الأنا والآخر في الرواية الفلسطينيّة
كتاب (الأنا والآخر في الرواية الفلسطينيّة) للباحث أمين درواشة من منشورات وزارة الثقافة الفلسطينيّة عام 2016.
يحاول الباحث في هذا الكتاب أن يدرس كيف ينظر الكتّاب الفلسطينيّون إلى ذواتهم، وإلى أبناء شعبهم في رواياتهم، ثمّ كيف ينظرون إلى العدوّ ويصوّرونه. هذا الموضوع المهم في الأدب، يزداد أهمية عند تناول الأدب الفلسطينيّ؛ نظرا للظروف الخاصّة للشعب الفلسطينيّ تحت الاحتلال، والظلم التاريخيّ الذي لحق به، مما يجعله يُشكّل صورة مميّزة لنفسه وللآخر؛ ذاك العدوّ الذي يحتكّ به يوميا ويشاركه أرضه، ويتسلّط عليه.
يستعرض الكاتب في بداية كتابه مفاهيم الذات والآخر في علم النّفس والاجتماع وعلاقتها بالأدب، ويخلص إلى "أنّ مفهومي الأنا والآخر، في علم النّفس والاجتماع والأدب، والعلاقة المتشابكة بينهم، غالبا ما تكون قائمة على الاختلاف والتضاد، وأنّ الأنا لا توجد إلا في مقابل الآخر، فهي لا تشعر بوجودها إلا بوجود الآخر." ص 18
ويؤكّد الكاتب أن الذات لا تظهر إلا عبر تمايزها عن الخصم. لذلك، كثيرا ما يحاول الكتّاب أن يضخّموا الذات ويحطّوا من الآخر، وأن الذات إذا كانت قويّة فإن الآخر لا يشكّل عدوا، وقد يسمح المجتمع القويّ بالتعدديّة. لكنّه يعود للقول أن المجتمعات، حتّى القويّة منها، تحتاج للآخر كي تستطيع أن تُظهر ذاتها، فإن لم يكن لها عدو، تعمد إلى خلق عدوّ لتظهر تفوّقها وتميّزها. فعندما انهار المعسكر الشرقيّ، ولم تعد الشيوعيّة تشكّل تهديدا للغرب، قامت أمريكا بخلق عدوّ جديد أسمته الإرهاب، وجعلت من الإسلام (الآخر) الذي تقوم بشيطنته وتمييز نفسها عنه.
والإنسان العقلاني لا ينكر ما فيه من عيوب يراها الآخرون، بل يعمل على معالجتها والتخلّص منها قدر الإمكان؛ حتّى يستطيع أن يشعر بالاحترام لذاته. لكن، غالبا ما لا تعي الذات وجودها إلا من خلال الآخر؛ فتلجأ إلى تضخيم مزاياها ولو على حساب تبخيس الآخر. والنظرة إلى الذات وإلى الآخرين لا تكون دائما سليمة وصحيحة، بل يختلط فيها الواقع مع المثاليّ. وعادة ما يقدّم الكاتب ذاته والذات الجمعيّة لأمته بطريقتين: واحدة لتظهر أمام الخارج، وهي مثاليّة وفيها خداع للنفس، والأخرى تقدّم بها نفسها للمجتمع الداخليّ وتحاول تدعيم سلطتها عليه، وأحيانا قد تُبرز سلبياتها أو تقوم بجلد الذات.
يتناول الكاتب عددا من الرّوايات الفلسطينيّة لمجموعة من الكتّاب، ويحاول أن يدرس نظرة هؤلاء الكتّاب للأنا الفلسطينيّة وللأخر، من خلال أعمالهم الروائية. فالكاتب جبرا إبراهيم جبرا في رواية (البحث عن مسعود) يصوّر الشخص الفلسطينيّ، من خلال بطل الرّواية وليد مسعود، ذا شخصيّة قويّة تتحدّى الفقر والقهر، وتقاوم وتنتصر على الإحباط واليأس، ولا ترضى بالظلم ولا تتنازل عن حقها. والفلسطينيّ هو البطل الذي سيقود الشعوب العربيّة نحو التحرّر؛ فهو إنسان خارق حتّى في علاقاته وفي قواه الجنسيّة، وهو يهزم الشرّ والقبح ويبني مكانهما الخير والجمال. أما الآخر، وهو اليهوديّ، فهو عاشق للمال مرابي إرهابي، يفجر المؤسّسات ويقتل الأبرياء، وهو محتل ومستوطن، يقتل ويشرّد ويتسبّب في تفريق العائلة الفلسطينيّة، ويلجأ إلى العنف والتّعذيب، ويزوّر التاريخ.
ثم يستعرض الكاتب نموذجا آخر من خلال رواية (الوجوه) للكاتب وليد أبو بكر، حيث بطلها شريف الزوري، إنسان قاسٍ مضطرب نفسيّا، نرجسيّ يعذّب الآخرين بساديّة، ويتحوّل إلى عميل للاحتلال الصهيوني بعد حرب عام 1967. بينما تبرز شخصيّات أخرى في الرواية تتميّز عن شخصية بطلها شريف الزوري: مثل شخصية المناضل جميل الحيّاني وزوجة وابنة شريف الزوري، الذين يتصفون بالشجاعة والارتباط بالوطن والتضحية من أجله. فالكاتب هنا لا يعمد إلى تمجيد الذات الفلسطينيّة بقدر ما يحاول أن يوجد توازن بين أبناء المجتمع، فالعميل للاحتلال هو نفسه الذي كان شرطيّا قاهرا لأبناء شعبه زمن الحكم الأردنيّ، فهذه النوعية من الأفراد تقابل أولئك الذين يتّصفون بالبطولة والتضحية. أمّا صورة الآخر في الرواية، فقد بدت قويّة وصارمة وواثقة من قدرتها على كلّ شيء في البداية، ثمّ تحوّلت في النهاية، وبعد بدء المقاومة، إلى شخصيّة الخائف الضعيف العاجز.
وبعد ذلك يستعرض الكاتب نموذجا ثالثا، من خلال رواية (سيرة العقرب الذي يتصبّب عرقا) للكاتب أكرم مسلّم. فهنا نرى صورا مختلفة للذات الفلسطينيّة، وكأنّ هناك اضطرابا وتقلّبا في نظرة الفلسطينيّ إلى نفسه. فنلحظ قدرة البطل الفلسطينيّ على التفوّق وإثبات الذات رغم الصعوبات، مقابل الفلسطينيّ الذي يتحوّل إلى خادم لسيده المحتلّ ويضعف أمام مغرياته. وكذلك فإن بطل الرواية الفلسطينيّ ينزعج من تفجير الفلسطينيّين للصالة التي كان يعمل فيها، لدى الصهاينة، والتي كان يحلم أن يرجع إليها سائحا ليس عاملا. مما يظهر التناقض في نظرة هذا الفلسطينيّ لنفسه بين نفوره من الآخر وحلمه أن يكون مثله.
وفي هذه الرواية يظهر الآخر مريضا، يحاول بجبروته وسلطته المطلقة أن يجعل الأنا الفلسطينيّة خاضعة ومسيطرا عليها، وهو أخرق وصغير، ولا يكون ذا تأثير على حلم الفلسطينيّ بالإبداع، وهو فارغ وذوقه الفنيّ هابط. وهذا الآخر يخفي إنسانيّته، حتّى أنّ السجّان لا يستطيع أن ينظر في عينيّ السجين لأنّه يخفي قلقه الداخلي واضطرابه وشعوره بالذنب. ولا يستطيع الفلسطينيّ أن يحبّ الآخر اليهوديّ مهما كانت الأسباب، فبطل الرواية الذي يقيم علاقة مع فتاة فرنسيّة ثم تتركه وتنسحب، يبقى متعلّقا بها وبوشم العقرب الذي رسمته على جسدها، لكن الكاتب لا يشاء أن يذكر أنّ هذه الفتاة تنتمي إلى الآخر، فلم يذكر أنّها يهوديّة.
ويشير الكاتب أمين دراوشه أنّ الكاتب الفلسطينيّ يشعر أحيانا بالعجز وعدم قدرته على التغيير؛ فيعمد إلى نقد الذات وأحيانا إلى جلدها، ويذكر أن بعض الكتّاب أمثال جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني عمدوا في بداية كتاباتهم إلى جلد الذات الفلسطينيّة، لكنهم انتقلوا من جلد الذات إلى النقد لها بعد بروز الثورة الفلسطينيّة.
وخلال ما استعرض الباحث من روايات، لم نلحظ أنّ هناك أي علاقة ودّ بين الأنا والآخر، وأن أي تقارب بينهما لم يكن إلا على سبيل المصلحة: مثل علاقة العميل بالحاكم العسكريّ، أو العامل برب العمل، وذاك العاشق بجسد معشوقته، فلم تستهوه روحها وإنما فُتن بجسدها. وكذلك فإن الكتّاب الفلسطينيّين، حتّى وهم ينتقدون الآخر ويبيّنون بشاعة أفعاله، لم يعمدوا إلى شيطنته وتجريده من إنسانيّته مثلما أنّهم لم يدعوا للتصالح معه. ولا تدعو الرّوايات الفلسطينيّة إلى كراهيّة الآخر، حتى وهي تظهر مثالبه وظلمه وجبروته. ولم نلحظ بتاتا خلال الرّوايات التي استعرضها الكاتب أن أيّا من الكتّاب الفلسطينيّين يحتفي بالآخر ويمجّده على حساب الأنا، حتّى عندما ينتقد المجتمع والإنسان الفلسطينيّ؛ مما يدل على أن اعتزاز الفلسطينيّ بنفسه يبقى عاليا حتّى في أوقات الهزيمة. ونلحظ أيضا ارتباط الأنا الفلسطينيّة بالأرض، بينما يُظهر الكتّاب أن الآخر غير مرتبط بهذه الأرض وغريب عنها.
بعد أن ننهي قراءة هذا الكتاب الشيّق والمفيد، تبقى لدينا بعض التساؤلات: هل تغيّر مفهوم الأنا والآخر مع مرور الزمن وتعاقب المراحل المختلفة للقضيّة الفلسطينيّة؟ وهل هناك نسق عام مشترك بين الكتاب الفلسطينيّين في نظرتهم إلى الأنا والآخر؟ فالكاتب حلّل عددا من الرّوايات، والتي نستطيع من خلال تحليله لها أن نستنتج الزمن الذي تتحدث عنه، وأحيانا الزمن الذي كتبت فيه، فحبّذا لو قام بتحليل نظرة الفلسطينيّ إلى نفسه وإلى الآخر وتطوّرها من خلال ترتيب هذه الرّوايات زمنيّا، وملاحظة التغيّر في تعبير الكتّاب عن الأنا وعن الآخر مع مرور الزمن. وحبذا لو عقد الكاتب مقارنة بين نظرة الكتّاب الخمسة، الذين اختار رواياتهم لدراستها، للأنا وللآخر ولخّصها في نهاية كتابه.
وسوم: العدد 661