الوردي : (39) الريادة في التحذير من "العقلية العربية الشعرية" وتفنيد نظريّة طه حسين في انتحال الشعر الجاهلي
# قبل مراجعة هزيمة حزيران بخمسة عشر عاماً :
لقد تصاعدت الأصوات في نهاية الستينات ، وخصوصا بعد هزيمة الخامس من حزيران عام 1967 ، وما فرضته من مراجعة ضرورية للذات ولبنى الحياة العربية التي ثبت خواؤها وتخلّفها عن ملاحقة التحولات المعاصرة العاصفة ، أقول ارتفعت الأصوات تدعو إلى إعادة النظر في سيطرة " النظرة الشعرية " على العقلية العربية في إدراكها للحقائق وتقييمها لها ، وهي نظرة لا تلائم هذا العصر الذي يقوم على المنطق العلمي الذي صار يتحكم بأدق تفصيلات الحياة . لقد اعتبر البعض هذه " العقلية الشعرية " التي تقوم على التفكير المجازي والأحكام العاطفية والتعريفات الفضفاضة من أسباب الهزيمة من ناحية ، ومن عوامل تدهور حال الأمة العربية المتزايد على الصُعُد كافة من ناحية أخرى . لكن للمفكّر الثائر علي الوردي فضلاً ريادياً كبيراً في التنبيه إلى الجوانب السلبية في هذا النمط من التفكير منذ الخمسينات . وفد بدأ بموقف عارم من النقد لميراث الشعر العربي بأكمله في البداية ثم استدرك لاحقا . يقول الوردي :
( إني في الواقع لا أحب أن أزهد الناس بالشعر أو أصرفهم عن دراسته فالشعر حقل مهم من حقول المعرفة ، ولا غنى للباحث في المجتمع العربي وتأريخه عن دراسة الشعر . ولكن الذي أريد من الناس هو أن يدرسوه دراسة حياد وإنصاف ، لا دراسة حب وتعصّب . إذا كان للشعر منافع ، فله مضار أيضا ، وربما ضرره بالأمة العربية أكثر من نفعه لها . لست أنكر على أي حال ما احتوى عليه الشعر العربي من حكمة وروعة ، إنما لا يجوز أن يمنعنا هذا من النظر في سخافاته وأباطيله في الوقت ذاته . إن الشعر كأي شيء آخر في هذه الدنيا يحتوي على المحاسن والمساويء معا . وعلى الباحث أن ينظر فيه من كلا الوجهين إذا أراد أن يكون باحثا حقا . أما التأكيد على أحد الوجهين وإهمال الوجه الآخر ، فهو أمر لا تستسيغه طبيعة البحث الحديث " (276) .
# الدعوة إلى رفع هالة التقديس عن الشعر : المنطق الأرسطي منطق شعري:
إن دعوة الوردي الساخطة هذه إلى رفع هالة التقديس عن الشعر كانت هي المدخل الذي انطلق منه إلى الدعوة الشاملة إلى إعادة النظر في أسس التفكير السائد في العقلية العربية وتغييرها جذريا ، بتحويلها من المنطق الصوري الأرسطوطاليسي القديم السائد إلى منطق علمي جدلي حديث . إنه لم يرفض صيغة " الشعر ديوان العرب " حسب بل رفض دعوة من اعتبره " توراة الأمة " كالدكتور " عبد الرزاق محي الدين " . فالتوراة نفسها لها محاسن ومساويء ، ودارسوها في الغرب يبحثون فيها بحثا محايدا ، فمثلما فيها من قصص ومواعظ للأنبياء ، فيها خرافات وأباطيل وأوهام . ومن المفروض – حسب الوردي – أن ينحو دارسو الشعر العربي هذا المنحى . يقول الوردي أيضا :
( الشعر العربي مملوء بالمساويء . وأستطيع أن أعدّه بلاء ابتُليت به الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها . وكثيرا ما ينفع البلاء ) (278) .
# تفنيد نظرية طه حسين حول انتحال الشعر الجاهلي :
ويمكنني أن أعد موقف الوردي في العراق الناقم على الشعر العربي القديم والرافض لمرجعيته المعرفية المهيمنة على الحياة العقلية العربية في الخمسينات مشابها في تأثيره لموقف الدكتور " طه حسين " في مصر الذي فجّره عام 1924 مع الفارق الواسع بين طبيعة الدعوتين وأهدافهما ، والاتجاه " الإيجابي " لدعوة الوردي مقابل الاتجاه " السلبي " لدعوة طه حسين عن " انتحال " الشعر الجاهلي . كانت دعوة طه حسين قريبة من روح المخالفة الساذجة ، وتحمل طابع " الصرعة " ، بخلاف دعوة الوردي المنهجية المدروسة . وقد كان للوردي تقييم مهم لنظرية طه حسين يوضح الفارق بينها وبين نظريته الثورية . يقول الوردي :
( وحين ندرس نظرية طه حسين التي جاء بها في هذا الصدد نجدها لا تستحق مثل هذه الضجة . إنها في الواقع نظرية واهية وفيها من السخف شيء كثير . ولكن الضجة هي التي أسبغت عليها تلك الأهمية الكبرى . وقد حاولت في العام الماضي – وحديث الوردي هذا في العام 1956 - نقد تلك النظرية في محاضرة عامة ألقيتها في قاعة كلية الآداب والعلوم . وكادت محاضرتي تُحدث ضجة أخرى لولا ستر الله " (279) .
ويهمني هنا أن أنقل نقد الوردي لنظرية طه حسين لأنها تعبّر عن العقلية النقدية الحادة التي يتمتع بها الوردي أولا ، وعن منهجية مشروع الوردي وقصديته من ناحية ثانية ، لأنه لو كان جهد الوردي يقع ضمن إطار قاعدة " خالف تُعرف "، كما وصفه الدكتور عبد الرزاق محي الدين وغيره من خصومه، لكان قد وجد في مساندة نظرية طه حسين ما يعزّز " صرعته " المخالفة وحضوره التحرّشي . لكن الوردي يشتغل على مشروع معرفي تنويري تثويري . يقول الوردي :
( يعتقد الدكتور طه حسين أن الشعر الجاهلي الموجود بين أيدينا ليس جاهليا ، إنما هو منحول اختلقه الرواة في عصر متأخر . واستند الدكتور في ذلك على مقارنة الشعر الجاهلي بما جاء في القرآن من وصف لحياة الجاهلية أو انتقاد لها . يقول الدكتور طه ، إننا حين ندرس القرآن نجده يمثل أهل زمانه تمثيلا مباينا لتمثيل الشعر لهم ، ونحن مخيّرون إذن بين أن نكذّب القرآن أو نكذّب الشعر الجاهلي . ولمّا كان القرآن صادقا فلا بد أن يكون الشعر هو الكاذب أو المكذوب " (280) . ثم يلخّص الوردي الفروقات التي أقام على أساسها طه حسين مقارنته بين الحياة التي يمثلها القرآن وتلك التي يمثلها الشعر الجاهلي وفق المقارنة التي عقدها طه حسين فيحدّدها بما يلي :
1-يمثل القرآن لنا حياة دينية قوية تدعو أهلها إلى أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال ويعلنوا في سبيلها الحرب التي لا تُبقي ولا تذر . أما الشعر الجاهلي فيمثل لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي والعاطفة الدينية المتسلطة على النفس وعلى الحياة العملية .
2-والقرآن يمثل حياة عقلية قوية وقدرة على الجدال والخصام في مسائل فلسفية كالبعث والخلق .. أما الشعر الجاهلي فيمثل حياة الجهل والغباوة والخشونة ..
3-والقرآن يحدثنا بأن العرب كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم .. أما الشعر الجاهلي فيمثّل العرب كأنهم أمة منعزلة في صحرائها ..
4-والقرآن يحدثنا عن انقسام المجتمع العربي إلى طبقات .. ويذكر ما كان في العرب من بخل وطمع وظلم وبغي وأكل أموال اليتامى .. أما الشعر الجاهلي فيمثل العرب أجوادا كراما مهينين للأموال مسرفين بازدرائها .
5-والقرآن يذكر البحر والسفن واللؤلؤ والمرجان وغير ذلك من شؤون الحياة خارج الصحراء . أما الشعر الجاهلي فلا يعرف غير حياة البادية ) (281) .
هذه هي الخلاصة الشافية التي يقدمها الوردي ، وهي وافية أيضا ؛ يدرك ذلك من قرأ كتاب طه حسين . لكن النباهة الوردية تظهر في النقد الذي يقدّمه لهذه النظرية والذي يستهله بالالتقاطة الحاذقة عن أن النقّاد الذي انبروا ليعارضوا وينتقدوا ما طرحه طه حسين حول منحولية الشعر الجاهلي لم تخرج أدلتهم وبراهينهم عن النطاق الذي افترضه طه حسين مقدّما في كتابه . أي أنهم استُدرجوا إلى المصيدة التي نصبها – بذكاء - طه حسين ، حيث أخذوا يأتون بالأدلة من الشعر الجاهلي للتدليل على أن هذا الشعر بحث كل جوانب الحياة التي تناولها القرآن ، وبذلك فهو يمثل الحياة الجاهلية أصدق تمثيل.
ثم يقدّم الوردي وجهة نظره النقدية التي تفنّد نظرية طه حسين والتي أقتطع منها مدخلها ، وأترك للقاريء الكريم الإطلاع عليها كاملة في كتاب الوردي " أسطورة الأدب الرفيع " – الصفحات 122 إلى 127. يقول الوردي – ولاحظ البساطة في الاستنتاج - :
( نسي هؤلاء ، كما نسي الدكتور طه حسين ، شيئا واحدا كان الجدير بهم أن لا ينسوه . وبهذا ضاعت جهودهم وجهود دكتورهم هباء . لقد نسوا أن القرآن يمثل الحياة الجاهلية من زاوية تختلف عن زاوية الشعر الجاهلي ، وأن كليهما كان صحيحا في تمثيله بالرغم من تفاوتهما في التصوير . مما يجدر ذكره أن القرآن يمثل ثورة اجتماعية ودينية ضد المترفين الذين كانوا يسيطرون على المجتمع المكّيّ . إنه كان بعبارة أخرى يحارب قريشا وينتقد وثنيتها ورباها واستعلاءها وبغيها ونكثها بالعهود . أما الشعر الجاهلي فكان غير مكترث بمكة وبما يجري فيها . إنه لا يرى مكة إلا في موسم الحج ، وهو يراها حاشدة بالناس وقد امتلأت بالثريد الذي كانت قريش تقدمه لهم وفيرا . كان الشعر الجاهلي في معظمه يمثل الحياة البدوية التي تسود القبائل خارج مكة . وليس عجيبا بعد هذا أن نجده مختلفا عن القرآن في تصوير الحياة . إنه بواد والقرآن بواد آخر . وشتّان ما بين الواديين ) (288) .
ثم يطرح الوردي عاملا آخر لم ينتبه إليه طه حسين ، ولا – ويا للمفارقة – ناقدوه – ويتمثل في ضعف الملكة الشعرية لدى الأفراد في قبيلة قريش وما يترتب على ذلك من أن الشاعر الذي يأتيها من الصحراء في موسم الحج أو في مواسم أخرى طمعا في مكرمات زعمائها حتى لو كانت مضامين قصائدهم مناقضة تماما لما يجري من مفاسد ومظالم في الحياة اليومية لقريش :
( المعروف عن قريش أنها كانت أقل حظّا في نظم الشعر من القبائل العربية الأخرى . ولعلها كانت تتخذ من رعاية الشعر – وهذه لعمري وجهة نظر فريدة تفسّر اهتمام بعض المدن برعاية الشعر والشعراء رغم أنها حضاريا وثقافيا وتاريخيا غير وثيقة الارتباط به – ما يعوّضها عن نظمه ، كما هو شأن الأغنياء المترفين في كل زمان ومكان . فكان شعراء البادية يقصدون قريشا لينشدوا بين يديها قصائدهم ويستلموا منها الجوائز . ولم يكن يهمهم عندئذ من أين تأتي قريش بالمال في سبيل ذلك . ولو أنهم كانوا من أهل مكة ويشهدون ما يجري فيها من ظلم وربا وبَغي ، لكان شعرهم من نمط آخر في أرجح الظن ) (289).
# دور الوردي الفكري في التمهيد للانفجارات الشعبية :
وقد اعترض علي أحد المثقفين العراقيين المعروفين حينما تحدثت في إحدى المحاضرات بدمشق عرضيا عن دور أفكار الوردي في التمهيد لثورة 14 تموز 1958 بالقول أن في استنتاجي مبالغة وتضخيما للحوادث . قلت أن الوردي لم يترك أية فرصة بريئة إلّا وانتهزها – بمكر - لمهاجمة السلطات الدكتاتورية والعسكرية والإقطاعية التي كانت قائمة آنذاك . هنا يتحدث عن نظرية أدبية وتاريخية للدكتور طه حسين ، لكنه لا يدع الفرصة تفلت دون أن يهاجم واحدة من السلطات القامعة للشعب العراقي فيشبه أهل مكة " البدو الذين فسدوا لأنهم تحضّروا " بإقطاعيي العراق آنذاك :
( ونستطيع تشبيه زعماء قريش في الجاهلية بشيوخ العشائر في أيامنا . فالشيوخ الآن يعتزون بعصبيّتهم القبلية ، ولكنهم يعيشون في المدن وينغمسون في ترفها ورذائلها انغماسا شائنا . وتجد بعضهم داعرا سكّيرا مقامرا يبذل أمواله على الراقصات . وإذا اعترضت عليه رفع عقيرته قائلا بأنه من أبناء الأكرمين . وهو فوق ذلك يستغل جهود عشيرته استغلالا فظيعا ، ثم يأتي بالمال لينفقه في المدينة كما يشاء على من يشاء . وليس من النادر أن نجد فيهم من يقيم الولائم ويعطي الجوائز للأدباء والشعراء كما كانت قريش تفعل في قديم الزمان ) (290) .
ولكن بعد هذه الجرعة المعارِضة النقدية السامّة ، يعود الوردي إلى " عسل " الطرح النقدي الذي يتناول به نظرية – والأصح فرضية – الدكتور طه حسين ، والذي أسّسه على فرضية مضادة تتمثل في أن المجتمع المكي يختلف عن المجتمع البدوي ، وهذا هو سبب ما نرى من فرق كبير بين القرآن والشعر في تصوير الحياة الجاهلية ، فيقول :
( ولست أدري لماذا لم يلتفت الأدباء ، وعميدهم الدكتور طه حسين ، إلى هذه الناحية الهامة عند دراستهم للأدب الجاهلي . لعلّهم انهمكوا بعلوم البيان والمعاني والبديع فانشغلوا بها عن الإصغاء إلى ما يقوله علم الاجتماع في هذا الشأن . إنهم سيبقون مشغولين بتلك العلوم إلى ما شاء الله ) (291) .
# وقفة مع هشاشة أطروحة طه حسين وتزويره بعض أدلّتها :
تتجسد هشاشة مشروع طه حسين ، في أن ليس المثقفين والنقاد هم من أمسكوا بنقاط ضعف مشروعه في "إنتحال الشعر الجاهلي" والطعن في القرآن الكريم، وكشفوا ثغراته وتهافته حسب ، بل أن رئيس نيابة مصر السيّد "محمد نور" الذي حقق معه بشكل مباشر قد أطاح بآرائه كاملة ، ووضعه في زاوية معرفية ضيّقة جداً ، فأي مشروع معرفي ضخم هذا يُفند أسسه رئيس نيابة ؟!. والمشكلة أن طه حسين قد عجز في مواقف كثيرة عن الدفاع عن آرائه أمام تساؤلات رئيس النيابة حد أن الأخير قد وصفه ووصف مشروعه بأوصف ساخرة وتهكمية . كما كشف التحقيق قيام طه حسين بـ "تزوير" بعض الشواهد القديمة التي اعتمدها كأدلة تدعم وجهة نظره ، وهذا يخالف أسس البحث العلمي والمصداقية التي كان الدكتور نفسه ينادي بها !!. يقول رئيس النيابة : ( .. ومن حيث أن المؤلف بعد أن تكلم في الفصل الثالث من كتابه "في الشعر الجاهلي " على أن الشعر المُقال لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين، وأراد في الفصل الرابع أن يقدم أبلغ ما لديه من الأدلة على عدم التسليم بصحة الكثرة المطلقة من الشعر، فقال إن هذا الشعر بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه (...) وهنا يجب أن نلاحظ على الدكتور مؤلف الكتاب : أنه خرج من بحثه هذا عاجزا كل العجز عن أن يصل إلى غرضه الذي عقد هذا الفصل من أجله .. ولم يوفّق إلى الإجابة بل خرج من البحث بغير جواب، اللهم إلا قوله : "إن الصلة بين اللغة العدنانية وبين اللغة القحطانية إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة من اللغات السامية المعروفة" . وبديهي أن ما وصل إليه ليس جوابا عن السؤال الذي وضعه. وقد نوقش في التحقيق في هذه المسألة فلم يستطع رد هذا الإعتراض. ولا يمكن الاقتناع بما ذكره في التحقيق من أنه كتب الكتاب للأخصائيين من المستشرقين بنوع خاص ، وأن تعريف هاتين اللغتين عند الأخصائيين واضح لا يحتاج لأن يُذكر، لأن قوله هذا عجز عن الجواب. كما أنّ قوله إن اللغة الجاهلية في رأيه ورأي القدماء والمستشرقين لغتان متباينتان لا يمكن أن يكون جوابا عن السؤال الذي وضعه، لأن غرضه من السؤال واضح في كتابه، إذ قال: "ولنجتهد في تعرّف اللغة الجاهلية هذه وما هي" . وقد كان قرر قبل ذلك: "فنحن إذا ذكرنا اللغة العربية نريد بها معناها الدقيق المحدود الذي نجده في المعاجم حين نبحث فيها عن لفظ اللغة ما معناه، نريد بها الألفاظ من حيث هي ألفاظ تدل على معانيها، تستعمل حقيقة مرة ومجازا مرة أخرى، وتتطور تطورا ملائما لمقتضيات الحياة التي يحياها أصحاب هذه اللغة". فبعد أن حدّد هو بنفسه معنى اللغة الذي يريده فلا يمكن أن يُقبل منه ما أجاب به من أن مراده أن اللغة لغتان بدون أن يتعرّف على واحدة منهما... إن الأستاذ قد أخطأ في استنتاجه بغير شك، ونستطيع أن نقول إن استنتاجه لا يصلح دليلا على فساد نظرية الرواة التي يريد أن يهدمها، وأنه إذا ما ثبت وجود اختلاف مهما كان مداه بين اللغتين فإن هذا لا ينفي صحة الرواية التي يرويها الرواة من حيث تعلّم اسماعيل العربية من جرهم، ولا يضيرها أن الأستاذ المؤلف ينكرها بغير دليل، لأن طريقة الإنكار والتشكك بغير دليل طريقة سهلة جدا في متناول كل إنسان عالما كان أو جاهلا...) ثم يتعرض رئيس النيابة لخروقات طه حسين لشروط الأمانة العلمية فيقول:
( على أننا نلاحظ أيضا على المؤلف أنه لم يكن دقيقا في بحثه. وهو ذلك الرجل الذي يتشدّد كل التشدد في التمسك بطرق البحث الحديثة. ذلك أنه ارتكن إلى إثبات الخلاف بين اللغتين على أمرين : الأول ما روي عن أبي عمرو بن العلاء من أنه كان يقول: "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا"، والثاني قوله : "ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف في اللفظ وقواعد النحو والتصريف أيضا". أما عن الدليل الأول فإن ما رواه إبن سلم مؤلف "طبقات الشعراء" عن أبي عمرو بن العلاء "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا". وقد يكون للمؤلف مأرب من وراء تغيير هذا النص، على أن الذي نريد أن نلاحظه هو أن ابن سلام ذكر قبيل هذه الرواية في الصفحة نفسها ما يأتي: " وأخبرني يونس عن أبي عمرو قال: "العرب كلها ولد اسماعيل إلا حمير وبقايا جرهم" فواجب على المؤلف إذن وقد اعتمد صحة العبارة الاولى أن يسلم بصحة العبارة الثانية، لأن الراوي والمروي عنه واحد. وتكون نتيجة ذلك أنه فسّر ما اعتمد عليه من أقوال أبي عمرو بن العلاء بغير ما أراده، بل فسره بعكس ما أراده، ويتعين إسقاط هذا الدليل... وأما عن الدليل الثاني فإن المؤلف لم يتكلم عنه بأكثر من قوله : "ولدينا الآن نقوش .. إلخ" فأردنا عند استجوابه أن نستوضحه ما أجمل فعجز ..) .
ثم يمضي رئيس النيابة في تسطير الحوار الذي دار بينه وبين طه حسين الذي عجز تماما عن الرد بل تهرب من الإجابة عن الكثير من الأسئلة.. إلى أن يقول :
( فمتى قال أبو عمرو بن العلاء إنها لغة مخالفة للغة العرب! لقد أشرنا إلى التغيير الذي أحدثه المؤلف فيما روي عن أبي عمرو بن العلاء حيث حذف من روايته "ولا عربيتهم بعربيتنا" ووضع محلها "ولا لغتهم بلغتنا". وقلنا قد يكون للمؤلف مآرب من وراء هذا التغيير ؛ فهذا هو مأربه :
إن الأستاذ حرّف في الرواية عمدا ليصل إلى تقرير هذه النتيجة" ..
قرّر الأستاذ في التحقيق أنه لاشك في أن اللغة الحميرية ظلت تُتتكلم إلى ما بعد الإسلام. فإن كانت هذه اللغة هي لغة أخرى غير اللغة العربية، كما يوهم أنه انتهى به بحثه، فهل له أن يُفهمنا كيف استطاع عرب اليمن فهم القرآن وحفظه وتلاوته؟ ". ثم يصل رئيس النيابة إلى استنتاج خطير يمس صميم مشروع طه حسين بأكمله ، حين يسمه بالتخييل واللاعلمية فيقول :
(.. ولكن الذي نريد أن نشير إليه إنما هو الخطأ الذي اعتاد أن يرتكبه المؤلف في أبحاثه، حيث يبدا بافتراض يتخيله ثم ينتهي بأن يرتّب عليه قواعد كأنها حقائق ثابتة ؛ كما فعل في أمر الاختلافات بين لغة حمير وبين لغة عدنان... إن الأستاذ ليعجز حقا عن تقديم هذا البيان، إذ كل ما ذكره في هذه المسألة خيال في خيال ...". – راجع قرار النيابة في الشعر الجاهلي في كتاب طه حسين ، في الشعر الجاهلي، الصادر عام 2009 عن دار بترا للنشر والتوزيع ضمن سلسلة "من تراث عصر النهضة" التي تصدرها رابطة العقلانيين العرب-.
عميد الأدب العربي لم يكن ديموقراطياً مع ناقدي أطروحته :
ويهمني هنا أن أنقل رأيا مهما للدكتور " محمد حسين الأعرجي " طرحه في كتابه " في الأدب وما إليه " الصادر عن دار المدى عام 2003 ، ولهذا الرأي الحسّاس صلة بريادية الوردي مقارنة بمشروع طه حسين . يقول الأعرجي :
( وإذا كان من الباحثين العرب من يعترف بهذه التلمذة – يقصد التلمذة على أيدي المستشرقين – فإن من أساتيذهم من تتلمذ ، ولا يعترف ، ولابدّ أنكم جميعا تتذكرون حديث العلامة المرحوم الشيخ "محمود محمد شاكر" في مقدمة كتابه النفيس عن " المتنبي " أن كيف واجه أستاذه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بأن كتابه : " في الشعر الجاهلي " ما هو إلّا عيال على بحث المستشرق "مارگليوث" في هذا الشعر الذي كان نشره – إذا صدقت الذاكرة – في مجلة " الجمعية الآسيوية الملكية " ، والذي ترجمه فيما بعد عن اللغة الإنگليزية فنشره في كتاب الدكتور "يحيى الجبوري". أقول : لابدّ أنكم جميعا تتذكرون هذا الحديث ، وتتذكرون أيضا أن الدكتور طه قد طرد الشيخ محمود محمد شاكر من قاعة الدرس – قارنوا هذا الموقف من مواقف الوردي تجاه شاتميه ، الباحث - " وحرمه من إكمال دراسته الجامعية ، فصيّره شيخ الجامعيين في علمه يأوون إليه يستشيرونه فيما يعنّ لهم من معضلات التراث . وزاد الدكتور عبد القادر بوزيده على ذلك فأثبت في بحث لا أظنّه نُشر ألقاه سنة : 1993 في قاعة النفق الجامعي بالجزائر العاصمة ، أثبت فيه أن الدكتور طه كان في كتابه المذكور يترسّم خطى الباحثين الأوربيين فيما عُرف عندهم بالمشكلة الهوميرية ) (292).
وسوم: العدد 643