عمق الذّات في الأنا والآخر

clip_image001_049ce.jpg

صدر  كتاب"الأنا والآخر في الرّواية الفلسطينيّة" للكاتب الفلسطيني أمين دراوشة. ويقع الكتاب الصادر عن وزارة الثقافة الفلسطينيّة هذا العام 2016 في 143 صفحة من الحجم المتوسّط.  الذّات في الأنا والآخر.

لا شك ان الكاتب حين خاض هذه التجربة العميقة في البحث عن الأنا والآخر في الرواية الفلسطينية، أنّه أراد ادخالنا لذلك الصراع السيكولوجي لدى الانسان الفلسطيني من حيث التجارب والاضطرابات والوقائع، ومن ثم الدخول تدريجيا في عمق الذات والبحث عن الضّدّ الذي لانستطيع انكاره، فهو أيضًا جزء من ذاتنا، وكل ما نراه في الآخر "الضد" ما هو إلا نظرتنا لأنفسنا، ويذكر الكاتب أنّ مستوى النضج والعقلانية تكمن في مدى ثقافة الفرد وتقبله للآخر، وينقلنا الكاتب إلى الصراع الفلسطيني وذلك الآخر وهو الاسرائيلي، وينوه الكاتب بأن الأنا الجماعية التي تعمل ضد الآخر بعد اكتسابها الخبرة من التجارب والخبرات في تحقيق ذاتها وهدفها، فعلى سبيل المثال حقق الشعب الاسرائيلي ما أراده على أرض فلسطين بعد تغلغله في العمق الفلسطيني، مستفيدا من النزاعات العربية العربية، وكسب مصالحه من هذه النزاعات، فاستطاع أن يكون شعبا واحد ضد الآخر وهو الشعب الفلسطيني،  بعد بنائه لوحدة سيكولوجية متماسكة، فمن وجهة نظر سمينر فإنه "كلما قويت الجماعة التي ينتمي إليها الآخر، وصارت على مقربة كبيرة من الجماعة التي ينتمي إليها الأنا، قوي معها الشعور بالعدوانية الخارجية، وقوي التماسك داخل مجموعة الأنا" فيستعين الكاتب بمراجع عدة معتمدًا على أقوال خبراء علم النفس وتحليلاتهم، من هنا يبدأ الكاتب في الخوض بالأنا والآخر في الرواية الفلسطينية، متعمقًا في خبايا الذات والهيكل الروائي في الأدب الفلسطيني .

ويمسك الكاتب بالصورة الفانتازيا للفلسطيني في الرواية الفلسطينية، ويطرحها أمامنا من خلال رواية جبرا ابراهيم جبرا، وبطل روايته وليد مسعود، وعلاقته بأرضه وتمسكه بجذوره، وقوته الأسطورية بالصمود في وجه الاحتلال والطبيعة،  ووجد جبرا بأن الآخر ممثلا بشخصية كاظم، الشخصية العربية التي تحمل في قلبها الحسد والضغينة لشخصية وليد، محاولة التقليل من شأنه وتهميشه، لأنه الشخصية الهشة، فيجعل جبرا بطل روايته  ينتقل من مرحلة الاتهام إلى الهجوم، وينتصر بالرد والبرهان على آخره العربي، الذي من وجهة نظره بدأ فهمهه للحياة بنظرية وبقيت كما هي نظرية ليس إلا، وبأن الفلسطيني الذي اعتاد النضال والكفاح والوقوف عاريا في وجه الريح مفتخرًا بنفسه هو صاحب الفعل لا التنظير، والقول على عكس نقيضه كاظم الذي صوره الكاتب بأنه يجلس في "مكتبه يلوك احقاده الصغيرة"، ويطرح عليه عدة اسئلة كان يعرف اجابتها، فما كانه منه إلا أن أحرجه بما لا يملك وهو الفعل، وهنا يكمن الصراع العربي العربي الذي يحاول اقصاء نفسه "الأنا والآخر في الشخصية العربية " فهو الذي يحاول تهميش نفسه، فينكر آخره، ويعيش ضائعا وسط وابل من التساؤلات الذي يطرحها آخره  في رحلة البحث عن ذاته، وينتصر جبرا لشخصية وليد مرة أخرى في المعتقل، حيث يجعل من صموده أسطورة في وجه أدوات التعذيب وأمام سجانه، ومن ثم في جعلهم يحتارون بجوهر شخصيته الغامضة؛ فيتركهم في حالة من التيه بعد اختفاءه ومصيره المجهول، وينهي الكاتب روايته في جعل الفلسطيني بكل تناقضاته وعبثيته وحبه للحياة ولأرضه ووجذورها، وافكاره وثقافته وسلوكه وتباهييه بصلابته، وبأصوله وانتمائه للأرض محط انظار واعجاب الجميع، رغم محاولتهم عدم الاعتراف بذلك، ولا شك أن الأنا في الرواية الفلسطينية جعلت من الفلسطيني رمزا للقوة والصمود، وشكلت شخصيته في أبعاد تكاد تكون اسطورية فنتازية، وأظهر جبرا الايمان المتوارث بالعودة والنضال في شخصية مروان ابن وليد  .

وفي معظم الروايات الذي طرحها الكاتب أمين الدراوشة نرى أن الفلسطيني يلعب دوره المعتاد والمتعارف عليه، ولكن في رواية الوجوه حين خرج الكاتب عن المألوف، وجعل بطل روايته عميلا خائنًا أوجد نقيضا لشريف، وعدوّا له من أهل بيته، وهي زوجته وابنته البكر نبيلة، التي تزوجت الفدائي نديم، والتحقت بالثورة وتبرأت من والدها، فينجح الكاتب في ابراز صراع الشخصيتين مع بعضهما، فيجعل الكاتب بطله شريف ذليلا أمام نقيضه المناضل جميل الحيّاني. وفي معظم الروايات الذي طرحها أمين دراوشة برزت شخصية الفلسطيني الصلب الرافض للذل، والمقاوم ذي البنية الصلبة والملامح الخشنة، الرافض لكل ما آل به وأيضًا ابراز شخصيته من خلال العلم والمعرفة في شخصية الراوي في رواية سيرة العقرب، الذي يتصبب عرقًا ولا يتخلى عن حلمه، ولا يبيع نفسه للاحتلال، ويرفض الاتفاقيات التي يمكنها أن تقسم حقوقه كفلسطيني، فهو يعي تماما ما يحدث حوله، وهنا يبرز دور المعرفة والعلم .

مرايا ابليس تطرح الكاتبة الأفكار السلبية، وتهاجم العربي من خلال شخصية " شاطر" في روايتها ونظرته للنساء، وتعود لتظهر الجانب الايجابي من خلال شخصية علاء الدين الزوج الناجح المحب لزوجته وأرضه، وجعلت منه شخصية تحارب التخلف والجهل ..مخاطبة العالم العربي أنه إذا أراد التحرر فعليه " أن يقلع شوكه بيديه ".

أمّا اسراء عيسى في روايتها  حياة ممكنة، وايمانها المطلق بعودتها لأرضها محررة بالمنطق والحب والعقل، فمن وجهة نظرها أن للمقاومة أشكالا، وليست فقط من خلال رفع السلاح وسلاحها العقل المنطق .

ومن هنا تنجح الرواية الفلسطينية في طرح الايجابيات والسلبيات في الشخصية الفلسطينية، ونقد الذات وجلدها، وتسليط الضوء على القضايا العميقة المحورية في الأنا والآخر، وايمانه بحق العودة وحقه المطلق في أرضه بالعلم والثقافة والفن والابداع، وكل اشكال المقاومة والدفاع،  فنرى الفلسطيني ينهض وينفض عنه ركام الحرب متحديا للظلم والانكسار حتى في في خضم معاركه مع الآخر القاتل والسالب لحقه وفرحه، وكل ذلك  ينبع من إيمانه العميق في المكان وقوة الحق مقابل قوة السلاح .

وسوم: العدد 661