أَسْرَلَة التاريخ!
رُؤى ثقافيّة 193
كيف البحث عن تاريخٍ وجغرافيا أهلُهما غير مستيقنين منهما؟ بل إن كتابهم "المقدَّس" لمضطربٌ، متناقضٌ، غاية الاضطراب والتناقض. إلى درجة أنه يقول لك إن بني إسرائيل من نسل (سام)؛ فـ"سَامٌ أَبُو كُلِّ بَنِي عَابِرَ"(1)، وهو (عابر بن شالح بن أَرْفَكْشَاد بن سام)، الذي تقول عنه التوراة: "وَعَاشَ شَالَحُ ثَلاَثِينَ سَنَةً وَوَلَدَ عَابِرَ. وَعَاشَ شَالَحُ بَعْدَ مَا وَلَدَ عَابِرَ أَرْبَعَ مِئَةٍ وَثَلاَثَ سِنِينَ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ. وَعَاشَ عَابِرُ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ سَنَةً وَوَلَدَ فَالَجَ. وَعَاشَ عَابِرُ بَعْدَ مَا وَلَدَ فَالَجَ أَرْبَعَ مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ."(2) وهو ما يُفهم منه أن (عابر) هذا هو جدّ العبرانيِّين. لكن (موسى) سيأتيك لاحقًا- حسب كتابهم- ليقول: إن بني إسرائيل من نسل (أرام بن سام)، أخي (أَرْفَكْشَاد بن سام): "أَرَامِيًّا تَائِهًا كَانَ أَبِي، فَانْحَدَرَ إِلَى مِصْرَ وَتَغَرَّبَ هُنَاكَ فِي نَفَرٍ قَلِيل؛ فَصَارَ هُنَاكَ أُمَّةً كَبِيرَةً وَعَظِيمَةً وَكَثِيرَةً. فَأَسَاءَ إِلَيْنَا الْمِصْرِيُّونَ، وَثَقَّلُوا عَلَيْنَا وَجَعَلُوا عَلَيْنَا عُبُودِيَّةً قَاسِيَةً...".(3) وستخبرك التوراة كذلك عن لسان بني إسرائيل وأنه لغة (عابر) السامي، غير أنها ستخبرك في موضع آخر أن لسان بني إسرائيل هو لغة (كنعان) الحامي. فمع أنها كانت قد قالت لك إن (كنعان) من نسل (حام): "وَبَنُو حَامٍ: كُوشُ وَمِصْرَايِمُ وَفُوطُ وَكَنْعَانُ"(4)، وأن العبرانيّين من نسل (سام)، بيد أنه يبدو أنْ لا إشكال في ذلك التاريخ حين يرجع إلى القول إن العِبريّة كانت لغة (كنعان): "وَتَكُونُ أَرْضُ يَهُوذَا رُعْبًا لِمِصْرَ. كُلُّ مَنْ تَذَكَّرَهَا يَرْتَعِبُ مِنْ أَمَامِ قَضَاءِ رَبِّ الْجُنُودِ الَّذِي يَقْضِي بِهِ عَلَيْهَا. فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ فِي أَرْضِ مِصْرَ خَمْسُ مُدُنٍ تَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ كَنْعَانَ وَتَحْلِفُ لِرَبِّ الْجُنُودِ، يُقَالُ لإِحْدَاهَا (مَدِينَةُ الشَّمْسِ)".(5) تاريخٌ يضرب بعضه بعضًا، وكتابٌ في كلّ سِفْرٍ له لسان.
ولكأنما هاجسٌ من التملّك التاريخي ظلّ يختلج في نفوس هؤلاء الكهنة الكتبة؛ لعُقَد تاريخيَّة من عدم امتلاك وطنٍ، فهم العِبريُّون، وهم الآرميُّون، وهم الكنعانيُّون، وهم الحاميُّون، وهم الساميُّون- كلّ الساميِّين- وهم في نهاية الأمر شعب الله المختار، وجنوده، وأحبّاؤه، وربُّ الكون نفسه محتكَرٌ لهم وحدهم، يأمرونه فيأتمر. إنها ديانة الطوطم/ الأب البدائيّ المتوارث، التي وَرَثَتْها ديانةُ الابنِ الأضحيةِ الفادي في المسيحيَّة(6). وكما هم متعدِّدو الهويّات، فإنهم متعدِّدو الأوطان؛ فهم في الشام، وهم في مِصْر، وهم في العراق، وهم في الحبشة، وهم أخيرًا في جزيرة العرب، ببركة بحوث (الصليبي)، وصحابته من المؤلِّفين وأتباعه.
وما عاد اليوم من شكٍّ في أن ادّعاءات "العهد القديم" مُريبة، بصفةٍ عامّة. فقد مضت قرون متطاولة عليه وهو ينسب إلى بني إسرائيل ممالك هائلة، وأبنية عظيمة، ثم إذا نُقِّب عن آثار ذلك في العصر الحديث، لم يوجد من ذلك شيء. في حين بقيت شواهد الأُمم الأخرى ماثلةً للعيان، في مِصْر والشام والعراق والجزيرة العربيَّة. ولا تفسير لهذا إلّا أن الأَسطرة- ذات الأغراض الدِّينيَّة والإديولوجيَّة- قد لعبت دورها في تلك الصورة الخياليَّة المضخّمة جدًّا عن تاريخ بني إسرائيل. لذا ما كان من منطقٍ في افتراض أن ذلك التاريخ- إذْ لم يُعثر على آثاره الحرفيّة في (فلسطين)- هو في مكان آخر، أشدّ بؤسًا في شواهده، بل هو خلْو منها تمامًا!
وإن جنون العظمة الأُسطوريّة القديمة، وهوس الاستئثار والاستيطان، ما زالا قائمَين اليوم على أَشُدّهما، منذ احتلال فلسطين، بحُجج تاريخيَّة أُسطوريَّة واهية، ولا تمتّ إلى العبرانيّين الساميِّين القدماء بصلة، سوى صلة الدِّين المؤدلج والموظَّف سياسيًّا. وحتى أولئك العبرانيُّون الساميُّون القدماء إنما كانوا من الساميِّين الذين هاجروا من الجزيرة العربيَّة إلى بلاد الرافدين، ثمَّ قَدِموا من (العراق)- أو من (أُور الكَلْدانِيِّين)، حسب نصّ "التوراة"- واحتلُّوا فلسطين، أرض (كنعان)، (حوالَى 2200ق.م)، مبرِّرين ذلك بمنحة أرضٍ إلاهيَّةٍ خاصَّة.(7) فلقد دعموا المطامع الاحتلاليَّة بالدِّين منذ أوّل يوم، ليصبح الدِّين سياسة والسياسة دِينًا. ثمَّ احتلُّوها ثانيةً بعد خروجهم من مِصْر، مُبيدين مِن أهلها آلافًا مؤلَّفة، حسب مفاخرهم الدمويَّة المقدَّسة، وذلك وَعْد (يَهْوَه) لهم، بأن "يُبِيْد" الشعوبَ في سبيلهم!(8) ثمَّ احتلُّوها ثالثة بتمكين (الفُرْس) لهم، إذا أعادهم الملك الفارسي (قورش) من (بابل) إلى (أورشليم)- بعد مئة عامٍ من السبي وتدمير أورشليم على يد (نَبُوخَذْناصَّر)- وذلك مقابل عمالتهم، جاسوسيَّةً، وتآمرًا، وحراسةً، وتموينًا، ومساندةً عسكريَّةً، للإيرانيِّين كي يحتلّوا العراق والشام، ثمَّ يتوغّلوا في احتلال مِصْر. وما أشبهَ الليلة بالبارحة! وفي العصر الحديث جاء الاحتلال الرابع، 1948، بوعدٍ من ربِّ الجنود الجديد هذه المرَّة، وهو (بلفورد)، ومن ورائه (المملكة المتَّحدة الاستعماريَّة البريطانيَّة) و(الولايات المتَّحدة المتصهينة الأميركيَّة) والغرب عامَّة، لتحقيق ثلاث مصالح غربيَّة، تخبط في غياهب اللؤم والمكر، المتجرِّد من القِيَم الأخلاقيَّة والحضاريَّة:
1- كي تكوِّن إسرائيل دولة وظيفيَّة، تقوم بدور الخليفة عن الغرب في رعاية مصالحه القائمة في مستعمراته القديمة في الشرق الأوسط وأفريقيا.
2- ليتخلّص الغرب من الخَزَر اليهود الذين كانت لهم إمبراطوريَّة في شرق أوربا، وكانت امتداداتهم آخذةً في التغلغل المقلق في دول أوربا، تاريخًا وتركيبةً سكّانيةً وعقيدةً، فكان لا بُدّ من إلقاء ذلك العبء عن كاهل أوربا بعيدًا.(9)
3- لتكون تلك الجريمة بمثابة كفّارة للغرب- وإنْ ظاهريًّا- عن جريمته في الهولوكوست النازي وغيرها من الجرائم، من مظالمه التاريخيَّة لليهود(10)، وذلك بابتكار هولوكوست أخرى مستمرَّة في فلسطين، تغدو أضحيةَ الاستغفار الأخير للغرب، ومُحرقته الحديثة في مرضاة الربّ.
وهكذا- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي- سلَّمت بريطانيا (الدولةَ العربيَّةَ الفلسطينيَّةَ)، التي كانت تحت انتدابها منذ 1923م إلى 1948م، لا إلى أهلها الأصليِّين منذ ما قبل التاريخ- التي كانت منتدبة على بلادهم كما هو مقتضى جميع الشرائع الحقوقيَّة- بل، وبكلّ صفاقةٍ واستخفافٍ بالحقوق والقوانين والتواريخ، إلى أعدائهم من الصهاينة! فالحقوق والقوانين والتواريخ محكومة بمنطق القُوَّة والمصالح، تسير في ركابهما أنَّى سارا، لا بمنطق الحقّ والعدل والإنصاف، وَفْق المبادئ النظريَّة لهذه القِيَم. وأَنَّى لمحتلٍّ مستعمرٍ كبريطانيا أن يفقه إلَّا لغته في احتلال بلدان الشعوب وقوانينه في استعمارها؟! وخرجت الأرض من يد سارقٍ إلى يد سارقٍ جديدٍ عتيقٍ، وجرى تقسيم الكعكة الفلسطينيَّة- حسب قرار الجمعيَّة العامَّة التابعة لهيئة الأُمم المتحدة، رقم 181 الصادر في 29 نوفمبر 1947- وما بعد التقسيم من توسّعات الاحتلال الإسرائيلي من جهةٍ، وتنازلات العرب المطَّردة، من جهةٍ أخرى، والمنحدرة من هزائم عسكريَّة إلى هزائم نفسيَّة وتاريخيَّة أحطّ وأردَى. وفي هذا يَبرُز الوجهُ التطبيقيُّ الصارخُ لمنهجيّات "العابثين بالتاريخ" على قارعة الجغرافيا وفوق أشلاء الشعوب.
لقد كانت، إذن، سياسة مزدوجة لضرب اليهود والعرب معًا، ومن ثمَّ إرضاخهما واستغلالهما واستنزافهما في آن. وإلّا فقد كان الرئيس السوفييتي (جوزف ستالين Joseph Stalin، -1953) منحَ جمهوريَّة (بيروبيجانБиробиджан )، الواقعة جنوب شرق روسيا، ليهود العالم، لحلّ مشكلتهم التاريخيَّة، ووهبهم فيها حُكمًا ذاتيًّا، عام 1934. وتوافد المهاجرون اليهود إليها من كلّ العالم لعِدَّة أعوام. غير أن الإرادة السياسيَّة الغربيَّة كانت ذات أهداف أخرى، ترتكز على الثلاثة المشار إليها آنفًا.
ذاك كان تاريخ احتلال إسرائيل أرض فلسطين. وصولًا إلى السطو على ثقافات الشعوب وتراثهم وتاريخهم وصناعاتهم وفنونهم. وبذا يتبيَّن أن علاقة اليهود بفلسطين علاقة احتلال منذ الأزل، ولا صِلة لهم بفلسطين مطلقًا خارج منطق "الاحتلال"، منذ أن جاؤوا هائمين على وجوههم من بلاد الرافدين أوّل مرّة، بَدْوًا رُحَّلًا، فاحتلوا أرض كنعان بغيًا وعدوانًا- ولم تكن لهم بها من حقوقٍ قطّ، ولا من سالف عهدٍ، في أيّ حقبةٍ من حِقَب التاريخ. هذا في جانب الأرض، أمّا في الجانب الثقافي، فتجلَّى السطو الثقافي قديمًا حتى من خلال "العهد القديم"، بما اقتبسه هذا الكتاب منتحلًا من تراث كنعان ومصر وبابل، وغيرها من تراثات الحضارات في الشرق الأوسط، فأَسْطَرَه، وأَسْرَلَه، وانتسبه لبني إسرائيل وتاريخهم، ملبسًا أبطاله- مصريِّين كانوا أو شاميِّين أو عراقيِّين- طاقية اليهود الدِّينيَّة التقليديَّة.
_____________________________________________
(1) سِفر التكوين، 10: 21.
(2) سِفر التكوين، 11: 14- 17.
(3) سِفر التثنية، 26: 5- 6.
(4) سِفر التكوين، 10: 6.
(5) سِفر إشعيا، 19: 18.
(6) انظر: فرويد، سيجموند، (1986)، موسى والتوحيد، ترجمة: جورج طرابيشي (بيروت: دار الطليعة)، 119، 122.
(7) انظر: العهد القديم، سفر التكوين، 11: 27- 28، 31، 15: 7؛ ديورانت، وِل وايريْل، (1971)، قِصَّة الحضارة- الشرق الأدنى، ترجمة: محمَّد بدران (بيروت: دار الجيل)، ج2 م1: 324.
(8) انظر مثلًا: سِفر الخُروج، 23: 23- 24.
(9) الخَزَر: شعبٌ اختُلف في أصوله. والغالب أنه من قبائل تنحدر من جذور تركيَّة، تُخالطها قبائل أوربيَّة أخرى مترحِّلة. كوّن الخَزَر بين القرنين الثامن والعاشر الميلاديّين إمبراطوريةً منداحةً في القارَّة الأوربيَّة، قَلْبُها بين (بحر قزوين) و(البحر الأسود)، وتتخذ من (أتيل)، شمال بحر قزوين- الذي كان يُسمى: "بحر الخَزَر"- عاصمةً لها.
(10) معروف تاريخيًّا- على سبيل الشاهد- أن ترحيب اليهود في (إسبانيا) بالفتح الإسلامي، بل تعاونهم مع المسلمين، إنما كان لما وجدوا فيهم من مخلّصٍ تاريخيٍّ من مظالم كانت تحيق بهم واضطهاد كانوا يتجرعون ويلاته من أتباع الكنيسة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «أَسْرَلَة التاريخ!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الأربعاء 13 يناير 2016، ص27].
وسوم: العدد 651