الأدب وتوقع صناعة التطرف

منذ ما يزيد عن ستين عاما، نشر طه حسين، في كتابه: (خصام ونقد)، مقالا عنوانه: (محنة الأدب)، قدم لنا فيه صورا من محنة الأدب، في مجتمعه في تلك الفترة، حتى صار المجتمع يشكو إجداب القرائح وكلال الأذهان. ورجَعها إلى عدة عوامل أهمها، عنده، ثلاثة هي: انعدام الحرية، وعزوف الناشرين عن نشر أدب الشباب، وضعف التعليم الأدبي.

هذا ما قاله طه حسين منذ ذلك التاريخ البعيد. ولو عاش بيننا لذكر وجوها أخرى لمحنة الأدب، فنحن نقرأ ما لا نفهم، وما لا يفهم الكاتب نفسه، ونضيّق على الأدب الرفيع، ونفسح المجال للأدب الرقيع، ونتطاول، باسم الحرية، على المقدسات، وأقدسها ذات الله عز وجل، ولكننا نخاف أن نقول للمستبد يا مستبد، وللظالم يا ظالم! ونحقق الثورة المزعومة بهدم القيم، وهدم اللغة، وهدم ما كل ما هو جميل، ونسمي ذلك تفجيرا، هو من مستلزمات الحداثة! تفجير للغة، وتفجير للمقدس، وتفجير للماضي، الذي ينبغي أن ننظر إليه في غضب، حتى ولو كان في ذلك الماضي سر عزتنا وقوتنا ومناعتنا، وثورة على كل "المحرمات". ولا يعرف هؤلاء أن لكل مجتمع مقدساته التي لا يجوز أن تمس. ولولا ذلك لما نصت معظم دساتير العالم على عقوبة الخيانة العظمى.

في سبعينيات القرن الماضي أصدر نزار قباني ديوانا سماه: (مائة رسالة حب)، وكان مليئاً بالتطاول على ذات الله عز وجل، وعلى الملائكة، ومن ذلك الرسالة (4)، والرسالة (20) بخاصة، مما لا أجيز لنفسي نقله هاهنا.

وكتبتْ يومها جريدة (الشهاب) اللبنانية مقالا عنوانه: حِمَى الله الذي استباحه كل فاجر.

هذا، ونزار يسفّ في غزله، أحيانا، إسفافاً غريبا، كقوله:

أحملك كطعم الجدري

وأتسكع معك

على كل أرصفة العالم.

أي معتوه يتغزل بحبيبته، ثم يصفها بأنها كطعم الجدري؟؟

ولكن ما يهمنا، هنا، هو الوجه الآخر، المتعلق بالتطاول على المقدسات، مما يولد ردود فعل، قد تكون بابا للتطرف، كتطرف الشاعر، وربما نما ذلك التطرف وتحول إلى إرهاب.

وفلتات نزار قد لا يكون منطلقَها استخفافٌ بالعقيدة، مثلما ما هو الحال مع شعراء متأدلجين. وهذا ما أميل إليه، حيث لا يعدو أن يكون شعر نزار من باب التماجن الذي عرف عن أبي نواس القائل:

يا أحمد المرتجى في كل نائبة    قم سيّدي نعص جبار السموات

وإذا ارتكب النواسي حراما، ودوّنه في شعره، لم ينكر أنه حرام، ولكن شيطان شعره يوحي إليه زخرف القول غرورا، فيقول:

وإن قالوا: "حرامٌ" قل : "حرام"        ولكنّ اللذاذة في الحــــرام

أما "حداثيونا" فلا يرى أكثرهم أن هنالك شيئا اسمه الحلال والحرام، وربما عكسوا الأمر، فصار الحلال حراما والحرام حلالا، كما صنع أدونيس في : (زمن الشعر)، عندما دعا إلى (تمجيد الخيانة)، ومتابعة نيتشه في القول بــ (موت الله)!

ولئن كان لأدونيس وجماعة(شعر)، ومن ورائهم الراهب يوسف الخال، من إنجاز حققوه، فهو كونهم استطاعوا فعلا (تخريب اللغة)، و(هدم القيم). فذلك أمر تفوقوا فيه إلى حد كبير، يفوق بدرجات ما حققوه في باب الفن الرفيع. وحسبنا أن ننظر فيما تنشره الصحف السيارة اليوم، في العالم العربي، مشرقا ومغربا، حتى في بعض دول الخليج التي نحسبها معقلا للمحافظة، لنتحقق من هذا الكلام. فنحن نقرأ كلاما، يصنف ضمن دائرة الشعر، ونحن لا نجد فيه من مقومات الشعر شيئا. ونحن قد نقرأ كلاما هو أقرب إلى كلام المعتوهين منه إلى الأدب. وكثيرا ما حدثتني نفسي بضرورة حمل العصا الغليظة التي أوصى بها عباس محمود العقّادُ النقاد، لكيلا يتسلل المتطفلون إلى حرم الأدب، ثم أنصرف عن ذلك إلى ما أعتبره أنفع لي وللناس.

ولكنّ ما أقف عنده اليوم يكون السكوت عنه من أكبر المنكرات التي أحاسب عليها يوم القيامة، ولا يعنيني من مجد الدنيا الزائف شيئا، ولا أن أرضى طائفة من الناس، أو أغضب طائفة أخرى، فحسبي إرضاء الحق وحده. ذلك بأن الأمر يتعلق بالاعتداء على أقدس مقدسات هذه الأمة، وهي ذات الله عز وجل. وإني لأعجب كيف تبدد ثروات الأمة فيما يهدم عقيدتها وأخلاقها وقيمها، بنشر هذا الغثاء تحت مسمى الإبداع.

الثروات التي حبا بها الله عز وجل أمتنا، تستعمل سلاحا لهدم الأمة، على مرأى ومسمع ممن لا نشك في غيرتهم على الأمة وقيمها. ولكن، كما حدث لعمر رضي الله عنه مع المرأة التي وجدها وأبناءها يتضورون جوعا، في خيمة بعيدة معزولة عن الناس، بظاهر المدينة، وهي لا تجد طعاماً لصغارها، فسألها عن أحوالها، فقالت له، وهي لا تعرفه: نشكو عمر إلى الله. فقال لها: يا أمة الله، ومن أين لعمر أن يعرف بحالك؟ فقالت: أيلي أمرنا ثم لا يعرف حالنا؟

وبعض ولاة الأمور، عندنا، هم من أهل الأدب والعلم والفكر، لا يتذوق ذلك فحسب، بل يسهم في إنتاجه. وقد كنت يوما مع بعض الأمراء على مائدة، في شهر رمضان، وهو اليوم في هرم السلطة في بلاده، فقال: "نحن لا نرفض النصيحة، ولكن لا نقبل أن تكون بعنف، ولا أن يلجأ بعضهم إلى تقريعنا. لماذا يكفروننا؟" وهذا صواب. فالنصيحة يراعى فيها اللين، وهو التوجيه الإلهي الذي تلقاه موسى عليه السلام، وهو يتوجه إلى فرعون، أعتى الظالمين: "فقولا قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى". وكان عندنا من العلماء الربانيين الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله، الذي كان منهجه يقوم على اللين في كل شيء. وقد روى لنا يوما عن بعض أسرار هذا المنهج، باعتماده على وقائع عاشها، وبقوله إن أحد الزعماء العرب، (ليس من الحكمة ذكر اسمه في هذه الظروف العصيبة)، قال له إنه مستعد لتحطيم الكرسي على أن يتركه لسواه. وعندنا من ولاة الأمر شعراء، ومؤرخون، ومسرحيون، وباحثون. كما أننا لا نشك في غيرة أمثال هؤلاء، أو معظمهم، على أمتهم ودينها وقيمها، ولكنهم قد يكونون في غفلة عما ينشر تحت أسماعهم وأبصارهم. ولكن من ذا الذي يحجب عنه مثل ذلك الكلام، المنشور على الملأ، المحرض على تمزيق الأمة، مما ينشر في بعض المنابر التي ينفق عليها هؤلاء أنفسهم من أموال الأمة؟ ولا أريد أن يفهم أحدٌ أنني ضد الحرية، وأنني أسعى إلى تكميم الأفواه، ولا إلى وضع السيف على الرقاب، ونحن أحوج ما نكون إلى الحرية، وإلى إلغاء (حالات الطوارئ) التي تكاد تصبح في مجتمعاتنا هي القاعدة، إذ ما من كارثة عانت منها أمتنا وما تزال مثل كارثة الاستبداد، وتعطيل مبدأ الشورى، بالرغم من وجود مؤسسات صورية تسمى مجالس الشورى، أو النواب، أو البرلمان. وأعوذ بالله ذي الجلال من أن أجرّ على امرئ بلاءً بكلمة تُفهم على غير وجهها، أو تنتزع من سياقها. فتاريخي الفكري والأدبي شاهد على أنني كنت وما أزال من أشد مناهضي الاستبداد، سواء أكان هذا الاستبداد سياسيا، أم ثقافيا، أم اجتماعيا. وقد كنت واحداً ممن عانى من اضطهاد بعض مظاهر الاستبداد، الثقافي قبل السياسي، من مؤسسات عتيدة، من الحصار، إلى الاعتقال. وصور الاستبداد شتى، كما بيّن ذلك الكواكبي، رحمه الله تعالى، في كتابه: "طبائع الاستبداد". ولكن الذي أعنيه هو أنّني أدعو بقوة، وبإلحاح، إلى أن يكون هنالك عقد اجتماعي، يحمي الأمة من التشرذم والتشتت الذي تعاني منه اليوم، تحت ذرائع متعددة، وأن يكون هذا العقد ضامنا للحريات الفردية والجماعية، ومحددا في الوقت ذاته، لما لا يجوز المساس به من مقدسات الأمة وقيمها، كما هو الشأن في جميع دول العالم. أم نكون وحدنا من تهون علينا قيمنا، فنفتح بذلك للتطرف والإرهاب أبوابا مشرعة؟

إن هذا الكلام إنما هو تمهيد لكي نعرض لبعضٍ مما نشرته بعض المنابر الثقافية الرسمية، في هذا الشهر (فبراير 2016)، من كلام صنّف ضمن دائرة الشعر، وليس فيه من الشعر شيء. ولكن يعنينا منه ما هو ذو صلة بما نحن فيه.

جاء في هذا الكلام:

بعد الخمسين

في الثامنة قليلا بعد الخمسين

ماذا يتوقع مني الله،

وماذا تنتظر مني امرأتي؟

ــــــــــــــــــ

وأنا في الثامنة قليلا بعد الخمسين

ماذا يتوقع الله مني؟

وماذا تشبه هذي الأشياء؟

....ملائكة تصطفّ على الكتف اليسرى للرغبة

تحصي زلات مواجعها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هناك القول الشائع الذي يدعو للنظر إلى ما قيل، لا إلى من قال. وهذا قول صوابٌ في الحالات العامة، إلا أنه لا يستقيم مع المنهج النقدي السليم الذي يتناول البيان. ولذلك لا بد من النظر إلى من قال، لا إلى ما قيل. فمعروف في علم البيان أن فعل الأمر قد يكون على الحقيقة، وقد يراد منه الالتماس أو الدعاء أو التقريع، أو سوى ذلك من أوجه البلاغة. والأمر إذا كان مصدره الله عز وجل أو الرسول عليه السلام كان له وقع الإلزام والفرض. وليس كذلك إذا كان صادرا عن موجه أو واعظ. أما إذا كان مصدره نكرة فإنه يعد من لغو القول.

ولكننا في موضعنا هذا نعرض عن صاحب القول، صونا له وحماية. وقد يقول هو أو بعض من يشايعه: " إنما كنا نخوض ونلعب"، وقد رد القرآن الكريم على مثل هؤلاء فقال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) (سورة التوبة: 65)

وقد يكون قوله مجرد طلب للغرابة، ومسايرة لتيار جارف، يهلك الكلمة الطيبة. ومهما يكن، لابد من التنبيه، وبيان وجه الخطورة في مثل هذا الكلام.

إن الناظر في هذا الكلام، الذي صنف ضمن دائرة الشعر، لا يجد فيه شيئا من الشعر الجميل، ولا من الخيال البديع، ولا من الصور الرائقة، ولا من التعبير الأنيق، بل هي سماجة في التعبير، وبذاءة في التصوير. وأكثر من ذلك أنه يحمل من الاستفزار القبيح لكل ذي ذوق نقي، وحسّ طاهر، فضلا عن المؤمن الورع، شيئا كثيرا.

فأين الفن في أن يبلغ الكاتب سنّا معينة، ثم يتساءل: (ماذا يتوقع الله مني؟). ومن أنت حتى يعبأ بك الله تعالى، إذا بلغت تلك السنّ، كما يبلغها كل من نسأ الله عز وجل له في الأجل، فضلا منه ونعمة؟ قال تعالى:" قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم، فقد كذبتم فسوف يكون لزاما"(الفرقان:77). ثم هل هناك خلل في تصور الألوهية أكثر من هذا؟ هل الله تعالى يتوقع؟ أم هو سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟ لقد نزع صاحب تلك الخربشات عن الذات الإلهية العلم الكلي، وجعله كأنه عالم من علماء الأرصاد الجوية، يتوقع سقوط المطر من السماء، أو عصف الرياح، أو زمجرة الأعاصير. وأي مطر سيقط من السماء آنذاك؟ سيقال: (وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين). والله تعالى حليم، غفور رحيم. ولكنّ أخذه أليم شديد.

ثم ماذا يتوقع الكاتب من القراء، وهو يسطر مثل ذلك الكلام الهجين؟ وقد يجد أمامه ثلاثة أصناف منهم: فمنهم من يمرّ به ولا يعيره اهتماما، ويعتبر من لغو القول وفضوله. وقد لا يلفت انتباهه أصلا، إذا كان ولوعا بالبحث عن الفن الأصيل وحده. ومنهم من يعجبه أن يتأول الكلام، مهما صغر أو سخف، عساه يجد من ورائه شيئا.

وقد يكون هناك صنف آخر يستفزه الاستهتار بذات الله عز وجل، فيغضب. ومثل هذا ماذا يُــتوقع منه؟ وكيف يكون رد فعله؟ أيكون متزنا؟ أم يكون فيه شطط؟ ألا يتوقع الكاتب مثلا أن يكون كلامه مصدر إيقاظ لنزعة تطرفية خبيئة، فيتولى كبرها، حتى ولو كان على غير قصد منه؟ وكيف تتجسد تلك النزعة على صعيد الفعل؟

ثم ما هذا الربط الفج بين الله وبين امرأة الكاتب؟ الله يتوقع، وامرأة الكاتب تنتظر! وقد جعلها امرأته، ولم يجعلها زوجته. ولو كان يفقه العربية لعلم أنّ ذلك قدح فيها أو فيه، أي إنه قد يقدح في نفسه وهو لا يعلم، لأنه إن كانت المرأة تقية، فهو فاجر، وإن كانت طاهرة فهو فاسق، وإن كانت مؤمنة فهو كافر. إذ هناك فرق بين زوجة الرجل وامرأته. فالمرأة والرجل لا يكونان زوجين حتى يقع الانسجام الروحي والمادي بينهما، وإلا فهي مجرد امرأة، وذلك كحال امرأة العزيز لحظة ضعفها:( وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) "سورة يوسف: 30" هي في تلك اللحظة لم تعد زوجه، بل أصبحت امرأته. وكامرأة نوح وامرأة لوط. لم تعودا زوجين لما كفرتا بما أنزل الله على نوح ولوط، بل هما امرأتان فقط. وكذلك امرأة فرعون، لما آمنت وارتقت، وبقي زوجها في الحضيض على كفره وطغيانه، لم تعد زوجه، بل هي امرأته. ومصداق ذلك كله قوله تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). (التحريم: 10 ــ 11). فلذلك كان الكاتب جاهلا بالمعنيين المعروفين للجهل.

وقد يعترض معترض ويقول إن هذا غير مطرد، بدليل أن القرآن الكريم تحدث عن امرأة زكريا، وامرأة إبراهيم، رغم أنهما كانتا مؤمنتين، كزوجيهما. والجواب على ذلك أنه كان ينقصهما شيء، وهو الولد. فلما كانت المرأة عاقرا سماها امرأة، ولما زال عنها هذا العارض سماها زوجا. قال تعالى: (5 - وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا)،"سورة مريم:5"،وقال في سورة هود 71          ( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)  ثم قال سبحانه: (-فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)"الأنبياء: 90"،  وبهذا يسقط الاعتراض.

وعندما يقول النص الذي نحن بصدده:

وماذا تشبه هذي الأشياء؟

فعن أي أشياء يتحدث، تلك التي لا يدري ماذا تشبه؟ وأي علاقة بين أطراف الكلام؟ أم هي هلوسات الشعر الحديث؟

ثم ما شأن الملائكة الكرام بعد ذلك كله من هذا السقط؟ ولماذا تصطف على الكتف اليسرى؟ أهي ملائكة العذاب تحصي زلات الظالمين، من قول أو فعل؟ " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".

إني لأشهد أن الشعر الجميل، والذوق الرفيع، من كل هذا الهراء براءٌ. وإنّي لأعجب بعد ذلك كله كيف ندّ هذا عن هيئة التحرير، وأجازت مثل هذا الكلام؟ وهي مسؤولة، عن أذواق الناس ومشاعرهم وأخلاقهم وعقيدتهم، أمام الله، قبل أن تكون مسؤولة أمام من ولاها وظيفتها.

إن الله عز وجل يغار على المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. وهو سبحانه يغار أكثر على محارمه من أن تنتهك. وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب لنفسه قطّ، ولكنه إذا انتهكت محارم الله رأى الناس في وجهه غضبا لم يروا مثله من قبل. والله تعالى يغار على ذاته المقدسة. قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدْواً بغير علم). ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبّاباً ولا لعّاناً ولا متفحِّشاً. ولذلك فاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن منهيون عن سب الكفار أو التعرض لشيء يعبدونه أو يقدسونه. فكيف بمن هو من جلدتنا؟ والله تعالى يقول: "وقولوا للناس حُسْناً" (البقرة: 83). فليس من شأننا أن نتعرض لأحد بسوء، سواء أكان منّا أم من غيرنا. ولكننا مطالبون بالغضب لله ورسوله، ورد العدوان، (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ) (البقرة: 194)، ونحن نعتبر أكبر العدوان علينا هو العدوان على محارم الله، فذلك ما لا يجوز السكوت عنه. وقد قال عليه السلام يوم أحد: (قولوا لهم كما يقولون لكم). وأما أعراضنا وأموالنا وحقوقنا الخاصة فقد تصدقنا بها على المسلمين. فكيف، إذن، سوّلت لهذا المغرور بحلم الله عنه نفسُه أن يقول عن الذي خلقه فسواه فعدله: (ماذا يتوقع الله مني؟). هل الله يتوقع؟ وماذا يتوقع الله من الكاتب؟ بل ماذا يتوقع الكاتب أن يكون أثر كلامه في الناس؟ إننا تشكو التطرف، والإرهاب، والعنف. ولكننا نصنع أسبابه، ونفتح أبوابه. إذ ماذا لو أن (متطرفا) رصد للكاتب بسكين أو قنبلة؟ بل ماذا لو أن (إرهابيا) أخذته الغيرة على ذات الله تعالى فحمل حزاماً ناسفا، وتوجه به إلى المؤسسة التي نشرت مثل هذا الكلام، وفجر نفسه؟ من المسؤول آنذاك؟ ألسنا نصنع التطرف والإرهاب بمثل هذا الغثاء الذي ليس فيه من الفن شيء، ولا من الجمال شيء، بل هو تجسيد للقبح بعينه؟

ألا تأخذ الغيرة ولاة الأمر، (وكلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته)، حفاظا على الأمن الثقافي أولا، ثم على الأمن الاجتماعي ثانيا، فيُمنع نشر مثل هذا الغثاء المدمر بين الناس، في منبر يتغذى من أموال الأمة؟ إنّ ذلك مدمر للدين، ومدمر للأخلاق، ومدمر للسلم الاجتماعي. فليتق الله من كان في قلبه ذرة من إيمان، من أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.

وسوم: العدد 655