أنا وأنتِ.. لأحمد الخميسى، الفن خلف الدموع

 

clip_image001_e267b.jpg وقعت عينى على اسم أحمد الخميسى، أول مرة فى بداية التسعينيات، كان يكتب "رسالة موسكو" السياسية لمجلة اليسار، فى خضم الانهيار الكبير الذى قاده "جورباتشوف" فى خضن البيروسترويكا، و"الجلا سنوست"، ولم نكن نفهم ما جرى، حتى جاءت تلك الرسائل لتمسك بأيدينا وتقود خطانا، ومنها عرفنا ما جرى، وما يجرى، ودورنا فى الانهيار، كانت مجلة اليسار آخر فعلٍ مقاوم، صحوة الموت، قبل الاستسلام النهائى لطوائف اليسار، وانقسامها بين العزلة والتمويل، كنت أنتظر رسالة موسكو بشغف ربة منزل تنتظر مسلسل السابعة لتفهم وضعها، وتخرج مشاعرها المكبوتة مع الأبطال، وتنظر إلى عالم آخر غير الذى تعرفه يشكل لها عزاء وتسرية، كنت أنتظر الرسالة مثل عجوز هجرها الأولاد انشغالا بدنياهم، وانقسامًا فى مستقبلهم، منها عرفت خيانات جورباتشوف، ومخازى "يلتسين" السكِّير، دخلت حوارى موسكو، وعشت مع المشتروات، واللصوص ونهابى الأوطان، حين أطلقت الرأسمالية الوليدة، أحط غرائز الكائن البشرى، فنشط التجار والمهربون ومليونيرات اللحم البشرى الطازج.

عرفت من كتابات أحمد الخميسى – وقتها – كيف كان سباق التسلح فخًا رأسماليًا أمريكيًا شربته روسيا العظمى "الاتحاد السوفيتى"، كما حرب النجوم والكواكب، فاندفعت روسيا حتى فاقت الجميع، وفى حين لم تفق أمريكا إلى القمر إطلاقًا، فعلتها روسيا لأنها صدقت خرافة التفوق التكنولوجى.

 عرفت على يد أحمد الخميسى كيف أن التكنولوجيا هزمت الأيديولوجيا، كان الأمر مريبًا، وفى الأطراف فى عالمنا العربى كان الواقع يبدو كابوسيًّا. فكتب الراحل العظيم فوزى منصور "خروج العرب من التاريخ"، وكان بيع القطاع العام يجرى على قدم وساق، استكمالا للنصر الرأسمالى المؤزز، وكتب "فوكوياما".. "نهاية التاريخ"، وكانت قنابل الجماعات الإسلامية المسلحة تحصد الأرواح فى الشوارع، يموت أبرياء وأطفال، وكانت جمهورية إمبابة لصاحبها "حسن" الطبال أمير المؤمنين الجديد، كنا نتفتت تزامنًا لعيون نصر الرأسمالية، وهذا جزء من انتصارها الذى لن يكتمل قبل حث صدام على غزو الكويت، ثم تحرير الكويت، و؟؟؟ الأخيرة مع العالم العربية، بعد أن أخرجت أمريكا الاتحاد السوفييتى من المعادلة، بعد ذلك صدرت رسالة موسكو فى كتاب بديع، عن سلسلة كتاب الأهالى بعنوان: "موسكو تعرف الدموع"؛ فكان شهادة شاهد عيان على خراب العالم، وانزياح القيم القائمة على التراحم واحترام الضعيف والرفق به.

ثم عاد أحمد الخميسى إلى مصر، ليخلص لفن من أصعب الفنون وهو "القصة القصيرة"؛ فكان يكتب بخبرته، لا يكتب خبرته، تفيض منه القصة كما يفيض الماء من البئر عذبًا سلسًا، سائغًا طعامه للشاربين، تخرج قصصه من خبرة عميقة وثقافة فياضة منذ بداياته فى الستينيات حينما كتب عنه يوسف إدريس "برافو يا أحمد كتبت".

وبرغم قلة إنتاجه فى القصة القصيرة، فإن فيه حيوات جمة، وبشرًا من لحم ودم، ومشاعر وانفعالات، فيه محبة للحياة واحترام للروح الإنسانى، فى قصصه روح عصره ومتغيراته، فما الفن كما قال جارودى: "إلا أسلوب الَّا أسلوب حياة، وأسلوب حياة الإنسان عبارة عن عمليتى انعكاس وخلق لا بنفصمان بعضهما عن بعض؛ لأن الإسان ليس منعزلا، وعندما تواتيه فرصة التفتح والانطلاق فإنه يتحول إلى عالم صغير يحمل فى طياته ثقافة الجنس البشرى السابقة عليه، أما حاضره فيتمثل فى "تواجد" عصره فى حيانه".

وهكذا جمع إبداع أحمد الخميسى فى القصة، وآخرها مجموعته الجديدة "أنا وأنتِ" الصادرة عن دار "كيان" للنشر والتوزيع نهاية عام 2015، بين خبرة الروح، ومحاولة الإمساك بتلابيب اللحظات الهاربة والمشاعر الدفينة، غير المعبر عنها علنًا، وغير المدركة أحيانًا، وبين انهيارات الواقع وانعكاسها وتماسها مع الروح المبدعة، فخلت القصص من الزخرفات اللغوية، والطرطشة العاطفية، ومحاولة ادعاء العمق بالاعتماد على المفارقة، والإغراق فى الشاعرية التى تفقد القصة وجودها كفن مستقل، على أن شاعرية اللغة لدى أحمد الخميسى فى محاولة إمساكها "بالزمن النفسى"، تراكم إحساسًا بهذا الزمن المفارق للزمن الواقعى والمتقاطع معه: "أقلب السكر فى فنجانك بالملعقة التى اشتريناها أنا وأنتِ منذ سنوات، وكانت مذهبة وانطفأ وهجها"؛ التعبير منذ سنوات هو الواقعى، وانطفأ وهجها هو الزمن النفسى، الذى يراكم إحساسًا بالفقد، ويهيئ مع غيره للحظة النهاية، التى ستعرف فيها أن الراوى يخاطب ذاتًا ميتة، "نتناول العشاء أنا وأنتِ بقلق ومحبة وعزلة مؤلمة"، أو "أتملَّى وجهك بحب وعمق ويأس فى حجرة النوم".

قصة "أنا وأنتِ" وفى كثير من المواضع، يشكل الزمن النفسى ومحاولة استحضار بدايات الفقد، والتوقع، ومسيرة الهواجس الدفينة، يشكل كل ذلك أحد مرتكزات هذه المجموعة وهو مثبوت فى القصص، كالعقد المنظوم الذى يلم شتات النفس، ويربط المجموعة كأنه "الدسار" الذى يربط أجزاء السفينة، "سأفتح الباب وأراكِ يومًا، حتى لو لم تكونى أنتِ سأراكِ، حتى إذا لم تظهرى أبدًا سأراكِ، سأراكِ مضطربة فى فتحة الباب تتطلعين إلىَّ وأنتِ تتفادين الماضى" من قصة "سأفتح الباب وأراكِ يومًا"، ثم قصة "وجه" كاملة، وكذلك قصة "آليونا" التى لم تكن شخصية آليونا فيها غير تكأة فنية، لرصد دبيب الزمن، وتبدُّل المشاعر، آليونا هنا هى المعادل الموضوعى للذات التى تنسحب فيها الحياة، قصة الحب الشفيف بين الرجل الناضج، والفتاة ذات الخمسة عشر ربيعًا، ولقاء المصادفة عبر عشر سنوات، كأن الروح المبدعة تحاول القبض على الزمن، أو تجميد اللحظة الهاربة، لا يستطيع أن يصدق أن آليونا الصغيرة قد اختفت، ولم يبق سوى صورة يراها ولا يصل إليها أبدًا؛ آليونا هى الزمن فى لحظتين متباعدتين بينهما عشر سنوات، وإن بدتا واقعيًا كذلك، فإنهما تعبران عن الروح فى عمق إحساسها بالزمن،والزمن حاضر فى التردد، وفى دبيب المشاعر الفياضة، فى المفارقة بين النور والظلام، فى تعقل الرجل الكبير أمام فتاة فوَّارة فى اللحظة الأولى، وفى خفوت التردد والدعوة المباشرة إلى غرفة الفندق بعد عشر سنوات، ولكن شيئًا لم يحدث، وما كان لشيء أن يحدث. تطل قصة "آليونا" من وجهة نظرى من أعذب اللحظات الإنسانية التى تمر بالبشرية، وتمر بالكثيرين، ويقننون التعبير عنها، الأصح لا يستطيعون الإمساك بها، وأمسكت بها روح المبدع المتأمل فى ذات أحمد الخميسى.

لم أستطع التعامل مع هذه المجموعة إلا من خلال نقطتها المركزية "الزمن النفسى"، وما إن تغادر قصة "آليونا" حتى تجده أمامك – الزمن – فى قصة "خطوبة": فى السابعة مساء الغد سيطرق الباب، يُفتح، يصافحون واحدًا بعد الآخر باليد أو بإيماءة رأس، يتقدمون ببطء إلى الصالة، يسترقون النظر بأدب إلى ما حولهم، إن الإحساس فى نفس خاطب، يتصور ان سعادته ستأتى غدًا فى السابعة مساءً، وسيتحول الوقت حتى هذه الساعة إلى أزمان وهواجس، ثم تتحول القصة بعد ذلك للحديث عن والد العروس "أمل"، فى صراعه الذاتى هو الآخر مع الزمن، الذى يريد أن يثبته عند لحظة معينة، وهو ينظر إلى صورة زوجته فى لحظة خطوبة ابنته؛ يمتد الصراع مع الزمن من ذات العريس المقبل على بدء حياته، إلى ذات الأب الذى بدا أنه يودع آخر جزء من حياته، وينعكس الصراع – حتى – على المكان فى نفس الأب: "مر بعينيه على الصالة، هى أساس كل شيء، هنا ستدور المعركة، لابد أولا من استبعاد الأشياء المتناثرة الملقاة حيثما كان، ثم نفض التراب والكنس والمسح والتلميع، صاح ابنته: أمل.. يا أمل، جاءت من الداخل.. جرَّا إلى حجرة نومه كرتونة كتب كانت بين أرجل منضدة الطعام، قالت أمل تهوِّن عليه: مؤقتًا يا بابا، أيَّد كلامها: مؤقتًا. رفعت كرسيًا لأعلى.. هزته: مشروخ لو قعد عليه ضيف هيقع على الأرض". ولو أحصيت فى هذه القصة ألفاظ الزمن وما يدل عليه لهالك الأمر.

 ثم نشير إلى قصة "بيت جدى" بكل ما فيها من معالجة لمواجع الزمن، وضغط الذكريات، وفداحة الفقد، وتبدُّل الحال، كأنها تاريخ لأجيال تتحد فى الوجدان، وتختلف فى المصائر: وظل البيت زمنًا طويلا يتهدم ببطء مثل سفينة تعرق فى الزمن من دون أن يوليها أحد اهتمامًا.

هل يدل هذا الكلام على شيئ؟ نعم، مع أن القصة لدى أحمد الخميسى لا تعنى الاشتباك مع الواقع، والغرق فى تفاصيله اللانهائية، والتى لا تضع بتراكمها فنًا، وإن صنعت خبرة؛ وإنما تعنى تأمل هذا الواقع فى صيرورته وجريانه الذى لا ينقطع، جارفًا فى طريقه رغبات وحيوات ومشاعر وأعمار، والفن لا يعلِّق على الأحداث، والفنان الأصيل لا يقف إلا أمام دلالاتها، وما تتركه فى الروح من أثر، وما تخلفه فى الوجدان من شفافية، وما تتركه فى القلب من خشونة أو رقىّ.   

مصطفى عبادة ناقد وكاتب صحفي مصري حائز على جائزة دبي في الصحافة الثقافية عام 2016  

وسوم: العدد 675