علي الوردي : (65) التنازع الإجتماعي كطريق للثورة الموقف الثوري بين الرقاعة والجنون
فرضية التدافع أو التنازع الاجتماعي الدافعة إلى الثورة :
وترتبط بدعوة الوردي الجماهير للثورة على الواقع القائم دعوة أخرى تثبت أصالة موقفه المتمثل في الإيمان بالتغيير الجذري لأحوال المجتمع وظروفه ، حيث كان من أوائل الداعين إلى مبدأ أسماه ( التدافع أو التنازع الاجتماعي ) الذي اعتبره مفتاح كل تطور في المجتمع . وهذا المبدأ أيضا من عطايا إعادة قراءة الوردي لفكر ابن خلدون . فقد كان ابن خلدون يقول : إن التنازع عنصر أساس من عناصر الطبيعة البشرية . فكل إنسان يحب الرئاسة وهو لا يتردد عن التنازع والتنافس في سبيلها إذا وجد في نفسه القدرة على ذلك . يعلق الوردي على رأي ابن خلدون هذا بالقول أن هذا الرأي أصبح الآن محورا لكثير من النظريات التي جاء بها علماء الاجتماع . وفي علم الاجتماع الحديث مدرسة قائمة بذاتها تأخذ تعاليمها من نظرية هذا المفكر العظيم . فعالم الاجتماع ( صموئيل بتلر ) يصف الحياة الاجتماعية بأنها عبارة عن خيط وسكين . فالخيط يربط الناس بعضهم ببعض والسكين تقطع الرباط بينهم . ومعنى هذا أن المجتمع البشري لا يمكن أن يخلو من تنازع كما لا يمكن أن يخلو من تعاون . فكلا الأمرين متلازمان في حياة الناس . ولا يمكن أن يظهر أحدهما إلا ويظهر الآخر معه ليحد منه ويتمم وجوده . ولا يمكن أن تقوم جماعة بشرية إلا ويكون حافز التنازع كامنا فيها . والوردي يعتبر التنازع قانونا في الحياة البشرية ، وهو – أي التنازع ، وبخلاف ما يظن الأقدمون ليس شرّا لابد منه حسب – نافع للمجتمع البشري . فهو الذي يحفز البشر نحو العمل المثمر والإبداع . وبه يشعر الإنسان بأنه حيٌّ ينمو . فلو كان الناس متآخين إخاء تاما ، يبتسم بعضهم لبعض ويعانق بعضهم بعضا ثم يذهب كل منهم في طريقه من غير منافسة أو تكالب وتحاقد لشعروا بأن الموت خير لهم من هذه الحياة الرتيبة . وهذا ما حصل مثلا مع الفيلسوف الأمريكي ( وليم جيمس ) . فقد انضم هذا الفيلسوف ذات يوم إلى إحدى المجتمعات التي ألفها بعض الطوباويين في أمريكا لتكون مجتمعا هادئا بعيدا عن تكالب الحياة وشرورها وتنازعاتها . ولكن جيمس ملّ منها وتركها بعد أيام قليلة قائلا :
(( أصبحت أشتهي أن أسمع طلقة مسدس أو ألمح لمعان خنجر أو أنظر إلى وجه شيطان !! )) . وعندما خرج من هذا المجتمع الطوبائي قال أيضا : ( أنا سعيد حين أخرج إلى عالم فيه شيء من الشرّ ) .
ويبدو أن المثل الشائع الذي يقول أن جنة بلا ناس ما تنداس ليس دقيقا تماما ، فالصحيح هو أن جنة خير مطلق بلا شر لا تطاق )) .
وقد استمر الوردي في مراجعة الواقع الجائر السابق حتى بعد ثورة الرابع عشر من تموز ، فهو يذكر في كتابه : " الأحلام بين العلم والعقيدة – 1959 " مقارنة بين حالة امرأة عجوز شاهدها تدور حائرة على الدوائر الرسمية في سبيل الحصول على وظيفة لإبنة لها مُعلّمة ، وحين سألها هل لديها واسطة ، قالت له : واسطتي هي الله .. فقال لها : إبحثي عن واسطة أخرى .. ويعلق الوردي على نصيحته هذه : (( ولست أدري هل انتفعت العجوز بنصيحتي أم بقيت معتمدة على وساطة الله في ذلك العهد الذي كان الشيطان يسيطر عليه )) .. يقول أنه يقارن بين حالة هذه العجوز البائسة وبين أبناء المترفين " الذين يأكلون الدنيا ومافيها ، يعتدون على الناس وينتهكون الحرمات وينهبون الأموال ، والحكومة تجد لهم عذرا فيما يفعلون . وكيف لا تجد لهم عذرا وقد حفّ بهم الوسطاء من كل جانب " .
وفي لمحة تبدو في ظاهرها طريفة – رغم أنها تحمل شيئا من الواقعية – وترتبط بالفنانة " عفيفة اسكندر " يوغل الوردي في نقده للعهد البائد فيقول :
(( أُشيع في العهد البائد ذات سنة أن المقبولين في إحدى الكليات في تلك السنة كانوا فريقين : فريق منهما دخل الكلية بوساطة أصحاب المعالي والفخامة ، والفريق الآخر دخل الكلية بوساطة السيدة عفيفة اسكندر . إن هذه حكاية أشيعت ، وربما كانت إشاعة غير صحيحة ، وما أكثر الإشاعات من هذا النوع في ذلك العهد . ولا يهمنا أن تكون تلك الحكاية صحيحة أو غير صحيحة ، المهم أنها راجت وصدّق بها الكثيرون ، إذ هم وجدوا في محيطهم ما يدل على صحتها قليلا أو كثيرا . وهي على أي حال تعطينا صورة " كاريكاتيرية " عما كان يجري في البلد يومذاك من دناءات . ونحن نقسوا على أبناء الصعاليك إذن حين نطلب منهم أن يكونوا كلهم " عقلاء " في مثل هذا الوضع العجيب ))(448) .
الموقف الثوري بين الرقاعة والجنون :
---------------------------------------
يضعنا الوردي – وهذا الأمر هو جوهر الثورة الفرويدية - وامتدادا لمقارنته بين السوي واللّاسوي المستتر والممتد على متصل – contimuum ، لا توجد فيه حدود قاطعة بين الطبيعي والمرضي ، بل هناك تداخل طيفي يجعل من الصعب ، بل من المستحيل أحيانا الفصل القاطع بين الاثنين في حالة التأمل الهاديء والتحليلي المتمعن ، فكيف الأمر حين يحاصر الفرد بحشود تهتف بصخب ، وبأحداث مهولة مليئة بالعنف الكسح والدماء الخانقة التي تشوش حتما صفاء نظرته إلى الأحداث والمتغيرات ، وكيفية الحكم عليها وتقييمها والحكم عليها ؟ .
فالوردي يرى أن الكثير من الوجهاء – وفي العادة فإنه يقصد بالوجهاء هم الجلاوزة ، جلاوزة السلطة العصيين على كل حساب وفوق أي مراقبة ، وهذا يؤكد أفكار الوردي الثورية والانقلابية – هم من طراز "الرشيد" . فهم يحملون في أعماق أنفسهم بذرة جنون قوية ولكن وجاهتهم المزيفة تستر عليهم . أنهم قادرون على تغطية تناقضهم السافل بالفخفخة المصطنعة وشموخ الأنف ، وإذا تكلموا حاولوا أن يتخذوا لهم لهجة فخمة ذات رنين . فيستمع إليهم الناس ويحسبون أنهم من أرباب الدهاء والنظر البعيد . ويشير الوردي إلى أنه عرف من أمثال هؤلاء الوجهاء عددا لا يستهان به في العهد البائد وفي العهود السلطانية السابقة له . فقد أتاح لهم الوضع الشاذ أن يتسنموا المناصب العالية أو المقامات الاجتماعية المحترمة ، واعتاد الناس على مهابتهم والقيام لهم في كل مجلس . وكانت نتيجة ذلك أن أصبحت أزِمّة الأمور أحيانا في أيدي مجانين .
ولكن بعد خطوة تالية يخزنا الوردي ونحن نقرأ قراءة بعدية – بعد نصف قرن – بمقارنة ماكرة لن نستطيع التقاط أبعادها دون أن ندرس بدقة مكر أسلوبه أولا ،ولعبه المسموم على حبال التأويل التي كلما بعدت عن الموقف الراهن – ثورة 1958 وزعيمها - اقتربت منه بشدة ثانيا .
يتحول الوردي ، وتحت غطاء البحث العلمي ( البريء ) إلى المقارنة بين الرقاعة والجنون فيشير إلى أن الرقاعة هي نوع مخفّف من الجنون – هذا رأي لم يطرح في الثقافة العربية آنذاك وصولا إلى هدف سياسي مبيّت شديد الخطورة – قد تؤدي ببعض الناس أحيانا إلى جنون صارخ حين تقسو عليهم الظروف الاقتصادية والاجتماعية . فالرقاعة تتمثل عادة بالأقوال والأفعال " الفطيرة " التي يتقزز منها الناس ، ولكن صاحبها يظن أنها خير ما يمكن أن يفعله إنسان . ومن الممكن أن نقول أن مثل هذه الأقوال والأفعال الرقيعة تشتد على الناس حين يكون الرقعاء من أصحاب العروش الموروثة أو الثروات العريضة أو الوجاهات المزيفة . فوق ذلك فإن الوردي يرى أن الرقاعة – وهو مصطلح مخفف اجترحه للتعبير عن هدف بعيد المدى في كتابه يستطيع القاريء اللبيب الوصول إليه من خلال التأمل الهاديء وإحكام النظرة الكلية .
فمن بلايا الرقاعة – حسب قناعة الوردي – أنها قد تكون مُعدية . فإذا كان السلطان ، وهو رأس المجتمع ، رقيعا ، أخذ الوجهاء والقوّاد والوزراء يحتذون به قليلا أو كثيرا . إنهم قد وصلوا إلى مكانتهم ( العالية ) عن طريق التزلّف للسلطان وتمجيد أفعاله وأقواله الرقيعة . وهم لذلك يتوقعون من أصحابهم وحاشيتهم أن يعاملوهم على منوال ما عاملوا هم به سيدهم السلطان ( عزّ نصرُه ) . وتصبح عادة التزلف إذن تقليدا اجتماعيا عامّا يُعامل به كل فرد من هو أعلى منه مقاما . وبهذا تنتشر الرقاعة بين الناس انتشارا فظيعا . وتقع معرّة هذه الرقاعة العامة على الطبقة السفلى من الفقراء والمساكين . إنهم يجب أن يجدوا عذرا لكل عمل رقيع أو ظالم يصدر من الطبقة العليا ، أما أعمالهم فيجب أن يتحملوا وزرها كاملا غير منقوص . وستنمو الفكرة خطوة خطوة للوصول إلى "كلمة الوداع" في كتاب "الأحلام" وتحديدا كلمة التحية الموجّهة إلى الزعيم عبد الكريم والتي تستحق وقفة خاصة .
وقفة عند أخطر توريات الوردي السياسيّة :
_____________________________
يقول الوردي في ختام كتابه : ( الأحلام بين العلم والعقيدة ) :
(( عبد الكريم قاسم : يجدر بي قبل أن أنتهي من كلمة الوداع هذه أن أشير إلى موقف الزعيم عبد الكريم قاسم في هذه المرحلة الاجتماعية الهامة من تاريخنا . فلقد أعلن الرجل غير مرة أنه فوق الميول والاتجاهات ، وأعتقد أنه صادق فيما قال ، ولكني مع ذلك لا أستطيع أن أعد موقفه هذا خاليا من الدقة والحراجة . إنه ليس قائد حزب إنما هو قائد بلد تتصارع فيه الأحزاب ، وهو إذن معرّض للحيرة أكثر من تعرض أي قائد حزبي لها . وكلما تأملت في حراجة موقفه هذا شعرت بالثقل الهائل الموضوع على عاتقه – ساعده الله !! . إنه لا يستطيع أن يتجاهل أهمية الحماس الشعبي في تأييد الثورة التي تكاثر عليها الأعداء ، وهو لا يستطيع كذلك أن يجاري هذا الحماس إلى الدرجة التي اندفع بها المتعصبون المتسرعون . بين يديه من جهة بلد يحتاج إلى استقرار ، وبين يديه من الجهة الأخرى ثورة تحتاج إلى تأييد . ولابد للرجل من أن ينظر في هذه الجهة تارة وفي تلك الجهة تارة أخرى . إني أشعر بالعجز في سياسة صف واحد من الطلاب حين يشتد الجدل بينهم ، فكيف بالرجل وهو يقود ثورة كبرى كثورة 14 تموز وفي مجتمع كالمجتمع العراقي . ومهما يكن الحال فإننا يجب ن نحني رؤوسنا اعترافا بما وهب الرجل من مهارة في قيادة سفينة البلد بين هاتيك الأمواج المتلاطمة ))(449) .
وهنا يتطلب الأمر منا وقفة " تفكيكية " لكلمة الوردي هذه وهي – كعادته في أسلوبه الإلتفافي – مُدوخة ومربكة . يتكرّر التوظيف الذي حصل لموضوع علمي صرف هو القوى النفسية الخارقة والذي عالجه في كتابه : " خوارق اللاشعور " وانتقل منه وبوساطته إلى نقد الوضع الإجتماعي القائم ثم الوضع السياسي وانتهى بدعوة الجماهير المسحوقة إلى الثورة . وهو مقترب غريب كما قلنا سابقا لكنك لاتشعر بأي افتعال في الإنتقالات التي يقوم بها الوردي وهو في طريق وصوله إلى الغاية الثورية الختامية . الآن يتناول الوردي موضوعا علميا – نفسيا أصلا ثم اجتماعيا – هو موضوع الأحلام .. فينتقل منه إلى معالجة شؤون الثورة والسياسة والغوغاء ، ليختم كتابه بكلمة موجهة إلى الزعيم ، قائد الثورة ، عبد الكريم قاسم !! . إن دعوة الوردي لنا – كقراء – إلى (( أن نحني رؤوسنا اعترافا بما وهب الرجل من مهارة في قيادة دفة سفينة البلد بين هاتيك الأمواج )) ، قد جاءت بعد أن تحدّث طويلا عن أفعال الغوغاء الشنيعة من سحل بالحبال وتقطيع بالسكاكين ، وبعد أن أعلن بوضوح أنه – أي الوردي – لا يتفق مع الزعيم في قوله أنه فوق الميول والإتجاهات لأنه مسؤول عن شعب وبلد يجب أن يوفر له الإستقرار . وفي هذه الكلمة الأخيرة تحدّث عن حماسة المتعصبين ، ولكنه قبلها بأسطر تحدّث وتحت عنوان واضح التهكم : " وزير ثوري " عن وزير المعارف الذي دعا جماعة من الأساتذة – من بينهم الوردي – إلى الإجتماع به في ديوان الوزارة ودعاهم إلى " ثورة " فكرية واجتماعية توازي الثورة السياسية والاقتصادية ووعده الجميع بالتأييد – والوردي منهم – لكنه يقول بأنه نكث بوعده لـ :
((أننا اليوم في حاجة إلى كتّاب من نوع آخر غير هذا النوع الذي يبتغيه سيادة الوزير )) .
فمن هو هذا الكاتب الذي " من نوع آخر " الذي تحتاجه الثورة ؟ .
يأتي جواب الوردي غريبا جدا فهو يقول :
(( فهذا أوان كاتب يندفع في صيانة الجمهورية بأسلوبه الصارم البليغ ، وليس هو أوان كاتب " بارد " يقف على التل متفرجا يتحرى عن العيوب فيصيب فيها مرة ويخطىء مرات)) (450) .
وهذا الموقف كيف انتقلنا إليه ؟
وصلناه من فقرة " خطأ شائع " التي أدان فيها الوردي المفكرين الذين يزعمون أن لا حاجة لنا بالبحث عن عيوب شعبنا .. والتي – أي الفقرة – ختمها بالقول أننا نحتاج إلى ثورة فكرية مثلما نحتاج إلى ثورة سياسية واقتصادية . ويحذّر من أن الثورة لن تستطيع مواصلة السير في طريقها المنشود ما لم ترشد الشعب إلى ما يكمن في عقولهم الباطنة من رواسب قديمة تنخر في كيانهم الاجتماعي – هل من بينها الرواسب التي دفعت وزير المعارف إلى دعوة الأساتذة للحماس والهتاف للثورة ؟؟ - وكأن الوردي يحذّر من مصير الثورة المقبل في حالة الإستمرار في الإنقياد للجموح الشعبي – وأكثره غوغائي كما يقول – والإنفعالي .
لكن كيف أوصلنا الوردي – وهذه السمة من السمات الأسلوبية الفريدة للوردي – إلى فقرة الـ " خطأ شائع " ؟
أوصلنا من فقرة : " اعتراض وجيه " التي يستعرض فيها اعتراض الآخرين عليه بأنه إنما يضرّ بشعبه حين يستعرض عيوبه في كتاباته في هذه المرحلة الثورية .. وأوصلنا إلى هذا الموقف من فقرة " استدراك " التي أشار فيها إلى أنه شاهد جماهير غفيرة تملأ شوارع بغداد وهي تهتف بالسلام وتكاد تذوب هياما به ، ولكنها كانت في الوقت ذاته تحمل الحبال تهدد بها من لا يؤيدها في دعوتها السلمية (451) . ..
وحين نمضي بطريقة الوردي الإستدراجية – ولكن بطريقة تراجعية الآن – فسننتقل من المباركة والتأييد إلى الإدانة والنقد الصارم الذي لم يلائم " الوزير الثوري " . فهو في حلقة أكثر تقدما في الصفحة (381 ) يقارن بين ما حصل في الصين في أثناء الثورة الشيوعية بقيادة " ماو " ، وما حصل في العراق على أيدي الشيوعيين فيقول :
(( ومهما فعل أهل الصين بمثل هذا المتهم فإنهم لا يجرأون على مهاجمته بالساطور أو على جره بالحبال ... سمعت أحد شبابنا يقول مفاخرا : " إن الشعب العراقي امتاز على الشعوب الأخرى بابتكاره لطريقة السحل)) (452) .
وفي استدراج تراجعي مستمر إلى معالجة مجازر كركوك ، و " دناءة الغوغاء " ، و " أنا والغوغاء " ، وإلى " قراء عهد الثورة " التي يقول فيها أن الحماس الذي انتجته الثورة يتطلب مؤلفين من نوع جديد يجارون الناس في حماستهم ، وهو مديح تحت صيغة الذم .. فهو يضرب مثلا بالمؤلفين الذين يغيّرون أسلوبهم تبعا لتغير الأحوال بـ " لينين " الذي يسميه " الأستاذ " ويبين كيف كتب الأخير كتابا في العهد القيصري ثم وضع له مقدمة جديدة بعد القضاء على ذلك النظام وأصدره من جديد . يقول الوردي بمقارنة مسمومة :
(( وهنا يجب أن لا ننسى أن لينين كان زعيم حزب وصاحب مبدأ قبل أن يكون مؤلفا . وهو بهذا يختلف عن المؤلفين المحترفين من أمثال كاتب هذه السطور . إننا نريد أن نكتب لكي نعيش ، بينما هو يعيش من أجل حزبه ومباديء حزبه . هو عبقري ونحن من سائر الناس حيث قد نخشى على أنفسنا وأولادنا حتى من عواء الكلاب)) (453) .
وكيف وصلنا إلى إدانة سلوك لينين المغلّفة ؟
من خلال " كلمة الوداع " التي يشير تعريفها بالألف واللام إلى قرار لا رجعة عنه ، وهذا ما حصل مع الوردي الذي امتنع عن النشر منذ عام 1959 وهو عام إصدار كتابه " الأحلام بين العلم والعقيدة " ، إلى عام 1965 حيث أصدر كتابه : "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ". يقول الوردي :
(( لابد لي من كلمة وداع أودع بها القاريء في خاتمة كتابي هذا الذي هو فيما أعتقد آخر كتاب أخرجه إلى الناس . ويخيل لي أن الكثيرين من القراء سوف لا يأسفون لهذا الوداع ، ولعل البعض منهم سيفرح به )) (454) .
هل يعقل من كاتب ثوري ومصلح اجتماعي انتظر التغيير الثوري والإنتصار لمصالح المسحوقين المذلين المهانين سنوات طويلة وتحمّل في سبيل ذلك الكثير من الخسائر والتضحيات أن ينفض يديه من الكتابة ومن مشروعه الذي يعده - ومباشرة بعد الثورة التي مهدّت أفكاره وجهاده الفكري لها - فاشلا لا يلائم الثورة بعد مدة وجيزة من انبثاق هذه الثورة الأمل ، ولا يعود إلى نضاله الفكري إلا بعد سقوط الثورة بسنوات – وتحديدا في عام 1965 - ؟
لا يمكن فهم موقف الوردي المحيّر إلا إذا راجعنا الفصل الأخير من كتابه هذا والذي انتقل منه من الحديث النفسي والاجتماعي العلمي إلى الحديث السياسي أو – لنقل – الحديث الاجتماعي السياسي . عنوان هذا الفصل الأخير هو : (الجنون والمجتمع ) وموضوعه الأساس هو : الجنون . لقد تحدّث الوردي أولا عن " فُتاّك " الجاهلية الذين كانوا يقتلون الناس ويسفكون دماءهم ومنهم شعراء كبار كالشنفرى وتأبط شرا . وحين جاء الإسلام قضى على هؤلاء المجانين الأبطال كما يفهم الوردي وظل الأمر كذلك في عهد الخلفاء الراشدين ، (( ولكنهم بدأو يظهرون من جديد عندما حاول معاوية أن يرجع بالعرب إلى سيرتهم الجاهلية الأولى)) (455) . ثم يشير إلى أن أمثال هؤلاء المجانين القتلة لا يخلوا منهم تاريخ الأمم الحديثة خصوصا في فترات الظلم والإستبداد حيث يصيرون جلادين أو سجانين أو محققين يتلذذون بتعذيب ضحاياهم . وفي إحالة مهمة يقول :
(( ويكثر هؤلاء أيضا في الفترات الصاخبة التي تضعف فيها سلطة القانون ، فتراهم عندئذ يقودون الغوغاء يحرّضونهم على الإعتداء والتعذيب والمَثلة – هذا ما حصل فعليا في العرق بعد 1958- وهم حين يفعلون ذلك يشعرون بالسعادة ، كأن منظر الدماء وأنين الجرحى وعويل النساء تتجاوب مع ما في أعماق نفوسهم من الرغبات المكبوتة)) (456) .
لكن السيكوباثيين من القتلة لا يصُنفون في علم النفس والطب النفسي ضمن المجانين ، وقد أقحمهم الوردي في هذا الفصل لأمر في نفسه . يرتبط هذا الأمر حين يختار أنموذجا استدراجيا آخر يتعلق بـ " جنون الملوك " الذي يستهله بالقول أنه طالما حدث في التاريخ أن يرتقي العرش ، في أمة من الأمم ، ملك مجنون ، ولكن رعاياه المساكين لا يعرفون عن جنونه شيئا :
((وإذا خرج إلى الناس أحاط به الفرسان وتقدمت بين يديه المواكب وسار خلفه الوجهاء، وينظر الناس إليه فيظنون أن الحكمة قد تجسمت فيه ، وهم لا يدرون أنه في حياته يسلك سلوك الأطفال )) (457) .
ويقدّم مثلا على هؤلاء الظالمين والمجانين " المتلذذ بأمر الله هارون الرشيد " ، ولكن هذا أيضا موضوع ذو صلة واهنة بالجنون بمعناه العلمي الدقيق .. لكن هذه المراجعة ستُبقي السؤال قائما وأكثر إلحاحا ، وهو كيف بدأنا بالأحلام ووصلنا إلى الجنون لنصل أخيرا إلى السياسة والحكّام المجانين الذين يقودون الشعوب ؟ .. أراهن على ذكاء ونباهة القارىء اللبيب..
وسوم: العدد 675