عسل الملكات .. بين الوهم والحقيقة
يغفو على سور "عكا" وتُداعب أحلامه أمواج بحرها .. في يده برتقالة "يافا" تأبى سكّين لاجئ "اليرموك" أن تجرحها، فحَضَنَها ونام باكيا .. صنّارته الصّغيرة لم تهنأ بصيد سمكة من بحيرة "طبريا". هو لا يقبل بدولة لا تطلُّ على البحر، فعَرَّجَتْ روحه وجاب جسده على سواحل "حيفا" و"نتانيا" و"قيساريا" .. كتبَ رسائل العذاب والخلاص، وجعلها بين أيدينا .. خلعتْ قلبه الخيانة، فأبقى عقله باقي العمر مخمورا. الشّاعر والكاتب "ماجد أبو غوش" يروي الواقع والتّاريخ الفلسطينيّ في روايته الأولى من نوعها "عسل الملكات" الصادرة عن الأهليّة للنّشر والتّوزيع في الأردن للعام 2016، والتي تقع في 166 صفحة من الحجم المتوسط. فعندما تعكس الطبيعة مجراها، وتصطاد الغزالة ذلك الذيب الوفيّ، المُفترس لأعداء الوطن، والذي لا يقتات أبدًا على بقايا شعبه، تبدأ هنا حكاية دراميّة إجتماعيّة سياسيّة والتي شرّحتْ النّوايا والخفايا، وتبدّل المعايير والمفاهيم والثّوابت الحزبيّة والقياديّة.
إعتمدَ الكاتب في روايته فترة الإنتفاضة الثّانية، وتبعيّات إتفاقيات أوسلو المشؤومة، وما آل إليه الشّعب من تغييرات مِفصليّة أدّتْ إلى وأد القضية بأيدي أصحابها. إختار حزبًا كلمة السّر فيه "رفيق" حتى يُمرّر للقارئ مسألة تهميش وإهمال الكثير من الأحزاب والفصائل التي عهدناها منذ بداية الثّورة. الكلام في هذه الرّواية خاص جدًا وصداه مؤلم، وقد فاض عن حدِّ القلب والرّوح ووجع الحياة. "أحمد الذيب" في عوائه المتواصل إنما هو صوت يخرج من داخل أرواح وأجساد الشعب، المستسلم لقَدَر الزّمان وقرارات مَن باعوا الإنس والجان، يخرج في لحظات النّشوة والفرحة والإنتصار. يد الأديب نحتت حجرًا ثقيلاً ليرميه في ماء راكد، وحلقاته الدّائريّة تزداد يومًا بعد يوم، وتتلاشى كما صرخات النّاس في فضاء بلا نهايات؟ "غزالة" هي حبيبته التي رفض الارتباط بها، لإرتباطه بالقضيّة، وأمه "مريم" موطن قلبه، ودفء حضنها هي أرضه. أورثهم "الذيب" خمس رسائل فيها عِبر وقصص وصوت أنينه في المعتقل والعذاب؛ إنه شعبٌ طريقه كمائن ودمه مُستباح، ليس في ليله نجوم ولا حتى مصباح .. طريقه موحش ومقفر، ليس فيه عشب ولا ماء، وأعمار الذئاب تبقى قصيرة! صار الذيب إلى حتفه خلال بوابة حديديّة، ومشى لثنتين وعشرين خطوة حتى استقرَّ في زنزانة صهيونيّة، خانقة لكل معاني الإنسانيّة، وذلك في تشبيه بليغ ومؤلم، يُشير إلى عبوره جميع الدول العربيّة عددا، دون اكتراثهم بما حلَّ بالشّعب الفلسطينيّ.
الكاتب "أبو غوش" يبتكر شخصيّة المثقّف "علي" الذي وقع في حُب "تمارا"، تلك الشّخصيّة الإعتباريّة الجميلة، التي يرى فيها "القدس" بشوارعها وحواريها وزقاقها، ويرى أيضا مساجدها وكنائسها وجبالها ووديانها. يستشعر "علي" حزن أهلها وصرخاتهم المكتومة تحت وطأة أقدام الغزاة الذين عزلوا المدينة عن فلسطين أمّها. إنَّ "تمارا" مكسورة الجناحين، تثور تارة وتهمد تارة أخرى، وتذبل وتذوب أمام ناظريها. نجد أنَ الأديب ينتقي المعاني الرّمزيّة والقويّة والمؤثّرة في كتابة روايته، بحيث تُعبّر عن مأساه قائمة، وأجساد تنزف إمّا دمًا أو دمعًا أو حزنا. إنَّ الشّعب، في الرّواية، وصل حدّ الثّمالة، ليس من شرب الخمرة، ولكن من كثرة الكلام والوعود وإنتشار رعاع الأمّة. فالتحليلات والتّفسيرات قد تكون متعدّدة لدى القارئ، إلاّ أنَّ كل الطرق تؤدّي إلى نفس المصيبة التي تعتلي رؤوس هذا الشّعب المناضل!
مات "الذيب" في الطّرقات من شِدّة البرد، وشُيّع جثمانه على حمّالة موتى فقيرة وسط نواح أخواته المُحزن، وينوح والدهُ العجوز أيضاً بصمتٍ أشدّ موتا. لقد قتلتْ الأحلام صاحبها، وخرج الحمام من ظِلِّ الجنازة ليطير فوقها. عوى"الذيب" وودّع الوطن وحمّل الغزالة هديّة؛ إنها صرارة من البحر تُذكّرها بمدن السّواحل والذئاب، وأحلام مَن رحلوا عنّا دون أن يتذوقوا طعم الحريّة والعودة. إنتهى "الذيب" وانتهت تلك الحوارات والمناظرات الصّاخبة التي تملأ المقاهي والمقرّات عن الأحزاب، الثّورة، الوطن، الحُب، الموسيقى والشّعر؟ لقد ظهرت في الرّواية بعض النّصوص والمشاهد الخادشة للحياء، والتي رأى فيها الكاتب أمرًا عاديًا في تلك العلاقات التحرّرية، ذات السّلوكيات المناقضة للعادات والتّقاليد الشّرقيّة. فبذلك هو يُشير إلى أنَّ المثاليّة حالة مستحيلة داخل النّفوس البشريّة.
أسلوب الحوار والسّرد الرّوائي كانت طبيعة الرّواية، بينما كانت الّلغة بسيطيّة، فيها من روح الشّعر تارة والسّهل الممّتنع تارة أخرى. وقد يجد القارئ نفسه جزءا من النَّص أو بطلًا من أبطال الحكاية، ولا شيء يُثنيه عن عشق عسل الملكات إذا ما اعتبرنا أنَّ المملكة هي الوطن الجميل حاضن أجسادنا وأرواحنا. أمّا تجربة الشّاعر "أبو غوش" في الحياة، فهي جزء من التّجربة الأدبيّة ومكمل لها، حتى حظيت بهذا النّتاج الفاعل والممتع والمثير للجدل، في حين أثارت نهاية الرّواية المفتوحة حفيظة القارئ وسخطه، ودوّامة من التساؤلات.
وسوم: العدد 669