رواية السلفي نموذجا، أدب الدعاية والمنشورات السياسية 1
يؤيّد الاستبداد .. ويسوّغ القتل .. ويشوّه الإسلام !
1 -
في الصراع من أجل الحرية والكرامة الإنسانية ،لا تواجه الشعوبُ الحكومات المستبدة وحدها ، ولكنها تواجه أذرعها الإعلامية والثقافية التي تسوغ الظلم ، وتقدم حيثيات وجوده واستمراره ، والأخطر من ذلك أنها تستميت دفاعا عن تأجيل الحرية والشورى والكرامة الإنسانية إلى أجل غير مسمى.
عقب جريمة الانقلاب العسكري الدموي الفاشي في مصر ظهرت مجموعة من الأعمال الدعائية المنسوبة خطأ إلى الأدب . دواوين شعر وأزجال بدائية وروايات ومجموعات قصصية فضلا عن المقالات اليومية الأسبوعية وغيرها تبارك الانقلاب ، وتهجو اختيار الشعب ، وتندد بإراداته وترحب بالحكم العسكري الدموي الفاشي وفوق ذلك كله تنتقص الإسلام وتزدريه وتشوه أتباعه ، مما جعل هذه الأعمال أقرب إلى المنشورات السياسية والتقارير الأمنية .
سنقرأ معا نموذجا دالا من هذه الأعمال التي ظهرت عقب الانقلاب لكاتب اسمه " عمار على حسن " ، وهو من العاملين بوكالة أنباء الشرق الأوسط ، ويحمل درجة دكتوراه ، وقد لمع منذ بداياته في التسعينيات بصورة مريبة ، حيث أغدقت عليه الجوائز في مصر والخليج ، واهتمت به على غير العادة الحظيرة الثقافية فاحتفت بأعماله وقرظتها وأثنت عليها ، مع أنها في مجموعها ضعيفة ومتواضعة ، ولكنها في كل الأحوال تتبنى الخطاب الحظائري الأمني المعادي للإسلام .
وقد تصورت أن الكاتب يملك جرأة الباحث عن الحقيقة والمدافع عن الحرية وشجاعة المؤمن بحق الإنسان في الاختيار والمشاركة. ولكني للأسف صدمت صدمة عنيفة حين قرأت بعض أعماله التي يحاول فيها أن يبدو بطلا شجاعا في مواجهة حالة من الحالات السلبية في المجتمع .
شرشوح الزفر
بصفة عامة نرى الكاتب مغرما بنقل الواقع على طريقته الرمزية ، ولكنه لا يستطيع المواجهة المباشرة خوفا على مصالحه ، وقد يصيب شيئا من التوفيق في النقل دون أن يحرز شيئا من الشجاعة الحقيقية ؛ كما نرى في صورته القصصية التي سماها " شرشوح الزفر " وتقدم لنا شخصا معروفا في الواقع الاجتماعي ، سبّابا بذيئا ، له ملامحه الجسمانية المصورة في أذهان الناس والقراء ، ويتحاشاه المجتمع حتى لا يصيبه أذاه . وفي الوقت نفسه يحميه عمدة القرية الذي يستخدمه في تدمير خصومه معنويا أو ماديا ، حيث يدّعي شرشوح دائما أنه يملك على الشخص المستهدف وثائق اتهام وعناصر إدانة ، ولكنه في الحقيقة لا يملك إلا استخدام الرشوة وتلفيق القضايا وشهود الزور الذين يجعلونه يحقق انتصارات على الشخص المسكين المستهدف . وبينما يبدو في قلب المجتمع أسدا هصورا يخيف الناس ، فإنه أمام زوجته يبدو فأرا مذعورا حيث تتعامل معه بالشبشب ، وفي لحظة ما يقرر العمدة وشباب القرية إنهاء سطوته (المصري اليوم ، 3/9/2015 ).
وتبدو عملية نقل الواقع في كل الأحوال شبه مكشوفة لأن القارئ يدرك من فوره وفي أثناء القراءة الشخص المعني أو الأحداث المقصودة ، وهو ما تفصح عنه كثيرا مواضع كتابه " السلفي " .
- 2 -
وهذا الكتاب ( السلفي - رواية ، مكتبة الدار العربية للكتاب ، القاهرة ، 2014 ، 295 صفحة ، قطع متوسط ) ، ينقسم إلى عتبات عددها إحدى وعشرون عتبة ، كل عتبة تمثل فصلا ، وتشير إلى دار أو مبني من مباني القرية التي ولدت بها الشخصية الرئيسية أو احتضنت شخصيات أخرى جاءت من خارجها .
وتدور أحداث السلفي في إحدى قرى المنيا القريبة من عاصمة المحافظة ، وتمتد إليها وإلى بعض قراها ومدنها الأخرى ، بالإضافة إلى مدينة القاهرة التي يعيش فيها بطل الرواية راوي الأحداث بعد أن انتقل إليها من قريته ليتعلم ويعمل محاميا ، وتظهر من بعيد جبال أفغانستان أو تورا بورا التي يتمركز فيها المجاهدون العرب القادمون من الدول العربية لمواجهة الاحتلال الشيوعي السوفياتي .
يستخدم الراوي الضمير الثاني – المخاطب – فقد تخلى عن الضمير الأول (المتكلم ) والضمير الثالث ( الغائب ) ، واستخدم الضمير الثاني ( المتكلم ) وهو من أصعب الضمائر في السرد الروائي ، ويحتاج في الغالب إلى كاتب محترف له تجربة عميقة في الإنتاج الروائي حتى يتجنب المزالق الفنية وفي مقدمتها الخطابة الزاعقة والمباشرة الصارخة .
الزمن التاريخي
لا نستطيع تحديد الزمن التاريخي الذي جرت فيه أحداث الرواية بدقة . فهناك الاحتلال الروسي أو السوفياتي لأفغانستان الذي تم في أواخر السبعينيات (1979) واشتعال المقاومة الإسلامية ضده فور دخوله إلى الأراضي الأفغانية ، وبعد اشتداد المعارك تدفق اللاجئون الأفغان على الدولتين المجاورتين : باكستان وإيران ، واستمر الجهاد نحو عشر سنوات ، انسحب الروس بعدها ، وتحررت أفغانستان وانهار الاتحاد السوفياتي .
ثم يرجع الزمان التاريخي إلى ميلاد المحامي / الراوي ، وقد يغوص في أعماق التاريخ إلى ما قبل مولده ، ويقفز إلى عصرنا الراهن أو إلى ما قبل ثورة الشعب المصري في يناير2011 حيث يطالعنا حديث توريث نجل المخلوع وأحداث العراق وغيرها .
الزمن الروائي
أما الزمن الروائي فيبدأ بحديث المحامي عن ابنه وتلقيه رسالة وحيدة منه حيث يقبع في جبال تورا بورا ، وينتهي بانتهاء مرافعته أو مونولوجه الطويل ( حواره الداخلي ) الذي استغرق فترة تجواله على عتبات القرية ( لا يحدد طولها ) وقص تاريخها وذكر سكانها وكيف عاشوا وكيف ماتوا مع الإشارة إلى من بقي منهم حيا يذكر الله !
مالم يذكره الراوي أو المحامي أن أميركا بعد تمركز قوات الغزو السوفياتي في أفغانستان شجعت حكومات العالم الإسلامي على الوقوف بجانب المجاهدين الأفغان ، وساعدت على وصول مئات الشباب العربي والإسلامي إلى أفغانستان ، وكانت بعض الحكومات العربية بالاتفاق مع أميركا توفر عملية الانتقال إلى هناك ، وفتحت بمعرفة بعض الحكومات العربية والإسلامية حسابات مصرفية لمساعدة المقاومة الأفغانية . وبعد هزيمة السوفيات تغيرت الأحوال ، فقد تدخلت أميركا لتشعل الفتنة بين المجاهدين الذين انقسموا على أنفسهم وتصارعوا فيما بينهم وسال دم أفغاني كثير بأيدي الأفغان المجاهدين ، ثم ظهرت جماعة طالبان ( طلبة المعاهد الدينية) التي سحقت الجماعات الأخرى ووحدت البلاد تحت حكمها .
بيد أن الأميركان حركوا الأمور في اتجاه آخر . أعلنوا العداء لطالبان ، وجعلوا الحكومات العربية تشيطن الشباب العربي الذي حارب مع المجاهدين ، وصار من يعود من أفغانستان إرهابيا تعاقبه حكومته ، وظهرت قضايا ما يسمى بالعائدين من أفغانستان أو الأفغان العرب لتجعل العودة إلى أرض الوطن عودة إلى الجحيم ، فآثر كثير منهم الغربة في أرجاء الأرض . أما من بقي في أفغانستان وأطلق عليهم اسم القاعدة فقد وصمتهم الولايات المتحدة – ومن بعدها الحكومات العربية والإسلامية – بالإرهاب!
تدمير ما بقي من أفغانستان
وعقب حادث نيويورك أو برج التجارة العالمي الغامض في الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، الذي أودى بمئات الأميركيين ‘ زحفت جيوش أميركا لتحتل أفغانستان وتدمر ما بقي منها بعد الاحتلال الشيوعي وتقيم حكومة موالية لها ، تحميها قوات المارينز ، وتواجه قوات طالبان التي راحت تقاوم الاحتلال الأميركي حتى هذه اللحظة .
زعمت الولايات المتحدة – دون تحقيق قضائي - أن الإرهابيين المسلمين في أفغانستان أو القاعدة كانوا من وراء الحادث البشع الذي أودي بالمئات في برج التجارة العالمي . وساعدها على ذلك تصريحات عنترية غير مسئولة لبعض المحسوبين عل الحركة الإسلامية ؛ انطلقت هنا وهناك تعلن مسئوليتها عن الحادث ، مع أن الحادث أكبر منها ومن قدراتها جميعا .
- 3 -
كما سبقت الإشارة ‘ فإن السلفي تقدم لنا شخصية أب يعمل محاميا يتحدث في الخيال إلى ولده الذي تركه وسافر إلى تورا بورا بمساعدة من يسميهم السلفيين أعداء الحياة الذين حرموه من وحيده وقرة عينه فلا يعرف أحيّ هو أو ميت ولم يتلق منه غير رسالة يتيمة من زمن بعيد ، ويتوسل إلى معرفة مصيره بكل الوسائل والأشخاص الذين يعرفهم ، ولكنه يخفق ، فيأخذ ولده الضائع في رحلة متخيلة إلى قريته التي ولد فيها الأب – بعد أن صار قاهريا بحكم الإقامة والعمل – ليعرفه بأهلها وسكانها وبيوتها ومسجدها كشفا لقصته وتاريخ حياته وأفكاره وآرائه ، لعل الولد يحن ويعود إلى أحضانه .
مرافعة فاسدة شديدة الزعيق
فكرة بناء الرواية من خلال العتبات جيدة لو أن المؤلف استخدمها بصورة فنية ، ولكنها بدت مجرد لوحات مفككة مفعمة بمرافعة فاسدة شديدة الزعيق ، كثيرة المغالطات لتنحية ثوابت الإسلام خاصة الجهاد لحساب الصوفية السلبية بمعنى الدروشة وما يمكن تسميته بالإسلام السلبي الذي يجب ألا يتعدى حدود جدران البيت أو المسجد في أفضل الحالات ، مع تقديم صورة مقزّزة للمسلم صاحب اللحية الكثّة المهوشة الذي تعلوه الكآبة والجهامة والكشارة والغضاضة وكراهية البشر والانغلاق دون الناس والمجتمع ، والتآمر الخسيس على الوطن ، والرغبة الدائمة في الشر والدم !
تمهد الرواية للأحداث بنبوءة من إحدى العجائز اسمها الشيخة زينب لجدة الولد تفيد ولادة طفل يعصي والده ويجعل أيامه نكدا في نكد ويكون هو الولد الذي ذهب إلى تورا بورا في مكان بعيد آخر الأرض ..
في الحوار بين المحامي وابنه يبدأ انتقاد المحامي للسلفية المفترضة وابنه السلفي فيتوقف عند موضوع اللحية ، وتبدو اللحية عند المسلم عموما – بغض النظر عن موقف السلفيين – موضع مؤاخذة وانتقاد وسخرية ، ويلح عليها الشيوعيون والمعادون للإسلام ، ويتخذ منها الممثلون ورسامو الكاريكاتير موضوعا للسخرية من الإسلام والمسلمين ، وتقوم الجهات الأمنية بمتابعة أصحاب اللحى الذين يرتادون المساجد ، ويقبضون عليهم عند تلفيق القضايا للإسلاميين . صحيح أن هناك لحى مزيفة يتخذ منها بعض المحتالين وسيلة لخداع البسطاء والأميّين بحكم أن من يلتزم بها يفترض فيه وفقا للوعي الجمعي أنه يراعي أخلاق الإسلام في تعاملاته وسلوكه ، ولكن أولاد البلد يفرقون بين صاحب اللحية الصادق والآخر المزيف ، ويطلقون على لحية الأخير صفة " التايواني "، أي الفالصو أو المزيفة ، وقد أطلقوها بعد الانقلاب العسكري في مصر (3/7/2013 ) على أحد الأحزاب الخائنة التي تآمرت مع أعداء الإسلام الذين خطفوا الرئيس المسلم , وأوقفوا الدستور وأطاحوا بإرادة الأمة وحرموها الحرية والكرامة والمشاركة ، وقتلوا الآلاف من الأبرياء واعتقلوا عشرات الألوف من الشرفاء .. وفرضوا إرادتهم الدموية على الملايين !
سؤال اللحية
بالطبع لا يستطيع أعداء الإسلام من بني جلدتنا أن ينتقدوا لحية حاخام يهودي وما أطول لحيته ولا قسيس مسيحي ، ولا لحى البوهيميين والفنانين ولا لحية الشيوعي جيفارا أو صنوه فيدل كاسترو . اللحية الإسلامية هي مشكلة القوم في بلادنا !
يسأل المحامي ابنه عن اللحية ، فيرد الولد :
- هذه سنة الرسول ( بدون صلاة وتسليم كما يفترض ).
ويرد عليه الأب ضاحكا :
- كان الرسول يترك شعر رأسه مسترسلا على كتفيه وكان يضفره فافعل مثله .
ويلوذ الولد بالصمت ، ويقول :
- لا أستطيع أن أفعل هذا .
- لماذا ؟
فيرد الولد بصوت خفيض :
- التقاليد !
فيقهقه الأب ويقول له :
- كانت بعض تقاليدهم فماتوا عليها فصارت لديكم سنة .
وامتلأ وجهك بالغيظ ، وقبل أن ترد علىّ بما يظهر غضبك واصلت أنا ، وسألتك :
- ترى لو كان في جزيرة العرب قديما حلاقون مهرة ألم يكن من الممكن أن يتغير كل شيء ؟
وضربت عليك ذلة ومسكنة واحتار أمرك ، ولكنك جريت إلى غرفتك وأحضرت كتبا ذات أغلفة مقواه خضراء وحمراء ، وعناوينها مكتوبة بماء الذهب ، وقلت لي :
- اقرأ بدلا من الولع بسيرة الشيخة زينب الجاهلة ..." 0 يقصد الشيخة العجوز التي تنبأت بعصيانه لوالده ( انظر السلفي ، ص 20 وما بعدها ) .
هكذا يبدو النزال بين الوالد والولد في الحوار المتخيل مشحونا بالكراهية والمغالبة .بيد أن المحامي المترافع ضد ولده السلفي الملتحي لا يكتفي بتشويه السلفيين المتشددين المتخلفين المتحفزين لدولتهم القادمة التي يسْبُون فيها غير المسلمات ، ولكنه يوجه سهامه إلى جماعة الإخوان المسلمين وفقا للأجندة الانقلابية القائمة التي تهجوهم طوال الليل والنهار عبر الصحف والتلفزة والإذاعات والمؤتمرات والندوات والمحاكمات الملفقة وأحكام الإعدام التي تصدرها ضدهم بالمئات عدا المؤبدات وما تحتها .
- 4 -
تجاوز مفهوم الفن
الصوت الروائي يصر أن يكون بوقا دعائيا يتجاوز مفهوم الفن ليشهّر بمن تنحاز إليهم الفطرة السوية والإرادة الشعبية وتمنحهم تأييدها الواضح والصريح وتفوضهم لبناء الوطن على أسس العدل والكرامة والحرية والطهارة والمشاركة الجماعية في صنع المصير القومي والإنساني ، في الوقت الذي لا يشير فيه إلى الاستبداد والقمع بكلمة ، فهو بمفهوم المخالفة يؤيد الحكم العسكري وتجلياته الدموية القمعية .
ها نحن نسمع مرافعته حول " مطيع " أبو لمعة السريع الكذاب المراوغ ، لص البرتقال من حدائق القرية ؛ الذي يدعي أنه معيد في كلية دار العلوم التي قضي فيها ثماني سنوات ليحصل على الليسانس . ويفاخر به أبوه الذي لم يكذبه أبدا . ويقدم لنا المحامي قصة تجنيده في تنظيم الإخوان حين التقطه الدكتور راضي عبد الجبار أحد الأعضاء القدامى في الجماعة والمدرس بالكلية ورأى فيه مؤهلات واعدة لأنه يتطلع لتلبية احتياجاته المادية وتطلعاته الدنيوية ويرطب ضميره بالصلاة المنتظمة في مسجد الكلية . فقد تم اصطياده ، وأخذه الدكتور راضي إلى معسكر أقامته الجماعة في بلطيم عاد منه عضوا بدرجة " محب " وتفانى في الجماعة حتى صار عضوا " عاملا "من الموعودين برضاء " مكتب الإرشاد " لتنفتح عليه بركات من الأرض .
كانوا يسلمونه – كما يقول المحامي حسن / أو الرواي – مبلغا كبيرا من المال يوزعه على المؤلفة " جيوبهم " من الطلاب الفقراء في المدينة الجامعية خاصة طلبة الطب والهندسة ، لكنه يبدأ دوما بذوي القربي من طلاب دار العلوم وهو يقول في نفسه :
- منها تخرج إمامنا " حسن البنا " ومفكرنا " سيد قطب " الذي ترك لنا ما نعود إليه كلما اشتد علينا الألم ، وشعرنا بالهجران والخذلان " .
ويخبرنا المحامي في مرافعته أن مطيعا زاره ذات يوم في كلية الحقوق لينضم إلى الجماعة وقال له من دون مقدمات :
- نريدك معنا .
- معكم ؟!!
فتنحنح وقال :
- نصرة الإسلام تحتاج إلى جهد كل المخلصين وأنت منهم .
فابتسمتُ ، وهززتُ رأسي صامتا في عجب ، ففي تلك الأيام بالضبط كنت أقرأ كتاب " معالم في الطريق " (؟) وأناقشه مع أستاذي منصور عبد الجليل " ، وأنصت إليه وهو يعدد خطورة ما انطوى عليه ، ويجذبني بمرور الوقت نحو " اليسار " وهو يقول :" كن مع ملح الأرض " ، فتحل في رأسي كل بيوت الطمي ووجوه الفلاحين الضامرة ، فأجد مَنْ أو ما يهتف في أعماقي : " هذا طريقك " فأمضي منشرح الصدر ، فاتحا ذراعي ليطوقا الدنيا بأسرها " .
ويستكمل المحامي اليساري قصته مع الإخواني مطيع ولقائه به بعد عمله مدرسا في قرية مجاورة وتبادل الأخبار وطلب عونه في الوصول إلى ابنه الذي اختفى في تورا بورا . يخبره أن من انضم إليهم ابنه جماعة أخرى . ولكن المحامي اليساري يرى أنهم جميعا - أي الإسلاميين – سواء! ويقول له :
- أنتم من صنعتم الجحر الذي انجذب إليه النمل من شتى أنحاء الأرض .
ثم يتهمه وجماعته بأنهم من أقاموا معسكرات الإغاثة على أرض باكستان وساعدوا على تجنيد الشباب ونقله إلى ضفاف المعارك ومن بينهم ابنه ، وجاء من بعد من أخذهم إلى قلبها .
وتنحنحت ، وبلعت ريقي ، وأطلقتها في وجهه :
- وكل هذا تحت رعاية السي . آي . إيه " .
ونسي أن الأمر كان معلنا ، والحكومة الأميركية وليس مخابراتها تتبناه ؛ ليس في مصر ولكن في عديد من بلاد العرب . لا يكتفي المحامي الشيوعي بهذا بل يتهم جماعة الاخوان بالاغتيالات والتهديد بالقتل لمن يهاجمون تفكيرهم . ( انظر : الرواية ، ص 249 – 263 ) .
ولا ريب أن كثيرا من القراء سمعوا أو قرءوا عن هذه الاتهامات المتكررة للإخوان ، وخاصة من جانب الشيوعيين المصريين الذين جندهم النظام العسكري منذ انقلاب 1952 حتى الآن لينطقوا بلسانه ، ومكنهم من وسائط التعبير الصحفية والثقافية والفكرية والأدبية ، فتحول إلحاحهم على أكاذيبهم الهتلرية إلى مسلمات عند كثير من الناس البسطاء . لسنا هنا بصدد تفنيد الأكاذيب الشيوعية التي رددها المحامي اليساري الذي يرى الإسلاميين على تعدد فصائلهم ومناهجهم سواء في العداء للحياة وكراهية الأوطان والعمل لحساب السي آي إيه ، ولكننا نكتفي ببعض الإشارات .
هناك مشهد في النص السابق ، يكاد يتطابق مع مشهد مماثل في فيلم " طيور الظلام " الذي كتبه الشيوعي وحيد حامد ومثلّه عادل إمام ، حيث يقوم المحامي الإخواني " على الزناتي " بدعوة زميله فتحي نوفل ( عادل إمام ) إلى الانضمام إلى الجماعة ، ويجري بينهما حوار مشابه ، ما يؤكد أن الرؤية الشيوعية في الفيلم والرواية التي بين أيدينا تصدر عن نبع واحد ، وتتلخص في جملة واحدة هي " العداء للإسلام " ، والابتهاج " بملح الأرض " أي العمال والفلاحين ، " فتحل في رأسه كل بيوت الطمي ووجوه الفلاحين الضامرة ، لأن هذا طريقه ..!" . وبالطبع فملح الأرض عند اليساريين هو الحكومة وجنتها العريضة وليس العمال والفلاحين ، وقد نقلتْ كثيرا من الشيوعيين المصريين من سكنى السطوح إلى سكنى القصور وأغلى أجنحة الفنادق الممتازة، ومن أصحاب أحذية مخرومة إلى ركوب أفخم أنواع السيارات ، والرفيق العجوز " حسن " خير من يمثل الشيوعيين في مصر !
رواية السلفي نموذجا
أدب الدعاية والمنشورات السياسية
يؤيّد الاستبداد .. ويسوّغ القتل .. ويشوّه الإسلام !
( 2 -2)
بقلم : أ . د . حلمي محمد القاعود
الفارق بين السلفي وفيلم طيور الظلام أن الأخير يمتاز بحرفية فنية لا تتوفر في الرواية الزاعقة ، وأنه يصوغ فكره في مواقف درامية تقنع من يجهلون تطور الفكر الشيوعي الذي يتحدث كثيرا عن النضال والثورية وطين الأرض ؛ ثم ينام عادة آخر النهار في أحضان السلطة العسكرية الظالمة !
والمفارقة أن المحامي اليساري لا يجد غضاضة أن يتبناه أستاذه الشيوعي منصور عبد الجليل ويجذبه إلى الشيوعية ليكون مع من يسميهم ملح الأرض ويدعم الطبقة العاملة في الكيان الصهيوني وفقا لنظرية وحدة العمال في العالم وتوجيهات القيادة اليهودية الشيوعية للأحزاب الشيوعية المصرية ، بينما يغضب وينفعل لأن الدكتور راضي تبني مطيعا ليكون عضوا في الإخوان ويطيع أوامر الجماعة ويعمل لحساب الدعوة الإسلامية . كأن الشيوعيين مثاليون للغاية لا يأتيهم دعم خارجي أو أموال من هنا أو هناك . عقب ظهور جورباتشيف والبروستيريكا وسقوط الاتحاد السوفياتي وتفكيك الدول الشيوعية أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات نشرت الأهرام أن الرفيق ر. س المعروف باسمه الحركي الرفيق حسن ، تلقى من الجهات المعنية في موسكو مائتى ألف دولار لحساب الحزب الشيوعي المصري ولم يصدر تكذيب من الحزب الذي صار يعمل رسميا في أحضان السلطة باسم التجمع الوطني التقدمي الوحدوي أو توتو اختصارا حتى ساعة كتابة هذه السطور. ثم ما المشكلة أن تكون عضوا في جماعة أو حزب وتدعمه بالاشتراكات ليستقطب إليه الأتباع والأنصار؟ أليست هذه قواعد التنظيمات في العالم كله ؟ ألم يستغل الشيوعيون المصريون وزارة الثقافة بعد أن صارت ملكية خاصة لهم في تجميع الأتباع والأنصار الشيوعيين والإنفاق عليهم من أموال الدولة المسلمة في المؤتمرات والندوات والمحاضرات والنشر والتفرغ وما يسمى أكاديمية الفنون وقصور الثقافة وغيرها ؟ لقد تجاوز الشيوعيون العرف السائد في تكوين الأحزاب وانتهزوا سيطرتهم على وسائط التعبير الثقافي والصحفي وغيرها ليجندوا الرفاق بأموال المسلمين الذين يرفضون الشيوعية . بينما ينشر الشيوعيون في كل مكان أن الدين أفيون الشعوب .
لا ريب أن المرحلة الحالية التي بدأت منذ انقلاب 1952 تمثل العهد الذهبي للشيوعيين المصريين ، ورفاقهم العرب أيضا . فقد وجدوا الحاضنة السخية جدا وهي السلطات العسكرية والاستبدادية ، والوسائط التي تنقل أفكارهم الإجرامية ، والتمويل الحكومي المجاني ، والمجال الخالي الذي تستأصل فيه السلطات كل فكر مغاير للشيوعية وخاصة الفكر الإسلامي !
وقبل أن أنتقل من هذه النقطة أود أن أسأل المحامي الشيوعي : هل قرأت كتاب معالم على الطريق بروح شيوعية أو بمنهج موضوعي ؟
- 5 -
عند تناول الشخصيات غير المسلمة نرى المحامي المفجوع باختفاء ابنه في تورا بورا يصور لنا هذه الشخصيات ملائكة نورانيين لا مشكلات لديهم ولا منهم . حتى عم يوسف الذي لم يذهب إلى الكنيسة أبدا ، كانت الكنيسة معه طول الوقت . فهو شخص طيب يتألف الآخرين من المسلمين ، ويعتز بالإنجيل وتعليماته ، ويقول لهم :
من يكذب منكم أو يسرق أو يقتل أو يسب صاحبه أو يهمل غنمه ستكويه هذه النار ( يقصد النار التي يغلي عليها براد الشاي ) يوم الدينونة . ويردف :
الله يحبنا ولا يريد أن يعذبنا ، لكننا نحن الذين نعذب أنفسنا . ( انظر : السلفي ، ص 67 وما بعدها ) .
يجب ألا تؤذي روحا ولو كانت نبتة
وعندما أبدى ولد من رعاة الأغنام الذين يرافقون يوسف بسبب البحث عن أرض جرداء ليوقدوا النار واعتقد زملاؤه أنه سيصفعه على وجهه ، فإذا به يضع يده على كتفه ويقول له :
- لا يجب أن تؤذي روحا حتى لو كانت نبتة لقيطة حمل الريح بذرتها !( السلفي ، ص 69 ) .
هذه الصورة الوردية للشخصية النصرانية المسالمة التي تحب ألا تؤذي نبتة لقيطة حملت الريح بذرتها لا تذكر المحامي الراوي برفاق للعم يوسف يقولون إنهم أصل البلد ( مصر ) ، وإن اللغة العربية عار ، وإن المسلمين ضيوف يجب أن تنتهي ضيافتهم عما قريب ، ويجب العمل ليل نهار لإخراجهم وفقا للطريقة الأندلسية أو الطريقة النيجيرية ، وفي كل الأحوال يجب تغيير هوية البلد بزرع الكنائس في كل مكان وتنظيف المناهج الدراسية من كل أثر للإسلام وأبطاله العظام المنتصرين مثل خالد بن الوليد وعقبة بن نافع وصلاح الدين الأيوبي ، والترويج لرفض ما يسمى الدولة الدينية أي الإسلامية . باختصار حذف الإسلام من حياة المسلمين !
ثم ها هو موقف آخر يبدو فيه أسعد الموظف المتعلم الملتحي فظا وجلفا أمام إنسانية العم النصراني يوسف حين يرفض الرد عليه ويشيح بوجهه وتنتفخ عروقه بغضب عارم ويصرخ فيه قائلا :
- أنا لا أتكلم مع نصراني كافر ! ( ص 74 ).
السؤال : أين وجد المحامي / الراوي هذه النماذج الفظة ، وهل هي ظاهرة منتشرة تستحق منه المرافعة الحارة ؟ وهل فات عليه أن كثيرا من الملتحين المسلمين الطبيعيين يتعاملون مع كل الشرائع والعقائد في الداخل والخارج دون فظاظة أو تكفير ، يبدو أن صاحبنا يقوم بدور المحامي حسن سبانخ في فيلم الأفوكاتو الذي مثله عادل إمام في فترة الانفتاح حيث كان يعتمد على الجوانب الهامشية في القضية ليقنع القضاة بسلامة موقف موكله ، ولا ما نع لديه في الوقت نفسه أن يقوم بدور الخصم لهذا الموكل حين ينقلب عليه !
وليؤكد حسن سبانخ وحشية الملتحين ينقل إلى ابنه أن ملتحيا مثل أسعد قتل ابن حفيد يوسف ويدعى " ناشد ":
" هل تعلم يا ولدي أن ابن حفيد العم يوسف واسمه " ناشد " قتله أمثال أسعد ، وهم أمثالك أيضا لأنهم عرفوا أنه مسيحي . لم يسألوه حين أوقفوا الحافلة التي كان جالسا على أحد مقاعدها ذاهبا إلى رزقه ، بل رأوا الصليب الأزرق مطبوعا على معصمه ، فأطلقوا النار عليه دون أن يعطوه فرصة لينطق حرفا واحدا ـ أو يذرف دمعة واحدة ، أو يرى الطريق الذي يشير إلى الشرق ، حيث يمكن أن يعود إلى هنا " ( السلفي ، ص 75).
أرفع الجوائز لحسن سبانخ
من حق جهات التنصير العالمي أن تمنح حسن سبانخ في الرواية أرفع جوائزها ، فقد قدم لهم صورة للمتدين المسلم السفاح الذي يقتل لمجرد رؤية الصليب ، وتفوق على المارون في لبنان الذين كانوا يقتلون المسلمين بمجرد ذكر أسمائهم محمد و أحمد وعمر وعثمان وعلى وحسن وحسين وفاطمة وخديجة وزينب ... كما تفوق على الطائرات الصليبية التي قتلت عشرات الألوف من المسلمين الفقراء عشوائيا في قرى أفغانستان وجبالها وأوديتها بحجة محاربة الإرهاب ، وقتلت وتقتل مئات الألوف من شعبنا المسلم في العراق وتمطرهم بالقنابل الثقيلة بدعوى ترسيخ الديمقراطية ومكافحة المتطرفين والإرهابيين ..
لا بأس بجائزة العالم الصليبي وجوائز أتباعه في بلادنا العربية ، فحسن سبانخ قادر على استغلال الثغرات في حياة المسلمين والنماذج الشاذة ، وبعضها من صنع الخيال ، في تشويه صورة الإسلام وتلطيخ منظر المسلمين بالدم والعار ؛ مع أن أوربة تفيض بنماذج صليبية لا تخفي تعصبها ودمويتها على مدار الساعة ، ولا شك انه سمع برئيس وزراء المجر الذي رفضت بلاده قبول المهاجرين السورين الذين هربوا بجلودهم من براميل المسلم المثالي (؟) بشار الأسد ، وسمع عن دول أوربية قالت إنها لا تقبل إلا اللاجئين المسيحيين ، وعن الأحزاب والجماعات التي خرجت في أنحاء أوربة ترفض قبول اللاجئين السوريين بحجة أنهم سيغيرونها ديموغرافيا ( سكانيا ) ويحولون أغلبية السكان إلى مسلمين ، وعن الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا التي قالت إن قتال الجيش الروسي في سورية مهمة مقدسة ! أما حوادث القتل للمسلمين على امتداد أوربة فهي عديدة ، ولم تعالج عندنا نحن المسلمين على أساس أنها قواعد راسخة وظواهر عامة ، مع أنها في حقيقة الأمر كذلك .
حسن سبانخ متيم بجعل المسلم بشعا والمسيحي ملاكا !
زواج المسلم بالكتابية
تأمل مثلا ما يثيره صاحبنا عن زواج المسلم بالكتابية وكأن صفحات السلفي على امتدادها مكلفة بطرح المفارقة الظالمة بين المسلمين والنصارى ، فيروي عن الأجداد في القرية أنهم كانوا لا يوافقون على هذا الزواج . الأب المسلم يقول لابنه فارقني والأب المسيحي يقول لابنته فارقينا ، ولكنهما لا يتخاصمان ـ بل يجلسان معا ذات ليلة بعد ذلك ويتعاتبان لأن الولدين كانا مخطوبين في أقاربهما ويتبدد أثر المشكلة . ولكن المحامي الراوي يزعم أن ابنه وأمثاله كانوا في مثل هذا الموقف يفرقعون الرصاص ويسيلون الدماء ، أو يقول الولد المسلم لزميله : " اخطفها ولتكن من سباياك " . ثم يتهم ولده بأنه سيقول عن روزالين الفتاة النصرانية : وما يدريني أنك ستقول عن روزالين إنها مشركة وليست كتابية " يضيف المحامي الوالد : مع أنني سمعتها تقول للبائع في السوق :
- وحد ربك .
وحين كانت تمسك بيديها ما اشترته ينير وجهها وتقول :
- اللهم صل على النبي .
ثم تمضي راضية وهي تلثم الأرض فلا تؤذي حتى التراب !( انظر : السلفي 145 – 147 ) .
تمنيت أن تكون هناك امرأة مسلمة لها وجه منير ولا تؤذي التراب ، وللأسف شخصيات الأغلبية الإسلامية مشوهة او معوقة أو تعيسة الوجود !
ثم انظر قصة الشيح حسن صاحب اللحية والجلباب مع ماريا حيث تنازل ورد عليها التحية " مساء النور " ثم " دفس عينيه في ردفيها وراح يتلمظ ، ويميل برأسه حيث تميل " ( انظر السلفي ، ص157 – 158) .
مع اللوم والتقريع والتوبيخ من جانب المحامي لولده يحكي له عن السلوك المشين للشيخ حسن مع ماريا التي يتحرش بها في الظلام ، وسمعته يقول :
- حين تقوم دولتنا ستصبحين جاريتي . سأسبيك وتكونين ملك يميني . الدولة قادمة لا ريب فيها ، فما الداعي للانتظار ؟ " ( السابق ، ص 159).
المحامي يردد كل ما يقوله مثقفو النظام المستبد أو مثقفو الحظيرة ، وأغلبهم من الشيوعيين المعادين للإسلام والموالين للعدو الصهيوني ، يأخذون من سلوك بعض الأفراد أو الجماعات على فرض صحتها وسيلة لتعميم الحكم بالفصام والوحشية على الإسلام والمسلمين ، لا تجد شخصية إسلامية في الرواية متسقة مع نفسها أو مع ضميرها . شخصيات المسلمين المعتدلة تدور في الصوفية السلبية أو الدروشة التي لا يتجاوز اهتمامها الطعام والشراب والأحلام والذكر في الحلقات .
يروج حسن سبانخ للدولة القادمة وسبي غير المسلمات ، ويتجاهل أن هذه الدولة حين جاءت بالانتخابات الديمقراطية الشفافة لم يحدث سبي لأحد ، ولا فرض جزية على أحد ، وفي الوقت نفسه فإن من يملكون النبّوت لم يسمحوا للدولة الديمقراطية الوليدة أن تستمر ، وخطفوا رئيسها المسلم ، وظهر رئيس النصاري في موكب الخطف مبتهجا بسقوط ما سماه النظام الإسلامي ، ثم بارك القتلة الذين سفحوا دماء الآلاف في رابعة والنهضة والفتح وغيرها وهنأهم على إنجازاتهم الرائعة ، ودفاعهم عن الوطن الذي لا تؤذي فيه النصارى روحا حتى لو كانت نبتة لقيطة حملت الريح بذرتها كما يقول الكتاب !
- 6 -
في ثنايا صفحات السلفي أو المرافعة الطويلة ضد الإسلام فطرة رب العالمين نجد المحامي الراوي يحمل حملة ضارية على الشباب الذين يمثلون الحركة الإسلامية في ألوانها المختلفة ولا يستثني من ذلك غير الصوفية أو الدراويش الذين يعيشون خارج الزمن ولا علاقة لهم إلا ببطونهم وأورادهم ، ثم إنه لا يعجبه الحديث عن تطبيق الشريعة الذي يتنادى به المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ، ويسخر من الذين تحدثوا عن معجزات في أثناء مدافعة السوفيات الغزاة القتلة لدى احتلالهم بلاد الأفغان ، ويتهم المسلمين برفض الشعر والأدب وتحريم الموسيقى والغناء ، وينادي بما يسمى الزواج المدني في مقابل الزواج الشرعي الذي عرفه الإسلام والمسلمون على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان . يصعب تتبع ما قاله في مرافعته الطويلة المنحازة إلى الفكر الشيوعي أو اليسار الذي صار طريقه وابتعد عنه ابنه إلى تورا بورا حيث اختطفه من ليس في قلوبهم رحمة كما يتصورهم .
سأكتفي هنا بعرض مسألتين من هذه المسائل كما وردتا في الرواية أو المرافعة الطويلة ضد ابنه السلفي أو بالأحرى ضد الإسلام .. وهما قضية الشريعة وقضية الموسيقى .
الشريعة كما يفهمها اليساري
يتحدث حضرة المحامي إلى ابنه حول الشريعة ويورد رأي ولده الذي يقول إن بلدنا تجافيها والسلطة تحاربها . وأنه أي المحامي مع تطبيق الشريعة كما جاءت في القرآن الكريم بشرط أن نقرأه دون اجتزاء ، وكل ما لا يخالفه مما نسب إلى الرسول – صلى الله عليه وسلم- من أقوال ، وما تواتر عنه من أعمال ، لكنه – أي المحامي الراوي – ضد شريعة الخلق التي يطرحها بعض مشايخ ولده ويزعمون أنها شريعة الخالق ويمنحونها قداسة تتقدم على وحي السماء ، واستعاروا ما أنتجه الأوائل عبر إعمال العقل في مشكلات واقعهم على أنه " نقل " شأنه شأن التنزيل !
ويلخص المحامي الراوي رأيه بالقول لابنه :
" الشريعة كما أفهمها لم تغب يوما عن الشعب المصري ، فهي مطبقة كاملة ، ومتجسدة في قانون الأحوال الشخصية ، حيث أحكام الزواج والطلاق والميراث . أما بالنسبة للحدود ، فهناك التعزير الذي استبدل السجن بقطع يد السارق ، وجلد الزاني وشارب الخمر ، وهذا من حق الحاكم ، كما اتفق الفقهاء الأوائل ، وحتى لو لم نرد التعزير هذا فإن الشروط الصارمة والقاسية التي وضعت في سبيل تطبيق الحد تكاد تقول لنا بوضوح إن الحدود للردع ، والقانون المصري الحالي لا يكافئ السارق ، ولا يحتفي بالسكير، ولا يبارك فعل الزاني ، إنما يعاقبه " .( انظر: السلفي ، ص 162 – 164 ) .
واضح أن حضرة الأفوكاتو الراوي لا يعرف شيئا عن الشريعة ولا مفهومها ، ويردد ما تنشره صحف النظام المستبد الذي يرى أن الاستبداد وقهر المسلمين تطبيقا للشريعة ، كما يسعد ببعض المأجورين الذين يرون قياداته أنبياء مثل موسى وهارون أو فاتحين مثل خالد بن الوليد .
ثم إن صاحبنا يعتقد أن الشريعة محصورة في الأحوال الشخصية ( الزواج ، الطلاق ، الميراث ..) ويرتبط بها إقامة الحدود : التعزير ، الجلد الرجم ، قطع الأيدي والأرجل ، ..) .
الإطار المحدود
ومع أنه يساري أو شيوعي ، فلم يلتفت حسن سبانخ إلى أن الشريعة تتجاوز الإطار المحدود الذي وضعها في سياقه ، فهي أمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي ، وهي نهي عن الفحشاء والمنكر والبغي ، وهي رحمة ومودة وتضامن وتكافل ، وهي بناء للقوة وجمع للحكمة ، وهي عمل مستمر لإعزاز الإسلام والمسلمين ، وهي جهاد يواجه أعداء الدين والأوطان مثل السوفيات الغزاة والأميركان المحتلين واليهود القتلة المغتصبين للمقدسات .. وليته قرأ القرآن الكريم الذي يدّعي الإيمان به ليرى مفهوم الشريعة كما ينبغي . ليته قرأ قوله تعالى : "إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، يعظكم لعلكم تذكرون " ( النحل : 90) .
لو قرأ هذه الآية لعرف أن نظامه المستبد الظالم آذى كثيرا من الناس وظلمهم وقهرهم وميّز بينهم وأطلق فيروس العنصرية القاتل بين طبقات الأمة وخلق بيئة مثالية لتفشي الرشوة والوساطة والمحسوبية والنفاق والكذب والوصولية والتسلق والتملق .. فهل هذه الأمور من الشريعة ؟ وهل هذا النظام يطبق الشريعة ؟
لن أدخل في جدل حول مفهومه القاصر للشريعة ، ولكن ما أضحكني قوله أن السلطة لا تكافئ السارق ! ونسي أنها تمنح اللصوص الكبار حصانة وامتيازات قانونية لينهبوا الوطن وأراضيه وثرواته وممتلكاته .. وكله بالقانون كما يقولون !
وما أدراك ما الزواج المدني؟
المفارقة أن صاحبنا يقع في تناقض عجيب حين يقرر أن الشريعة مطبقة في قانون الأحوال الشخصية ، ثم يكتب في صحف النظام التي لا تتاح الكتابة فيها إلا لأمثاله من الشيوعيين وأشباههم داعيا إلى ما يسمى بالزواج المدني ! ( ص 148 ) ، وما أدراك ما الزواج المدني ؟ إنه يسقط فكرة الدين ، أي من الممكن أن يتزوج مسيحي مسلمة بالمخالفة للشريعة ، ويترتب على ذلك خلل وخلط في الطلاق والعدة والميراث وحقوق الأبناء وغير ذلك .. فإلى أي شاطئ يقودنا حسن سبانخ المحامي بتخرصاته وأفكاره الشيوعية ؟
المسألة الأخرى وهي تحريم السلفي للموسيقى والغناء والأدب والشعر وما يتعلق بتغذية الوجدان من رقائق ومتع فنية ، ويثير جدالا مسهبا على صفحات الرواية يمكن تلخيصه في السؤال الذي طرحه على ابنه ( ص 174 ) :
على أي أساس تحرم الموسيقى؟
موسيقى الأنين في الزناين
من جانبي سأوافق المحامي الراوي في مرافعته على غلو نفر من السلفيين وجهامتهم ضد الرقائق ، ومن عندي أقول له إن بعضهم يحرم الثقافة عموما ولا يعترف بها ، ولكني أسمح لنفسي أن أسأله عن حكم موسيقى من نوع آخر . إنها موسيقى الأنين التي تنبعث من أفواه المظلومين الذين يعذبون بأبشع أنواع التعذيب وآلاته في الزنازين المعتمة وسجون السلطات التي يزعم المحامي أنها تطبق الشريعة كاملة . ما حكم هذه الموسيقى ؟ هل هي حلال أو حرام ؟ هل هي من ضمن تطبيق الشريعة لدى الأنظمة الدموية المستبدة ؟هل يمكن أن نستمع إلى هذه الموسيقى والجلادون الذين لا يعرفون الرحمة يعزفونها إلى درجة قتل الضحية تعذيبا ؟ هل يعلم حسن سبانخ عدد آلاف الضحايا الذين يعزفون هذه الموسيقى ؟ لا يعرف لأنه مؤمن أن النظام يطبق الشريعة ..
المحامي الذي يعيش مع ملح الأرض لم يستنكر في كلمة واحده عبر منشوره اليساري احتلال السوفيات لأفغانستان ، ولم يجزع لقتل عشرات الألوف من الأفغان وهدم بيوتهم بطائرات الميج والسوخوى ، ولم يغضب لتدمير البيوت المتواضعة والمساجد وقصف جبال أفغانستان وسهولها بالمطر الأصفر او الغاز المحرم دوليا . وبالطبع لم يفعل ذلك مع أميركا التي فعلت ما هو أكثر منه بشاعة وشناعة . ليس في أفغانستان فقط بل في العراق والصومال واليمن وخلفت ملايين الأرامل واليتامي والعجزة والمصابين !
حسن سبانخ يدعو في مجال الأدب الروائي إلى الإيمان بالسلطة الدموية المستبدة التي تطبق الشريعة كما يزعم ، ويهجو السلفيين والإسلام من خلال حكايته المتخيلة مع ولده الذي سافر إلى تورا بورا واختفى هناك ، فتملكته الشجاعة ليهاجم السلفيين ، ويبارك استبداد الجلادين ، ولم تمسسه لحظة رفق بابنه أو أمثاله ليقول للجلادين : إن الحرية علاج لمشكلات المجتمعات ، وإن الديكتاتورية سبب المصائب والبلايا ، وانحطاط الأدب أيضا !
وسوم: العدد 657