محبرة الخليقة (49)
تحليل ديوان "المحبرة" للمبدع الكبير "جوزف حرب"
ملاحظة : حلقات من كتاب للكاتب سوف يصدر عن دار ضفاف (الشارقة/بغداد) قريباً .
وفي كلّ سلوكياته الشعرية التي سطّرها في أغلب نصوصه ، يتسلّح الشاعر بالمحبرة والممحاة ، فهما سلاحه في كتابة الرؤيا ، وأدوات خلق كونه الشعري ، وتصوير مكوّنات قصّة خليقته . كما أنهما أداته في إعادة تشكيل الواقع الفعلي المشوّه وتصحيحه أو تشذيب ملامحه . وتلعب الممحاة دوراً مزدوجاً يعتمد على رغبات ودوافع من يظفر بها ، فحين تكون بيد الشاعر أو ممثليه من محبّي الجمال والسلام ومكرّمي العقل وتساؤلاته ، فإنها تمحو العوائق الجبرية والقهرية التي توضع في طريقه ، كما تمهّد الأرض لتصبح "أبيض" يستقبل "أخضر" عالمه اليوتوبي البهيج من خلال "المحو" المثابر لكلّ مظاهر القبح والعدوان ومخلفات الحروب . أمّا حين تكون في أيدي أعداء الحياة من مشعلي حرائق العدوان ولصوص الحروب ووعاظ سلاطين كهنة ومعمّمين ، وبعضِ فلاسفةٍ وعلماء "تافهين" ، فإنها تمحو مظاهر الحياة والجمال بلا رحمة ، وتمزّق وجه الأرض ورحمها وتجعلها "أسود" متفحّماً مهيّئاً لكي يحطّ عليه "أحمر" الضغينة . إنّه يترسّم خطى معلّمه / الناقد الأول (أو العكس وهو الصحيح) الذي يحمل أيضاً محبرة وممحاة : الممحاة لوجه الدين ، والمحبرة لترسيم وإبراز ملامح وجه العقل . وهو ، أي الشاعر – ولأولّ مرّة – يستخدم الفعل "أغطُّ" بصورة مطابقة لمعناه الحرفي وهو غمس الشيء في الماء أو نحوه (هنا تأتي حركة شعريّة حيث يغطّ ريشته في "روح" حبره) . والفعل "غطّ" هو من المكوّنات الحاسمة لقاموس جوزف حرب اللغوي الخاص ، حتى لتشعر أن أي قصيدة يتكرّر فيها الفعل "غطّ" بصورة مطابقة لاستخدامه في المحكية اللبنانية الجميلة هو نصٌ لجوزف حرب . وغطّ لدى الشاعر فعل يحمل أكثر من معنى الهبوط السريع ولا يعبّر عن المعنى الذي أريد توصيله ويختصره ، أفضل من هذه الصورة الشعرية المثيرة التي تلخّص كلّ شيء :
(ففاحتْ على الأرض رائحةُ النسوةِ
الغامضاتِ . تلوّت بشهوتها شجرات الحقولِ . وغطّ فمُ
الريحِ فوق نهودِ الينابيعِ
وامتصّها . )
وقد غطّى هذا الجانب الحسّي الممتليء على استخدامات الفعل "غطّ" لدى الشاعر حتى أنّه عندما حاول نقله إلى مجال صورة مقزّزة أضعف قبحها .. بل جمّلها :
(وبقايا بيضِ قمصانٍ على خيطانها
غطّ ذبابٌ مورقٌ ، حتى بدت خضراءَ ،
فيها
ياسمينُ . )
والناقد الأول "يغطّ" الآن في أعماق التاريخ ، في رحلة مراجعة عميقة من المؤكّد أنّه يبغي منها تاكيد ما قاله من أنّه "يبحث" ، وقد تحوّل بحثه في بداية هذا المقطع الثالث من الله إلى الإنسان منطلقاً من شهادة التاريخ :
( صُنعَ التاريخُ في أقبيةِ التعذيبِ ،
ما منْ
سُنبلهْ
بقيتْ ، إلّا وفي قامتها
رائحةٌ للمقصلهْ . – ص 1231) .
وصدق المؤرخ الذي قال أن كلّ كذبةٍ في حياتنا لها ذيل طويل اسمه التاريخ . وأوّل كذبة هي أن التاريخ يصنعه الحق والخير والجمال . التاريخ – حسب ناقدنا الأول – يُصنع في أقبية التعذيب على ايدي الجلادين وبسياطهم ، ممزوجاً بصرخات واستغاثات المظلومين . يحيا التاريخ على القمع ، ويرزح البشر فيه تحت الكبت حيث يعيشون عالماً نفسيّاً ممزّقاً بين ظاهرهم وباطنهم ؛ ظاهرهم لا يدل على هوية أعماقهم ، وباطنهم غارق في الظلمات ، كما يراه الناقد القادر على دخول أعماق الأشياء بشراً وتاريخاً :
( أدخلُ الأعماقَ ، لا ألمحُ فيها أيّ
شيٍ قد أراهُ خارجَ الاعماقِ .
يحيا الناسُ
في أعمارهمْ
ظاهرهمْ .
باطنهمْ مختبىءٌ
في عتمهمْ .
لا يتركُ الأعماقَ إلّا
لضريحٍ .
فهو يخشى إنْ رأتهُ الشمسُ أن يُلقي عليهِ القبضَ
شرطيُّ
الكنيسةِ ،
أو قضاةُ الموجِ
في محكمةِ البحرِ .
فلا أعماقُ إلّا وهيَ
وادٍ مظلمٍ تلتجىء الروحُ التي تهربُ من مقصلةِ
الكاهنِ والقاضي إلى
أسودهِ . – ص 1232 و1233) .
ولا أعتقد أن تشبيه السلطة القامعة التي تهلك الإنسان بـ "قضاة الموج في محكمة البحر" هو تشبيه متوازن الطرفين ، فالمشبّه به يلطّف قبح المشبّه الجلّاد الذي أوصل الرعبُ منه الإنسان إلى هذا المستوى الفاضح من التمزّق بين عالم الداخل والخارج ، تمزّق الروح الإنسانية التي ينقل الناقد الأمين صوتها الجريح الآن كما لو أنّها تخاطبه شاكية بمرارة بعد أن غاص في أعماقها فصدمته تشوّهات هذا العالم ، فتطلق صيحة انفصام الذات (أنا لستُ أنا) وشتّان طبعاً بين هذا الحال وحال "الحلّاج" الشهيد صاحب الصرخة الأصلية :
( يا ذاهباً فيَّ بعيداً نحوَ
أعماقي ، أنا ، لستُ انا ، خارجها ،
قيدُ القوانينِ
محانيْ .
جىءْ لأعماقيْ ، أدرْ مفتاحها ،
واشربْ منَ التعذيبِ ما الليلُ
سقانيْ
لترانيْ .
جئتُ ، لكنْ ، لا مكانيْ
سكنتْ حريّتيْ فيهِ ، ولا
عاشتْ زمانيْ . – ص 1233) .
يتواصل مجيء صرخة تمزّق روح الإنسان من ظلمة قبو الذات العميق معبرة عنْ إحباطها الكامل وخيبتها لأنّ ما بنته وعمّرته من حضارات كانت ضحيتها الأولى هي الذات نفسها حيث أمعنت الحضارة في هدم الأعماق ، وحشر الذات في أقبيتها ؛ حضارة كانت تشيد نفسها بالإكراه ، وعلى أساس نكران الإنسان لغرائزه وحاجاته الداخلية العميقة . شوّهت الحضارة تلك "البدايات البيضاء" للنفس البشرية كما يسميها الشاعر ، فباتت تتساءل : (ما هذي الحضاراتُ التيْ لا شيءَ للأعماقِ فيها ؟!) (ص 1234) .
كان الإنسان متصالحاً مع ذاته ، ولا توجد فجوة شاسعة بين متطلبات لاشعوره وتحظيرات شعوره . كانت نفسه هي "أبيض" العالم الذي يحكم نظرته وموقفه من الآخر والطبيعة والله . وبتعبير نفسي لم يكن هناك صدام حاد بين مبدأ الواقع – reality principle ، ومبدأ اللذة – pleasure principle، يعكّر صفاء حياته الداخلية وتوافقه مع عالمه الخارجي . ومن هذا التصالح بين العالمين والمبدأين عاش الإنسان القديم في درجة من السعادة هي أضعاف مضاعفة لما يحياه الإنسان الحديث الذي يرفل بالبؤس :
( هكذا
كنتُ ،
بسيطاً
واضحاً .
لا شيءَ عندي خائفٌ من آخري .
لم تكنِ الاعماقُ
كي تختبىءَ الأشياءُ فيها .
ليسَ بي قمعٌ ،
ولا قيدٌ .
ولا بي تهمةٌ ، أو كاهنٌ
يعلنُ لذّاتي خطايا .
نتتادى
أنا والأشياءُ في الأرضِ كأنّا
نتواصل .
نتكاملْ . – ص 1236) .
هكذا كانت الذات تحيا في عالم متناغم المكوّنات إلى أن جاء "العقلُ" ، وممثلوه الأشاوس ، فخرّب كلّ شيء وأحلّ الكآبة محل السعادة . جاءت الحضارة بسلطة مزدوجة : القمع من الخارج ، والكبت من الداخل . صار تاريخ الإنسان حسبما يقول "ماركوز" هو تاريخ قمعه . وقد تكفل بهذا القمع الدين والأخلاق والعادات والدولة والقانون . كل هذه الجهات القامعة تحالفت لتقصّ أجنحة روح الإنسان وتشوّه فطرته . وحين اختار موقف مقاومتها المشروع ، شُنّت عليه حملة التشويه – شكلاً ومضموناً – فقد صار "ناقداً" ، ويبدو أن كلّ ناقد يكون مصيره هذا التشويه . وها هو الإنسان يلتقي مع الناقد الأكبر في النتيجة : هما ضحيتا الموقف النقدي ، ومحاولة كتابة "نص" الحياة بصورة أخرى يرونها أكثر صحّة . لكن عذابات الإنسان الناقد / الشاعر أكبر من عذابات الناقد الأول ، فهي عقوبة مضاعفة : جحيم التعذيب في الحياة الدنيا ، وجحيم لله في الحياة الآخرة :
( حاولتُ إخفائيَ عن عينِ الذي قدْ جاءَ ،
لم اقدرْ ، فقاومتُ ، فصارتْ تهمتي المفسدَ في
الأخلاقِ ، والمجرمَ
في القانونِ ،
والخائنَ
في الدولةِ ،
والشيطانّ
في الدينِ .
وبتُّ الناقدَ الأكبرَ في الأرضِ لما حُبّرَ
فيها من نصوصٍ ، وعلاها من حضاراتٍ . فطافتْ
حوليَ القضبانُ ، والمقصلةُ الحمراءُ غطّتْ فوق عنقيْ ،
وعدوتُ الكافرَ ،
المطرودَ ،
والملعونَ ،
قبلَ الموتِ ، لي أقبيةُ التعذيبِ .
بعدَ الموتِ في ذاكَ الزمانِ
السرمديّْ ،
ليْ جحيمٌ أبديّْ . – ص 1238 و1239) .
لقد كان جسم الإنسان توأم روحه ووعاءها الحاني ، وممر تعبيراتها وانفعالاتها ، وأداة إشباعها . جاء القمع وشق وحدة الإثنين ، وجعل الجسد أداته ، فانزوت الروح وذبلت وصارت قبواً للأعصبة والإضطرابات النفسية . جاء "الدين" فأشعل حرباً بين الشقيقين : الروح والجسد . صار على الروح أن تراقب الجسد وتؤثّمه وتحاسبه . وصار الفرد ككل قدّيساً معصوباً يحرّم أولاً على نفسه حاجات جسمه . وكأنّ الخطوة الأولى في القداسة أن "تخصي" نفسك ذاتيّاً . هنا ، حلّ في الحياة الإنسانية وجه "الإله المكفهرّ" محل وجه "الإله الباسم" العطوف . ظهر عصابيو الدين الذين يلعنون أمهاتهم اللائي ولدنهم حين يحقّرون جسم المرأة ويصمونها كحيّة مغوية ، ويحرمّون لمس يد المرأة الطاهرة في المصافحة ويحللون جماعها من الدبر ! أصبح الفعل الجنسي - مثلاً - وسيلة الجسد للتكاثر الحيواني بعد أن كان وسيلة يلتحم فيها الجسد بالروح للوصول إلى الذروة حيث الإحساس بالألوهة والإلتحام بالمطلق ففي الفعل الجنسي تتأكد ألوهية الإنسان ، أما الآن فقد صار مدخل إثمه ومصدر مشاعر ذنبه :
( دخلَ الدينُ إلى روحي ، فشكّت
سيفها في جسدي .
أصبحتُ
قدّيساً .
وما ينفعُ قدّيساً بناءُ الأرضِ
إنْ قامَ إليها
لاعناً أحجارها ؟
جاعلاً من عشقوا العيشَ بها
كفّارها ؟
لمْ يباركْ مرّةً عصفورها . لم
يَعطِ قوسيْ أخضرٍ
أشجارها ؟
ويصلّي كخريفٍ راكعٍ أنْ يُيْبِسَ
اللهُ لها
أشجارها ؟ - ص 1241 و1242) .
صارت "العبودية" هي عنوان الحياة الجديدة . الإنسان عبدٌ للدين ، وروحه عبدٌ لتعليماته ، وجسده عبدٌ لروحه المعصوبة . وهذا هو مصير كل كائن يقصّ القمع جناحيه ، ويجعل وجوده أرضيّاً لزجاً وثقيلاً ، مثل كيس من التعاليم يزداد وزنه يوماً بعد آخر بسبب تعدد "مناهج" القمع ووصايا "مذاهبه" . وحين يثور الإنسان وتنفلت روحه زهقاً لتحطيم قيود العبودية ، يوصم بالشيطنة . إما عبدٌ أو شيطان ، هذا صار مصير الإنسان . لا ناصر له ولا معين إلا الشاعر الذي تسلّم الراية من الناقد الأول والأكبر العاصي ، الشاعر الجسور الذي ينتصر لشيطانية الإنسان مادامت طريقاً للإنعتاق من العبودية ، ولا يتردّد في التأكيد على ضرورة مواجهة السجّان والمسترق الأكبر : الدين .. الدين .. الدين .. :
( أنا
العقلُ الذي يصحبنيْ .
والناقدُ الأعلى .
سراجُ الحيرةِ
الّلماحُ .
والمغوي .
ولا تلفيقَ عنديْ .
يُضحكُ الصوفيُّ أعماقيْ .
وما اللاهوتُ إلّا حُفنةٌ
منْ حجرٍ في العقلِ .
والتفسير سجّانٌ
تمشّى في جوابِ الغيبِ .
لا
معتزليٌّ وعصا ،
إلّا سؤالٌ أعرجٌ .
إنّيَ
مغرٍ ،
قلقٌ .
لا بي طمأنينةُ
ديرٍ . لا
سلامٌ فيَّ .
إنّي ناقضٌ .
في النصِّ ،
أُلغيْ ،
لا
أضيفُ . (...)
كانت قراءاتي
صليبي .
محنتيْ
نقديْ .
وتأويلي
جراحيْ .
ولطيرِ البومِ من أوديةِ الكهّانِ
في رأسيْ
حفيفُ . – ص 1246 – 1249) .
إنّه الشاعر وقد تماهى مع الناقد الأوّل الجبّار الذي ارتكب الخطيئة الأولى . تلك الخطيئة التي كانت اختباراً إلهياً عظيماً لإرادته حين تُمتحن حرّيته . وكان موفّقاً جداً في امتحانه الأول حين رفض وارتكب المعصية مؤكداً على أنه إنما يثبت عن هذا الطريق امتلاكه حرّيته ، وأنّ إرادته غير مرتهنة بأمر أو سلطة مهما كانت متعالية . والشاعر / الناقد الوريث يصرّح أمامنا علناً أنه خطّاءٌ يرتكب المعاصي والآثام ، وكلّما ارتكب إثماً صارت روحه أكثر "بياضاً" . لقد جعل الضمير منّا جميعاً جبناء كما يقول "هملت" شكسبير . فمع نموّنا يتحوّل الإكراه الخارجي الذي تقرضه الحضارة إلى إكراه داخلي ذاتي ، أي إلى ضمير . هذا القمع الخارجي الذي هو مفروض اصلاً من الأب ، قابل لأن يُعاد إنتاجه ويُسترد بشكل ما من قبل الفرد نفسه (87) ، فيرعبه ويشلَّ إرادته بفعل الرقابة الداخلية الساهرة الراصدة التي يتساوى لديها الفعل مع النية بالقيام به . هكذا تصبح علاقة الأنا بالأنا الأعلى علاقة "عبودية" ، علاقة عبد بسيّد جائر رغم أنّ الأنا قد نضج واكتمل . يصبح الأنا الأعلى ممثلاً للسلطات وفي مقدّمتها الدين ، ويخضع مبدأ اللذة لمبدأ الواقع ويصبح عبداً له فنصبح عبيداً للدين ، ولا تبقى من لذّة في الحياة إلّا في ارتكاب المعاصي ، وهي محرّمة علينا خصوصاً الآن من أبسط أشكالها إلى أعلاها . فالحضارة تجعل مبدأ الواقع وسلطاته وممثليه وفي مقدّمتهم الدين هو القاعدة التي تظهر وتنمو وتستظل بظلّها . وهذا يعني أن الإنسان يتقبل عبء التخلّي عن اللذة وتأجيل تصريف النزوات أو توجيهها نحو قنوات محدّدة باسم المثالي الثقافي الجماعي . بتعبير صادم يُصبح "جباناً" حين يفكّر بخرق محظور أو باقتراف أي خطأ يعدّه الدين إثماً برغم براءته و"بياضه" . الشاعر وحده الذي يجسر على خرق هذا المحرّم :
( كلّما في الكونِ روحي ارتكبتْ
إثماً ، غدتْ أكثر بيضاءَ كلوزٍ سوف يأتي
بعدَ ان يرتكبَ الاصفرَ في الأرضِ
الخريفُ .
خطأٌ
في خطأٍ ،
في خطأٍ
تخرجُ منهُ حرّةً معرفتيْ . غيريْ
اطمانت روحهُ .
أغفتْ
على ثابتها .
وهوَ
كقبرٍ ،
ميّتاً من ألفِ عامٍ
يستضيفُ . – ص 1251 ) .
وسوم: العدد 643