رواية "هي، أنا والخريف "لسلمان ناطور
عندما تحضر الرّواية ويغيب عن الوجود صاحبها .. نلمس دفء الصّفحات، ومِدادا لم يجفّ عن كلماتها .. الرّوح تأبى أن تُغادر، لكن الجسد سبقها.. فكانت البصمات الأدبيّة والفلسفيّة والوطنيّة خير شاهد عليها. رحل الكاتب الفلسطينيّ "سلمان ناطور" وترك من خلفه حروفًا نابضة، ومواقف رجوليّة عظيمة. كتب في كلِّ مكان وفي كلِّ زمان، ولم ينسَ هدفه السّاميّ ألا وهو تكريم الإنسان. جاب البلدان والأوطان وعمل جاهدًا على لمِّ شمل الأدباء والمثقّفين من الخلاّن، وبقي همّ وطنه وشعبه أساس فِكره وكتاباته، وأيضًا مقاومة الطغيان.
أمّا روايته الأخيرة " هي، أنا والخريف " الصادرة عن دار "راية" في حيفا عام 2011 والتي تقع في 260 صفحة من القطع المتوسط، فقد تجلّت هذه الرّواية بذلك العمق الفلسفيّ والواقعيّ بين الرّجولة والأنوثة، صراع الخرافة والحقيقة، وسيطرة المجتمع الذّكوريّ المرير والقاتل أحيانا. إنّها حكاية إمرأتين في خريف العمر؛ "زينات" التي تمضي حياتها أسيرة خرافة غرسها فيها جدّها؛ ليخفي عنها موت والديها المأساويّ، و "جميلة" التي تظهر لتحميها من مؤامرة السّلطة التي ستهدم بيتها، وتبدأ بتحريرها ومعالجتها. هذا الجدّ الذي طالما كان يؤمن بتسلّط العقل عندما درس في بيروت، وراح يبحث عن مصادر الوعي العربيّ في سرمقند وبلاد الشّيشان. تدور أحداث الرّواية في قرية غير مسمّاه، وزمانها يمتد حوالي مائة عام. شاركه صديقه اللبنانيّ الذي عُيّن مُدرّسًا في القرية، وقد علّم "جميلة" كتابة الشّعر، فاتهمت بعدها بالعشق والغرام معه، وحُرمت من التّواصل. وهناك ثمّة شخصيات مأمورة كرئيس السّلطة المحليّة، ومن حوله موظفون ومهندس وعاملة إجتماعيّة، وكلّهم متورّطون في الصّراع بين العقل والعاطفة.
لقد فقدت "زينات" قدرتها الرّمزيّة على النطق حين عاشت وحيدة وصامتة أكثر من ستين عامًا داخل بيت تعلوه أسوار تفصله عن العالم المحيط، والسّبب هو المجتمع الذّكوريّ الذي أقصاها عن مركز الحريّة والفعل فيه. وعليه تعطّلت قدرتها على الحكي. إستطاعت "جميلة" أن تُعيد لها الصّوت من عمق الماضي الأليم، وكذلك هويتها المفقودة، واستطاعت على إثرها أن تُعيد لنفسها لغتها الشّعريّة من جديد. كان الرّاوي في الفصل الأول من الرّواية هو "الأنا" وهو صوت الرجل الذي يُعرّفه الكاتب بالضّمير، وفي نظري هو عقاب للسّلطة الذّكوريّة حين حُرّم من التّسمية. أمّا الرّاوي في الفصل الثّاني فهو الأنثى "جميلة حسن" التي تتسمّى بإسم مضاعف في لفظه ومؤكّد في معناه، وهو من الجمال والحُسن.
كان الرّاحل "الناطور" في هذه الرّواية مشغولاً بنصرة المرأة بصفة أساسيّة، وليس بهزيمة الرّجل، لأن الرّجل لا يُهزم كما يراه الكاتب. وهكذا وُلدت "زينات" من جديد، وصارت أنثى ناعمة وجميلة، وتخلّصت من مظاهر ذكوريّة شوّهتها وأربكتها، لكن كان ذلك بعد فوات الأوان. لقد حرص الكاتب في مواضع عديدة أن يوظّف بعضًا من الإشارات المسحوبة من الحقل الدلاليّ السّياسيّ، على النحو الذي نجده في نهاية الرّواية تمامًا في جملة مفردات: تحرّر، ميدان، حكّام، رئيس ... وبقي حذرًا في تجاوز المسموح إلى الممنوع في هذا السّياق تحديدا. لكن القارئ يستطيع، إن هو أصرّ على ذلك، أن ينقل الرّواية إلى فضاءات مختلفة ما دام الكاتب قد حدّد مجالها الفكريّ العام. "زينات" تحرّرت من تبعيّتها للّخرافة الشّيشانيّة، وهي في الأصل شخصيّة خياليّة ، مثلما قد يتحرّر الشّعب الفلسطينيّ من تبعيّته لوهم العالم العربيّ، وإستعادة صوته الفلسطينيّ الخاص الذي لا يُحسن التعبير إلاّ به. فقد كشفت هذه الرّواية المعاصرة عن إشكاليات البديهيّات التي تُشير إلى التماثل المتداول بين الوطن والأنتماء من جانب، وإلى المنفى/الشّتات وبين الغربة والإقصاء من جانب آخر، وتهدف إلى إعادة تشكيل هذه العلاقة من جديد.
لقد أدخل الكاتب -رحمه الله- بين السّطور العديد من الأفكار الفلسفيّة في الحياة، وكان أنيقًا في كتابته؛ لأنه يُجيد إختيار الكلمات، كما أنّه يُجيد سرد الحكاية بشكل مشوّق، وتصوير المواقف كذلك. أعتقد أن الأستاذ الرّاحل "سلمان ناطور" بهذه الرّواية حقّق الشيء الكثير؛ ليضع ذكراه في خانة الكتّاب المجيدين، لأنَّ مستوى عطائه كان دومًا متميّزًا وكبيرا.
وسوم: العدد 656