قراءة في كتاب "كرمة".. وكيمياء السعادة
لن أُحلّق في فضاءات إفتراضيّة، لكن سأحمل جسدي عبر موجات واقعيّة، وأرسم للحياة نوتات موسيقيّة، وأهيمُ في عالم الرّوحانيّات الجميلة لتُغبطني فرحًا وسعادة أبديّة. الذّكريات قلاّدة في الجيد ثمينة.. الأحاسيس والمشاعر كنوز في القلب دفينة .. أمّا البر والوفاء فهي خصال في الجسد مضيئة. سأعتذر من "عزرائيل" إن أتاني لأواصل قراءتي للعمل الأدبيّ للكاتبة "خولة سالم" في باكورة مؤلفاتها "كرمة" الصادر عام 2016 عن دار العماد للنشر والتوزيع في الخليل، والتي تقع في 135 صفحة من القطع المتوسّط. تحلّت الكاتبة بعمق الفكر والجدليّة الذاتيّة، وارتأت لنفسها تلك الجرأة للبحث عن الأمان في جوف الزّمان ومصير الرّوح الحتميّة. صراعات تجوب الفؤاد وتهلك الجسد في رحلةٍ ما بين الوهم والخيال والواقع. كتاب حمل بين دفّتيه شذرات وخواطر ونصوصا أدبيّة غزيرة معظمها حزينة، توحي بذلك العبء الكبير الذي تحمله على كاهلها.
زفرت الكاتبة زفرة غضب، وقلبها يئنُّ من شدّة التعب، فوضعت الحواجز أمامنا دون عتب. سبقتنا بكلماتها كَمَن يُلقي العصا أمام راعي غنماتها، فحصّنتْ نفسها كليّا من نقد أفكارها التي تخصّها وتحملها في جعبتها، غير آبهة بمن يخالفها الرأي أو ما يخطّه قلمها. أثارت الفضول وبحثنا وإيّاها عن الحلول، إنها مسألة حياتيّة لكلٍّ منها مدلول، وتساؤلات من عميق الفطرة تختصّ بالأصول. تجدها ديكارتيّة الأطباع، لن تتقبّل كلّ ما هو في حياتها، إلاّ بعد التّمحيص والتّفكير والتّأمل ومن ثَمَّ الإقتناع. القضاء والقدر يؤرقان حياتها، تراها حينًا تُعلن العصيان والتّمرد والرّفض، وأحيانًا أخرى تستسلم لما وراء الغيب. أجادت الصّور المجازيّة وعَلَت بجناحيها فوق السّحاب تتأمّل البشريّة، فهناك الأسّرار الغامضة تبحث عنها بغريزة قويّة، ورحلنا معها بشغف الوصول إلى نتيجة مصيريّة. سمعنا همساتها تُخاطب أرواحًا غابت عن أجسادها، وقطرات دموعها أمطار تفجّر الأرض أنهارا، فتأبى إلاّ أن تجد روحها التّائهة عنها. الحرب بين الجسد والنّفس علا وتيرها، وصوت الدّاخل الصّارخ عندها ليس كصوت خارجها.
إستخدمت الكاتبة "خولة" المفردات الكثيرة، منها البسيطة ومنها ذات المعاني العميقة خلال نصوصها، وتجلّت البلاغة اللغويّة والصّور المجازيّة على غالبيّة مُؤلّفها. لا شكّ أنّها تتحلّى بثقافة مميّزة لمسناها من خلال قراءتنا، ترتقي بها لمُخاطبة شريحة إمتازت بخبرة سنين طويلة في الحياة، وخاضوا أيضًا ظروفًا قاسيّة. هناك العديد من الكلمات المتكرّرة يستطيع المُتصفّح أن يلاحظها بوضوح، وقد يعود السّبب في ذلك إلى تباعد الفترات الزّمنيّة في التّدوين وعدم المراجعة. كذلك من الممكن إختصار بعض النّصوص لتشابه المغزى والمعنى. الحقُّ يُقال أنّنا لا نستطيع الجزم أنَّ كلَّ المجتمع الذّكوريّ كما صرّحت الكاتبة يحتقر المرأة، فهناك من يحترم ويقدّر وهناك مَن بالفعل واصل درب غيره من الجهل المستفحل. وعليه نجد أنَّ غريزة الأنتقام ظاهرة في شخصيّتها، حيث تشتعل في داخلها بين الفينة والأخرى روحًا عنيفة وهجوميّة، وهي تُصرُّ أن تعيش حياتها الأنثويّة وفق قناعاتها التي تؤمن بها. كذلك تُحرّض مثيلاتها على التّحرّر من الكبت والقيود المجتمعيّة ومن إمرة أسيادهنَّ، وهذا بالتالي يتنافى مع العادات والتقاليد الدّارجة في البيئة القرويّة المحافظة.
وما تنطق عن الهوى، فإيحاءاتها المتكرّرة بألوان متقاربة تجعل وتيرة الشّعور لدى القارئ واحدة، شذرات لها من الواقع بذرة أيتها الكاتبة، لا تنمو في عواطفك إلاّ إذا كان هناك مَن يرويها بسخاء وكرم، أو يبخل ويقتلع من أعماق الحياة جذور الوفاء. تارة تُدمن طيف الحبيب ويقتلها البعد عنه، وتارة أخرى تلوذ بالفرار وتخلع بمِشرطها ذلك القلب الذي يُفكّر به. هذا لم يمنعها من إحتراف الرّومانسيّة المُجرّدة المحفوفة بالكلمات المباشرة، والرّقي بمواقف أشخاص يعزّون عليها في حياتها، وتجارب عاطفيّة أبت إلاّ أن تطفو على بعض نصوصها.
إستطاعت "خولة" أن تأسر قلوبنا بقلمها وتجرحنا، وأن تنصب خيامًا من العزاء في مآقي عيوننا ، وتحمل سكّينًا في قلبها يجتثُّ كلّ ذرّات حُبّنا. إنّها جبروت أنثى تتألّم ولا أحد يسمعها، تحاول أن تخطو بتأنٍّ في الحياة وتأتي الأمور بجديّة، وإذ بأحلامها تتبعثر بعد المناجاة، وتنزف الفراق وتبحث عن طيفٍ في عالم السّراب. لقد غاب كليّا عن النصوص دواء الرّوح والقلب، فقد اعتمدت الكاتبة على الحياة الماديّة المحيطة، وتجاهلت أنَّ الإنسان بأفكاره ضعيف، ولا يقوى على مجابهة الحياة وصعابها النّفسيّة والجسديَة، إلاّ بالخنوع طوعًا إلى شرائع السّماء. قال تعالى في سورة الحجر: " وَلَقد نَعلمُ أنّكَ يضيقُ صدركَ بما يقولون فسبّح بحمد ربّكَ وكُن من السّاجدين ". إنّني أرى أنكِ وصلتِ إلى شفا هاوية بتلك الأفكار، بَيْدَ أنَّ الإستعانة بآيات وكلمات الله هي مصدر سعادتنا، وتقي أرواحنا وقلوبنا من المرض والأرق والنّزاع، ويورثنا رضى نشعر به ويستقر فينا. كان من المحبّذ أن نُقحِم بعض التّناص الدّينيّ الذي يخفّف من عبء الحزن الذي ساد جمهور القرّاء، وإيجاد توازن منطقيّ بين كمية العطاء وبين التّغذيّة الإسترجاعيّة لدى القارئ. في الحقيقة هناك الكثير ما يمكن أن نشيد به عبر نصوصكِ الجميلة والمعبّرة، وأتمنّى لكِ التّوفيق في أعمال أدبيّة قادمة، وإليكِ من "القدس" تحيّة وصندوقًا من "الحلقوم" الذي تشتهينه.
وسوم: العدد 655