العروض رقميًا مكثفًا.. تمهيدٌ لا تقديم

عاش الشاعر والعروضي الكبير خشان محمد خشان مناضلًا منافحًا ومدافعًا بكل ما أوتي من قوة وصلابة، لا يمل من البحث عن الأدلة التي تؤيد فكرته، وتفحم خصمه، ولا يكل من الجدل والمناقشة وتعقب الآراء المخالفة التي تودي به حد الخصومة وخروج من يحاوره ــ أحيانًاــ عن سياق الحوار إلى حيز العراك اللفظي.

 إن الرجل مؤمن بمنهج الخليل إلى حد اليقين ويؤلمه التفريط في هذا المنهج والحياد عنه والافتئات عليه، ولذا فهو يصدر كتابه "العروض رقميًا"، الطبعة تلو الطبعة، ومرة يصدره مسهبًا، وتارة مكثفًا، وهو ما نحن بصدد مناقشة مقدمته التي

خرجت عن إطار التقديم إلى التمهيد، ولم تلتزم شروط التقديم في آن.

 من حماسته في عرض قضيته وكسب أنصار لها، لإيمانه بعدالتها، أنه يلقي كل ما في عقله وقلبه منذ الوهلة الأولى بسخونة لا تعرف التحوط ولا التريث، ويصب كَم من الحيثيات فوق رأس المتلقي غير عابيء هل فهم أم لا، مؤيد له أم رافض، المهم عنده أن يضم معتنقًا لمذهبه، وهو متكفل بتفهيمه بهدوء فيما بعد، لكل هذا أحيانًا ما يكون عامل الجذب من حيث توافر الكم المعلوماتي هو نفسه عامل الطرد حين يتلقاها القاريء المتحسس في دخول عالم العروض الرقمي كلها فوق رأسه دفعة واحدة يحس أنه قد أوقع نفسه في شراك أو مشكلة.

 المقدمة تتناول ــ دائمًا ــ المشكلة البحثية، والأهمية، والأهداف، وقد تناول العروضي خشان المشكلة البحثية عند تناوله العروض الرقمي شكلًا ومضمونًا، وحين تعرض للشكل، أزاح بيده الستار عن لوحة رخامية نظر القاريء في بلاهة للمكتوب فيها أو عليها وأشاح معرضًا، لا يهم فهم أم لم يفهم، يقول: (أما الشكل فهو الاقتصار على أبجدية رقمين، هما الرقم 2 للسبب والرقم 3 للوتد المجموع، "دون إهمال الفاصلة بسببها الأول الخببي"، ودون إهمال خصائص الوتد المفروق)!، وحين تعرض للمضمون دخل مباشرة إلى دمج المشكلة في الأهداف، دون ذكر الأهمية، وإعلان البشارة بأن العروض الرقمي هو أول محاولة في العروض العربي وغير العربي في شرح منهج الخليل، وأنه هو المخصص بالإجابات بـ "نعم" إذا سألنا هل للذائقة العربية صفات رياضية؟ هل للخليل منهج شامل تنبثق منه أحكامه في جزئيات البحور والتفاعيل؟

 أعلن الأستاذ خشان أن نطاق البحث في دراسته يتعلق بإثبات وجود منهج شامل للخليل يتناول خصائص الذائقة العربية بشمولها وبساطتها......إلخ، ثم انتقل إلى العروض كعلم وعلاقته بمنهج الخليل، ثم انتقل إلى من ينكرون منهج الخليل وبعض أقوالهم، ثم عاد أخيرًا إلى العروض الرقمي وقال: (قد يظن من اعتاد التفاعيل أنه مجرد تكرار لها بترميز مختلف لا جديد في مضمونه. ومن محاذير دراسته أن يحكم قارئه عليه بخلفية سواه............. لمن يريد أن يهيء نفسه للتعرف على علم جديد لا مجال لفهمه دون التدرج في دراسته بدء من أبجديته مع عدم التسرع في الحكم على خلفية التشابه مع المعلومات السابقة لديه، وخاصة في الفهم الدقيق جدًا للباب الأول).

 هنا تتبدى المشكلة القائمة في التعامل مع المنهج الذي يسلكه الأستاذ خشان حين دمج شهادة البكالوريوس مع الماجستير مع الدكتوراه وصبهم على رأس المبتديء في تفهم العروض الرقمي فتعثر من تعثر منهم، ومنهم من تقدم ثم انصرف، وهذه المشكلة وقعتُ عليها منذ دراستي للعروض الرقمي بعامة والعروض الرقمي الخاص بالأستاذ خشان، وذلك قبل أن أعرض عليه الحوار معه الذي تحول لكتابًا ــ لم يصدر بعد ــ رصد هذه الظاهرة بعد طول بحث واستقصاء فأشرتُ إليها في مقدمة هذا الكتاب: (ثم نختم كتابنا القيم ــ بقيمة من نحاور ــ في الجزء الثاني والأخير بوقفة مع العروض الرقمي الخاص بالعروضي المؤسس المهندس خشان خشان، مع عرضه عرضًا جديدًا بعيدًا عن الإحالات والاستطرادات والتشتيت ليفهمه القاريء المحب للشعر بطريقة أسهل، وذلك باتباع المنهج الرأسي في تناول العروض الرقمي، ثم عرضه بالمنهج الأفقي من خلال تقديم نموذج موجز للدورة الأولى ودروسها انتهاءً بتقديم موجز للتصور الكلي للعروض الرقمي، وقد أتى هذا مسبوقًا بالتعرض للتصور الكلي لمنهج العبقري الخليل بن أحمد الذي ينتمي إليه العروض الرقمي).

 وحتى يدرك القاريء مدى المعاناة في التصدي لفكر الرجل وعلمه، وتحديدي لتلك المشكلة أنها كانت ظاهرة لي تمامًا حتى قبل الحوار معه، بل أنها أحد الأسباب الداعية والملحة للدخول في هذا الحوار، فقلت في موضع آخر من الكتاب: (حتى قرَّ في ذهني أن هذا الرجل الذي يملأ الساحة الأدبية مثله مثل حورس الفرعوني ذلك الذي تقطعت أوصاله وتفرقت في الأقطار والبلدان، ولزم الأمر أن يقوم أحد بجدية بمهمهة لملمة هذا الجسد العملاق ليقدمه للمعاصرين والقادمين تاريخًا وشهادةً وتراثًا كاملًا غير منقوص، خاصة أن وراء أكمة الرجل ما وراءها من علم لم يبح به، الظاهر منه وجوده في العروض فقط، والمخفي منه تبوح به الخفايا من الثنايا بين السطور لمن شرح الله صدره، وأيقظ عقله، وأنار بصيرته فقرأه ونشره).

 إذًا كان تعاملي في كتابي أني فصلت منهج الخليل عن منهج العروض الرقمي، ثم فصلت العروض الرقمي بعامة، عن عروض الأستاذ خشان بخاصة، من خلال منهج رأسي ثم منهج أفقي عريض، وهذا هو الذي لم يفعله الرجل حين كتب كتابه: "العروض رقميًا مكثفًا" بل وغير المكثف، لقد جاء مسلكي في كتابي عن العروض الرقمي ومؤسسه خشان خشان، مثل مسلك الإمام مسلم القشيري "التلميذ" مع أستاذه الإمام البخاري؛ فقد جمع الإمام مسلم طرق الحديث كلها في مكان واحد كل حسب موقعه، مع الترتيب، وقد كان الإمام البخاري يميل إلى تقطيع الحديث في أبواب متفرقة متباعدة، وذلك لدقيقة يفهمها البخاري منه، فيصعب على الطالب جمع طرقه، ولي عظيم الشرف كوني تلميذ للرجل مع تلاميذه النجباء الذين يملأون طباق الأرض، غير أني لم أؤلف كتابًا في العروض الرقمي، إنما كلامي ينصب في نقطتين، هما: "المقدمة والمنهج"؛ إذ جاءت مقدمة الأستاذ خشان لكتابه خلطًا بين التمهيد والتقديم مع الفارق بينهما، في كون المقدمة هي البوابة الرئيسية للبحث وتشمل موضوعه، وإشكاليته ومبرراته، وأهميته وحدوده، ومنهجه وخطته، بينما التمهيد لا يأتي كصورة أخرى من المقدمة، بل واسطة بين المقدمة والبحث، وغرضه التوطئة للدخول إلى البحث كالانتقال من الكل إلى الجزء، كما لا تشتمل المقدمة إلا على مشكلة بحثية واحدة وما يتفرع منها، لكونها ستخضع لمنهج علمي بحثي واحد، فما بالنا ومقدمة الأستاذ خشان تحمل بالإحالة على عنوان الكتاب إنها لعرض العروض الرقمي بشكل مكثف، وهذا يحتاج إلى منهج تعليمي بحت يبدأ من الأبجديات ــ كما أشار الأستاذ خشان ــ ثم الترقي مع المنهج بغية التدرج إلى ما بعده في سلسلة طويلة أو قصيرة بحسب حدوده، ثم مشكلة بحثية عن منهج الخليل وصحته ورد دفوع المنكرين له، وحتى لو استلزم من الباحث التوصل إلى صحة ما يذهب باتخاذه العروض الرقمي وسيلة لهذا، فإن ذلك يستوجب بحثًا آخر قائم بذاته، لاتكائه على منهج بحثي استقرائي أو استنباطي يستهدف طائفة من القوم غير من يخاطبهم من طلاب العلم، ولا تكفي مقولة الأستاذ خشان في بداية المقدمة من أن هذه المادة تعطي تصورًا مناسبًا عن العروض الرقمي لمن هم على مستوى معين في اللغة، وهي مقولة فضفاضة لا تعطي مدلولًا علميًا وصفيًا لهذا المستوى المعين.

 بعد ما تقدم هل يُعد هذا مني انقلابًا على العروض الرقمي؟! هذه فرضية غير علمية من ظن واهم، إنما العروض الرقمي هو الأحق بمنهج الخليل والقادر على سبر أغواره، وتقديم رؤى جديدة كل الجدة، وسيجد هذا من أراد في الفصل الذي نشرته من كتابي عن "جماليات العروض الرقمي"، ولولا حبي له لما سعيت لدراسته والكتابة عنه، وإنما خروجي منه متدربًا لإنني كما ذكرت في متن كتابي بأني صاحب مشروع ثقافي لو غفلت عنه لما قام به غيري مع حاجة الناس إليه بدلالة أرقام النشر، ولكون العروض الرقمي يحتاج وقتًا وأنا الوقت يداهمني، والعلة تلاحقني، وقاطرة العمر تنهب الزمن نهبًا نحو الوصول إلى محطة العقد الستيني، وأن أستاذي الكريم خشان خشان قائم على مشروعه في العروض الرقمي خير قيام، ومعه ثلة من تلاميذه الأوائل من النساء والرجال والشابات والشباب، كما أني لن أضيف إليه إضافات ثرية جوهرية أكثر مما قمت به وأقوم بالذي لم يقم به غيري، ولهذا فأنا من تلاميذه النجباء أيضًا ولكن من طريقٍ جديد، فلم أنقطع عنه أو ينقطع عني ولن أنقطع ما حييت، وله عندي فيما يكتبه من علم رصين مكان مكين أتزود به ومنه في كل حين.

 وهذه المقالة درس عظيم في التواضع فلم أكن أجرؤ على كتابتها إلا بعد طلب من الأستاذ خشان أن أتعرض بالنقد لتلك المقدمة، ولولا حبي له وخوفي على تعبه وكده في توطيد أركان مدرسته في العروض الرقمي، وواجب النصيحة له لخطأ تجلى لي وخفيَّ عليه لما أقدمت عليها ولا أتممتها.

وسوم: العدد 656