشكل متسلسل كما كان يحدث في الماضي. انتقلت هذه التقنية إلى الأدب، ولم يعد القاص في قصصه بحاجة إلى الكتابة وفق الطريقة التقليدية والبدأ بمقدمة ثم يأخذ الصراع والشخصيات والأحداث في تصاعد إلى قمة التأزيم التي تبدأ بعد ذلك في الهبوط للوصول إلى النهاية أو الحل. باتت القصة الجديدة قصة بمقدمة ولقطات متعددة تتركب في مشهد وتتوازى المشاهد المتعددة التي كتبها ورتبها الكاتب بعد ذلك مستخدماً تقنية المونتاج التي تتيح له الانتقال بين الماضي والحاضر، والأمكنة والأزمنة المتعددة، وترتيبها وفق الشكل النهائي الذي يريد للقصة أن تنشر فيه، حيث يستخدم المونتاج الذي يعزل اللقطات ويستخدم الانتقال الزمني بينها لتوليد المعاني والرموز والدوال وليس تتابع اللقطات والاعتماد على الحبكة. يعرف جافين فيلار المونتاج بأنه:"فن وصل القطات السينمائية ببعضها في جميع مداخلها، حتى يكتمل الفيلم صورة وصوتاً في تزامن دقيق وفي شكل فني خلاق يعتمد عليه الفيلم في وقعه واستحواذه على المتفرج([i])".المونتاج البنائي يقوم بتجميع عدة لقطات مختلفة ليركب مهنا صورة حركية جديدة. بالمونتاج بعث يسري الغول الموتى من موتهم في غزة ومنحم حياة جديدة.
استلهم القاص يسري الغول الفن السينمائي والسرد الفيلمي في تشكيل فضاء بنية حكاياته السردية، متساوقاً بذلك مع حركة السرد الجديدة والتي من روادها آلان روب غرييه ونتالي ساروت وميشال بوتور وكلود سيمون ومارغريت دورا حيث استخدم التقطيع واللون والضوء والموسيقى والمونتاج. قسم العالم إلى مقاطع، لكل قطعة درجة من الاستقلال تمتلك أسباب ونتائح خاصة بها. استخدم الصورة الفيلمية ليحطم بنية السرد التقليدي لتصبح قصصه عالماً صالحاً للمعاينة والقراءة بالصورة والإشارة. في عصر الصورة الذي أصبحت الصورة فيه هي الموضوع والأداة والغاية. ركبها عبر تقنية المونتاج في تجميعات مركبة لا تتاح لها في العالم الحقيقي. بل هي عالم وبصمة يسري الغول السردي الفني المرئي.
ولأن الصورة فيلمية ففيها حكي وحكايات فهي تستطيع المزج بين التطرف والتناقض، والجمع بين الدرامي والآدمي. في أحداث بصرية كبرى تشكل الحكاية الكبيرة وصغرى تمثل الحكايات الصغرى. وفعل حكائي تقوم به الكاميرا عبر سرد لغوي.
في هذا العالم وفي السرد الجديد فقدت الشخصية دورها حيث كانت تشكل سابقاًالمكون الرئيس في بناء القصة الكلاسيكية، ولكن الشخصية الان فقدت ملامحها وهويتها. ولذلك سرد القاص قصصه مستخدماً عين الكاميرا وعبر عن كثير من شخصياته بأسماء عادية مثل بهية، عبير. وأحياناً امرأة أو أسماء تراثية مثل يوسف. ولكنه استخدم في تكوين قصصه بنية سردية واضحة المعالم ونظام قصصي موحد المغزى، قائم على اللغة والأفكار والحوار عبر الصورة ثلاثية الأبعاد التي ساعدته في تكوين صورة متخيلة عن حقيقة الواقع، صورة اعتمدت في أبعادها على ثلاثة أبعاد: بعد الزمن(y )، وبعد المكان (x)، والبعد الثالث وهو العمق ( z) والذي تمثل في البعد الوطنيوهو الذي منح قصصه عمقاً وهوية.إنالقضة الفلسطينية لم تغب عنوعيه أولاوعيه بتاتاً وعبر كل قصصه. قصص جعلتنا ننتقل ونتجول في الزمان والمكان واللازمان واللامكان، عبر صور فيلمية تحمل الإحساس السحري الذي كانت الأسطورة والفانتازيا توفره لنا في المرحلة السابقة من الكتابة القصصية والتي رأيناها في المجموعات القصصية السابقة للكاتب كما في مجموعته (قبل الموت بعد الجنون). أما الصورة الثلاثية الآن فهي تدخل المتلقي في عالم من الانبهار الجمالي من خلال ما تحققه من وحدة شمولية في التعبير السينمائي.
بُعد الزمن الفني(:(y
السينما وسيط بصري لديه إمكانية إيجابية للانتقال السريع بين الأحداث والأزمنة والأماكن والشخصيات واختزال كثير من الأزمنة والأحداث. ولقد تنوعت الأزمنة عند القاص فلقد حدد أحيانا الزمان تماما، كما في مقتل الجد أيام الانتداب البريطاني بطلقة في القلب في قصة(هذا هو اسمي) وفي قصة (سفر الغريب) محمود العارف الفلسطيني البريطاني الذي عانى في عام 1982 من اجتياح لبنان وفقد أسرته كاملة في العدوان، فهاجر إلى بريطانيا، ليعمل صحفياً في جريدة الوطن، ومحاضراً في جامعة برمنجهام. وفيها يعود إلى مخيمه في ابريل 1987 في إشارة زمنية من القاص للتدليل على عودته للمخيم قبل الانتفاضة الاولى انتفاضة الحجارة بأشهر قليلة. وفي (ترانيم الوجع) في المشهد الثاني حدد القاص زمناً هو الثالثة صباحاً، اليوم الثامن من الحرب،دون تحديد للحرب التي يتحدث عنها وعبر القصص ظهرت الكثير من الأحداث التي تدل على أزمنة فلسطينية مختلفة مثل عدوان 2014، وتارة عدوان 2012، وتارة عدوان2008، ومن يعرف أحداث تلك الحروب يجد في القصص دمجاً في بعض الأحداث، وحذفاً في الكثير منها، فهو يكتب قصصاً وليس تاريخاً.في (رسالة إلى صديقي اللدود) أيا كان كما يقول:" أفرايم، يوسي، مردخاي.. الأربعاء الماضي، وعند الساعة السادسة مساء، قام رفاق دربك بإلقاء حممهم البركانية فوق بيوتنا.. ص36. وفي قصة (الموتى يبعثون في غزة) رد الشخص:"لا .. ولكن لعلك لا تعلم أننا في مارس من عام 2014 الآن" ص49، أي قبيل حرب عام 2014 على غزة. وغيرها من الإشارات الزمنية.
وأحيانا قرأنا مشاهد سينمائية كاملة في اللازمن، وهذا جائز في السينما حيث تلتقط عين الكاميرا العديد من الاحداث التي يتم بعد ذلك ربطها في خيط سينمائي بعيد عن الزمن. كما هو الحال في (ترنيمة العبير) التي انتقلت بين مشاهد متوازية بين (هي) و(يوسف)، وقصة فيس بوك والتي لجات إلى زمن العالم الافتراضي، وقصة اللمبي الجديد وغيرها.
بعد المكان الفني(:(x
وفي محاولة لتقريب عالم السينما من ظاهر الحياة المرئي، استخدم القاص التقطيع للمشاهد المتعددة في أماكن وأزمنة متفرقة لأن عين السارد لا ترى إلا بعداً واحداً ولكن عين الكاميرا تلتقط كل الأبعاد وهذا في محاولة منه لعرض الواقع كله ومن زوايا رؤية متعددة.
ظهر الصراع بين المخيم والمدينة في القصص جلياً، تارة يأخذنا القاص إلى مشهد في المدينة حيث بدأ قصته (ترنيمة العبير) بروح الشهيدة عبير يوسف سكافي التي رحلت وفي قلبها شوق لحضن أبيها الدافيء وقال:" إليها وحيدة تغادر أصقاع المدينة. ولكنه في مشهد آخر تحت عنوان (هي) قام بعمل زوم على الأم: ليقول:" الأم التي بكت كثيراً، فتمردت على الرؤية، ولم تسجد للشمس أو القمر، خرجت عن حكايتها، ووزعت الحلوى في طرقات المخيم... ص10. لم تكن المدينة دائما هي غزة ، ولذلك كانت أحياناً مدينة في ألمانيا كما في قصة(لوحة من مطر الجنون)، وبالرغم من اللقطة التي وضعها الكاتب لهاشم الغزي في إحدى المقاهي المطلة على الراين، إلا أن الجسد على نهر الراين والعقل وبعد 30 عاماً ما زال بالمخيم في غزة ، يقول:" هذه المرة بقيت طويلاً بانتظار اللاشيئ. سارحاً فيمن حولي، ولا أدري كيف اجتاحتني تضاريس مخيمنا الهرم...، تماماً كما كنت في مخيمنا المطل على البحر...أتحدى تلك الفتاة المجنونة التي كبرت معي في مخيمنا"ص67. وفي قصة واحدة (سفر الغريب) يجمع بين بريطانيا والسودان ولبنان والمخيم داخل الوطن.
وفي قصة (هذا هو اسمي) يعود بنا عبر تقنية (flash back) ليخبرنا:" أبي العربي الغزي الباحث عن الحياة في دروب المدينة، وينتقل بنا الكاتب عبر أسبانيا وألمانيا وبلجيكا وغزة. وفي قصة (نافذة) بدى المخيم واضحاً،والقصة لعاشقين تحابا فحدثها حينها عن حياته في حضن المخيم، فأحبته كثيرا من أول نظرة وأحبها، وأنجبا في المخيم... ولكنها أصرت في الحرب على الخروج إلى المدينة مصطحبة ابنهما، وتركته ليسقط صاروخ على البيت ويكون قاب قوسين أو أدنى من موت محقق، ثم ليخرج من بيت المخيم وحيداً بمتاع قليل يسير في عتمة الشارع ويحمد الله أن زوجته وابنه ليسا في البيت، ولينجو بنفسه وينتقل من بيت المخيم خربة الأشباح والريح والأحزان والقذائف، إلى غرفة عتمة في مدرسة من مدارس الوكالة.
لقد كان العدوان على غزة قاسياً وأراد الكاتب أن يؤكد أن حرب عام 2014 والتي استمرت 51 يوماً متتالية، قد طالت المدنيين، ولم ترحم كبيراُ أو صغيراً، شاباً أو عجوزاً، امرأة أو طفلاً أو رجلاً، سواء أكانوا في المدينة أو المخيم. وأن الشاب الذي عاش ظروف عديدة من عوز وفقر في المخيم وهو ينتظر اليوم الذي يتحسن وضعه به لينتقل إلى المدينة خرج تحت القصف والدمار تاركاً بيت المخيم إلى غرفة معتمة في مدارس الوكالة، و"العتمة خوف" كما قال الكاتب. لقد بات بيت المخيم والعودة للمخيم حلماً مؤرقا بعد أن كانت فكرة المخيم ككل فكرة مؤقتة، يقول:" كم يؤرقك المخيم".
يظهر المخيم في معظمالقصص ففي (سهوا، كل ما جرى) يقول:" كنت قد حصلت عليه بعد أن عادت من زيارة لأخيها القابع هناك من سنين الجدب، حصل على منحة دراسية من جامعة المدينة، ليذهب وفي عينيه كل أحوال المخيم، ص104.
في قصة(سهوا، كل ما جرى) رأى صوراً لأماكن بعيدة، وعاد لذكريات مدينته الضيقة ولغرفته الكابية، وفي (ترانيم الوجع) كتب:" أصوات القذائف تئن في كل ردهة من مخيمنا" ص32. وبعد اشتداد القصف في قصة (رسالة إلى صديقي اللدود) يقول:" حملونا كموتى إلى بيوت المخيم المتلاصقة). ولم يقف الأمر عند المدينة والمخيم بل ظهرت القرية كما في قصة (القلعة)والشيخ في السماء، وفي قصة (الهاوية) كان هناك أشباح رجال تحت الأرض. وفي قصة (صندوق أسود) كانت الأحداث في مطار القاهرة ثم في الطائرة حيث فتح كل من ياسر والمضيفة صندوقهما الأسود لبعضهما البعض، للشبه الكبير بينه وبين حبيبها بهاء الذي تركها.
وأحياناً كان المخيم مخيم نهر البارد للفلسطينيين في لبنان، وهو المخيم النزق الذي بقيت به مريم الفلسطينية من لبنان في قصة(لوحة من مطر الجنون). ولم تهاجر مع زوجها، كانت مجنونة بالمخيم وتشعر أن الخروج منه يعني الموت ، ثم بعدما طال غيابه قررت اللحاق به وما زالت تبحث عنه، واكتشفت في بلاد الغربة أنها كانت مخطئة بعدم الخروج مبكرة من المخيم.
وأخيراً كانت بعض الأحداث في اللامكان بل بين السماء والأرض كما في قصة(قلعة)، والشيخ الذي قبل صعوده للسماء هتف بأبناء بلده:" ابنوا لي قلعة أراكم فيها كل عام مرة أو مرتين" ص 19، وبقي على تواصل مع أهل بلده، ولكنهم مختلفون في تفاصيل القلعة، ولذلك مرت 100 عام ولم يتم بناؤها ولذلك لم يستطع حمايتهم ودخلت الريح الى القرية لتتركها أثراً بعد عين.
المهم أنه بعد عمل (Zoom out) بعد كل قصة للعودة للشاشة الكبيرة والاهداء، ستجد أن بعض الشخوص قد توفيت كما في القصة الأولى، وأوشك ابن المخيم على الموت في القصة الثانية، وهكذا في كل القصص صراع بين الموت والحياة، وفيها يصل ابن المدينة وابن المخيم لفكرة أن الحياة والسعادة في غزة ليست إلا هباء كما جاء في الاهداء.
بعد الوطن(:(z
في العمق كانت غزة تسيطر على الكاتب في لا وعيه، وكان ما مرت به من مآس يوخز الضمير الانساني والعالمي، وفي العمق أيضاً كانت تطفو على السطح بعض القضايا المحلية الخاصة بغزة، وأحياناً تظهر صور من القضة الفلسطينية ككل، مثل قضية المخيمات واللاجئين.
صور الكاتب الكثير من المواقف لمعذبين ومقهورين ومضطهدين وتائهين، نساء ورجال، طفلات كما (ترنيمة العبير) وأشبال تلاميذ مدرسة كما في (الغواية) وشباب وشابات وعواجيز. فالقصص تحكي عدة حروب وظلم نال المدنيين بكل فئاتهم. تارة يشعر القاريء أن هذه القصص تمثل عدوان اسرائيل المتكررعلى غزة،والشهداء والنازحون والأسرى والمنازل المدمرة وزجاجها الذي تم تغييره مرات متعددة مع كل حرب، والحصار أحياناً كما في قصة (نافذة) يقولوقد تركت زوجته البيت:" أين سنذهب يا بنت الناس؟ .. وأين سنسكن؟ وصمتها حكاية، والحكاية حصار". وفي القصص قصف الأبراج وإطاحتها في غزة، وترويع أهلها، وقصف مدارس الوكالة واستشهاد مدنيين وأطفال، التلويح بحرب برية على القطاع، وقيام المقاومة بعمليات خاطفة وإيقاع قتلى من الإسرائيليين" ص15، والغاز المسيل للدموع، والفرقة والانقسام، وتوقف الجامعات عن التعليم بسبب الحروب والاحتلال، وجواز السفر الأسود، عدم وجود ميناء أو مطار، والسفر من خلال مصر، وإغلاق معبر رفح المتكرر الذي يفتح مرة أو مرتين بالعام كما ذكر، والحجز في مطار القاهرة لحين فتح المعبر، والتفتيش على المعابر، والأنفاق، والحواجز، والقذائفوالخنادق والطائرات والقصف من أعلى والخوف من الدخول البري. وهجرة الشباب إلى الغرب كما في قصة (فيس بوك) حيث هاجر الشاب إلى بلجيكا " ذات مرة وقفت قبالتك، سألتك عن قبلتك التي تريد، فقلت: بلجيكا .. ابتسمت/بكت، هذرت: حالك كحال كل الموجوعين في غزة"ص87، وتارة في قصة (هذا هو اسمي)، يعود بنا إلى الهزيمة الكبرى في الأندلس والخروج من أسبانيا والعودة إلى غزة عبر جيل الأب وجيل الابن مرة أخرى، أسبانيا التي سقطت ومن وقتها بدأ زمن الهزائم المتلاحق وتتوالى الأجيال والوصول إلى الأندلس والعودة منها، والانتقال من هزائم إلى هزائم في الوطن، وكيف لفرد لا يستطيع الخروج من معبر رفح أن يسترجع الاندلس.ومهما تغير اسمك فالعبرة ليست بالأسماء ولكن بالأفعال فسواء أكان إيثان كما أسمته أمه، أو موزيس كما أسمته صديقاته في الجامعة، أو روميرو كما تناديه حبيبته، فإن أسبانيا وغزة محتلتان، وما بينهما يعاني من صنوف الهزائم. والعودة لن تكون بالشعارات فلا هي بالوشم الذي وضعته إحدى الغجريات على كتفه الأيسر وكأنه سحر وقالت له:" هذا هو نوركم الذي سيضيء بكم الدروب"ص85، ولا هو بالشعار الموجود في الأندلس(لا غالب إلا الله)، ولا بالعودة إلى بلاد الأندلس بعد أن يؤذن الشيخ في أذنه اليمنى ويقيم في أذنه اليسرى، ولا بحب الأسبانيات يتحول الأفراد إلى طارق بن زياد. "انتهيت من سرد الحكاية لأماندا، التي حدثتني عن حياتها وعوالمها، فآمنت بها حتى صرت متيماً برفقتها، وبها أسلمت وجهي لله، فصرت طارق بن زياد، بعد أن أذن الشيخ للصلاة في أذني اليمنى، وأقامها في اليسرى، ومعها عدت إلى بلاد الأندلس، حصلنا على صور لقصر الحمراء وبهو الأسود، وخلفنا شعار لم يمحه كل من مروا على المكان(ولا غالب إلا الله) ص68.
المونتاج:
في (ترنيمة العبير) بدأ الكاتب نصه بمقدمة اقتباسية وضعها بين قوسين، ثم بدأ المشهد الأول للمرأة (بهية) زوجة الأسير المحرر (يوسف) التي فاضت روحها عند جذع النخلة، مقدما تناصاً بينها وبين السيدة مريم العذراء في القرآن الكريم. وهي امراة بلا شك نموذج للعديد من النساء اللواتي أنجبن في أيام العدوان ولم يستطعن الوصول إلى المستشفيات. في مشهد ثان كان باسم (يوسف) الزوج وبه عودة لوالده، ينصحه برعاية ابنته عبير.وفي تناص آخر مع يهوذا يقول له: "أخشى أن يلقي بها يهوذا في البئر يا ولدي"ص8. لتأتي الإجابة الصادمة من الابن :" لا تقلق يا أبي، فيهوذا أخي".
لم يعد العدو يهودياً بل هو أخ. وزوجته في السابق راودها أحد عشر جنديا، انقضوا عليها كفريسة تائهة، ويوسف في البئر يلهو مع الضباع. ثلاثة مشاهد كانت تحت عنوان (هي) واثنان بعنوان (يوسف) وأحلام مركبة فوق بعضها البعض، تخرج الشخصية من حلملحلم، وتموت الطفلة وتتخيلها الأم في الحلم تعود بين قدميها. مشاهد وتناصات وصور ومرئيات لا تجتمع إلا في عالم الدراما وعالم السينما. ولا تجمعها من شتاتها إلا لغة السينما وعين الكاميرا وتقنية المونتاج.
ثم ينهي القاص مشاهده البصيرية بتذييل صوتي: "الطفلة التي صفعت الموت بوجهها، ركبت بساط السندباد وارتجلت تمخر عباب السماء، وفي قلبها صورة الأب المعلق بين الأرض والأرض داخل لوحة زيتية كالحة السواد" ص11. في تناص مع (السندباد). والتذييل تقنية من السينما حيث يقوم المخرج بوضع تذيل مكتوب أو صوتي في نهاية الفيلم، ليختم به الفيلم أو يجعل خاتمته مفتوحة بسؤال يبقي عقل المتلقي مشغولاً بالبحث عن إجابات وتخيلات. وتارة لم يكن تذييلاً بل توضيحاً كما في قصة (الغواية) عن التلاميذ الثلاثة الذين يفكرون في تقليد الكبار والقيام بعملية استشهادية وهم يحاولون في كل يوم ويعودون دون أن يفلحوا، وفي المرة التي استشهدوا فيها اقتربوا من الحدود ورغب أحدهم في اللعب والصعود إلى أعلى الشجرة فهو لم يشبع من طفولته بعد، وأرادوا الرجوع حين سمعوا أصوات لاسلكي تهذي بالعبرية، فأدركوا أن أمرهم سينكشف، وانتهت القصة بتوضيح:" في خبر بثته إحدى الإذاعات المحلية بغزة، نبأ استشهاد ثلاثة أطفال كانوا يعبثون بجوار إحدى المستوطنات الإسرائيلية، غير أن تلك الأنباء ما زالت تؤكد جدية البحث عن الجثث التي لا يوجد لها أي أثر حتى اللحظة"ص45.
في قصة (قلعة) تناص مع قصة قوم موسى في القرآن وكيف أعادوه مرات عدة ليسأل ربه عن الكثير من التفاصيل. وكذلك القوم في قصة القلعة سألوا عن تفاصيل كثيرة للقلعة ومرت مائة عام، وتغيرت ملامح القرية وأهل القرية وأوشكت البلد على الفناء ولم يتم تنفيذ بناء القلعة، ليؤكد الكاتب أن الأجيال لم تختلف عن بعضها البعض حتى فنيت البلاد.
القصة الثانية (نافذة) قطعها القاص إلىخمسة مشاهد بدأت جميعها بمتلازمة (الغرفة عتمة، والعتمة خوف)، لتؤكد على النزوح من المخيم إلى غرفة بمدارس الوكالة ذات النوافذ الزرقاء، يستجدي الأفراد فيها الدفء ببطانية الوكالة ذات الرائحة النتنة.وفي (سفر الغريب) يبدأ بمقدمة ثم مشهد أول يمثل نهاية الحكاية حيث تبحث دينا هولمز عن محمود العارف في السودان، ليعود (Flash back) في المشهد الثاني إلى أول لقاء بينهما في لندن، ومشهد ثالث يصور اللقاء الأخير في المقهي العربي لتختفي كما يقول الكاتب بعد ذلك أسطورة الرجل العربي وليعيدنا في بنائه الدائري إلى المشهد الأول حيث تبحث عنه دينا في كل مكان تعرفه أو لا تعرفه، ليخبرنا في تذييل أنه عاد للمخيم في الوطن وتزوج وأنجب بنتاً أسماها دينا.
في (سهوا كل ما جرى) لم يقسمه إلى مشاهد ولكنه بدأ بألبوم صوره وذكرياتها، ولقد رأينا هذا في العديد من الأفلام حيث يعرض المخرج مجموعة من الصور لمشاهد متعددة من الفيلم، ثم يبدأ بالدخول إليها ويغادر من مشهد إلى آخر، حتى يكتمل الفيلم وتكتمل القصة بمونتاج أراده الكاتب عن عمد لتحقيق هدفه من القصة.
عبر التقنيات السينمائية، وعبر تقنية الحلم، وتقنية الصورة واللقطات والمشاهد والمونتاج بأنواعه ضفر الكاتب قصصه في مجموعة قصصية جديدة تنافس القصص العالمية.
([i]) كافين ميلار"فن المونتاج" ترجمة أحمد الحضري، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1987، ص13.
وسوم: العدد 624