علي الوردي : (68) الطائفية في العراق صارت "عقدة نفسيّة"

الشيعة والسّنة كانا من حزب ثوري واحد

# الطائفية في العراق صارت "عقدة نفسيّة" :

______________________________

لقد جعل هذا التكتم – وأنا هنا لا أنقل رأي علي الوردي حسب ، بل رأي صفوة علماء التحليل النفسي في العالم – الموقف الطائفي يتحول إلى عقدة دفينة راسخة في أعماقنا ، وهذا من أخطر الحالات التي يواجهها الإنسان وذلك حين يصبح ما هو مُنكر ظاهريا مكونا من مكونات لاشعوره ، يتحكم به ، بأفكاره وسلوكه وانفعالاته دون أن يعلم .

يتنبأ الوردي بأمر أشد إيغالا في الأذى الاجتماعي ويتمثل في إعلانه أن الطائفية في شخصية المواطن العراقي لم تتحول إلى عقدة نفسية لائبة في اللاشعور حسب ، بل تعدت ذلك لتصبح " مرضا نفسيا " . ومن أساسيات التحليل النفسي الثورية التي فجّرها معلم فيينا هو أن العلاج التحليلي الكفيل بشفاء المريض العصابي الممتحن نفسيا يتمثل في مهمة أساسية تتمثل في إخراج العقد المكبوتة من مجاهل اللاشعور وظلماته إلى نور الشعور وأضواء بصيرته الكاشفة . ووفق هذه الرؤية المتقدمة على عصرها آنذاك ، يقدّم علي الوردي مدخلا تمهيديا لمشروع حلّ محنة الطائفية في العراق :

( يقول علماء النفس أن العقد النفسية لا تشفى إلا إذا أُخرجت من العقل الباطن إلى العقل الظاهر ، وعرف صاحبها منشأها وكيف تطورت فيه . وقد آن لنا أن ندرك هذه الحقيقة العلمية ، فنعمل على إخراج عقدنا الطائفية إلى النور وندأب على البحث في أسبابها التاريخية والسياسية . يرى البعض منا أن البحث في تاريخ النزاع الطائفي يزيد من حدة النزاع ومن انشغال الناس به . وهذا رأي ورثناه من الماضي ، وهو لا يلائم منطق العلم الحديث . إن التكتم في فكرة يؤدي إلى انغماسها تدريجيا في ظلمات العقل الباطن . وكلما مر عليها الزمن هنالك ازداد تعقّدها وصعب إخراجها إلى النور من جديد ) (470) . 

وإذ يستدرك الوردي وهو الحذر دائما – ومؤلفاته مليئة بالاستدراكات – بسبب ملابسات الواقع الاجتماعي السياسية والطائفية الشائكة – ويعلن للقاريء أنه لم يقصد ذم طائفة دون أخرى من الطوائف الإسلامية ، وأن هذه الطوائف – وهذا إعلان جسور – كلها معيبة وخاطئة ، وأن المطلوب من دعاة الإصلاح أن يهبوا لإنقاذ المسلمين من هذا الوباء العام ، فإنه يدق ناقوس الخطر – وبقوة عجيبة وقبل خمسين عاما ، وأكرر قبل خمسين عاما - ليعلن أن مستقبل أمتنا سيضيع ، وهذا ما يحصل الآن :

( اننا في أمس الحاجة إلى ضجة كبرى في كل طائفة ، وفي كل قوم ، وفي كل بلد  . فهذا هو الطريق التي تصل بنا إلى اليقظة الفكرية التي نبتغيها . أما إذا بقينا بالأدلة العقلية والنقلية نوجهها كما نشتهي ، فالأحرى بنا أن نقرأ على مستقبلنا السلام ) (471) .

هكذا كان الوردي يحذّر وبكل إخلاص من مرض الطائفية الكامن كالنار تحت الرماد ، لكننا لم نستطع ولم نحسن الإستماع إلى نداءاته المخلصة لأن الشخصية العربية عموما والشخصية العراقية خصوصا قد بنيت على أساس سلوك النعامة ، سلوك العيب والتهرّب من رؤية الحقائق الدامغة مهما كانت كاشفة أو صادمة . وبذلك فقد فشلنا في اتخاذ الخطوة الجريئة الأولى على طريق الشفاء من هذا المرض المعقّد والخطير وتتمثل في عدم نقل العقدة النفسية المرضية من ظلمات اللاوعي إلى أنوار الوعي ، فساهمنا في الخطوة الأشد أذى في ديمومتها وتسنّنها الصخري في أغوار اللاشعور لتصبح موجها سلوكيا شديد التحكم ويصعب علاجه .

في كتابه : " الأحلام بين العلم والعقيدة " ، تحدّث الوردي يإخلاص وبنظرة علمية ثاقبة ومحايدة عن مجازر كركوك التي حصلت في ظل ثورة الرابع عشر من تموز مشيرا إلى إنها فظائع بشعة جدا لا يستطيع أن يتجاهل أمرها إنسان يشعر بكرامته :

( ولكننا مع ذلك لا يجوز أن نعزوها كلها إلى هذا الحزب أو ذاك . فالأفراد الذين قاموا بها كانوا من الغوغاء والشبان المتحمسين . وهم كانوا قبل كل شيء عراقيين ، ولا أستبعد منهم أن يقوموا بها مرة أخرى بتأثير أي ناعق ينعق أو ريح تميل . إنها ليست مشكلة أحزاب بقدر ما هي مشكلة مجتمع مريض تعاورت عليه الأدواء والمصائب على مدى أجيال متعاقبة . ونحن إذ نهمل النظر إليها من هذه الناحية قد نساعد على تكرارها في بلدنا مرة بعد مرة ، وفي ذلك من الضرر بثورتنا ما فيه ) (472) .

# التعكّز على نظريّة المؤامرة :

____________________

وهذا ما تكرر بعد الثامن من شباط عام 1963 . لكن الأهم في حديث الوردي هو أنه سيضع يده على مكمن داء جديد ينضاف إلى سلوك النعامة المرضي السابق ، وهو اللجوء السهل والعصابي إلى " نظرية المؤامرة – conspiracy theory     " من خلال رفع المسؤولية عن الذات وإلقائها على " آخر " :

( يقولون أن وراء مجازر كركوك أيد أجنبية . وهذا قول صحيح تدعمه قرائن لا يستهان بها . ونحن إذ نعترف بصحة هذا القول يجب أن نعترف كذلك بأن اليد الأجنبية لا تؤثر في مجتمع ما لم تجد فيه مجالا لتأثيرها . فهي تلقي الشرارة الخبيثة على الناس ، وما لم يكن في الناس مجال لاندلاع النار انطفأت الشرارة حال انطلاقها ) (473) .

وبعد احتلال بغداد المحروسة في التاسع من نيسان من عام 2003 من قبل الأمريكان الخنازير الغزاة ، ، واشتعال عاصفة التصفيات والمذابح الطائفية الهوجاء ، واصل الجميع ؛ مواطنون وأحزاب وقيادات سياسية ، السلوك النعامي في هذا المجال. إن الموقف " النعامي " الذي تحدّث عنه الوردي لم يتم التغافل عنه وإهماله حسب بل حصل اندفاع غريب في الاتجاه المعاكس تماما . فلم يتم تغطية العيوب وقمعها حسب بل أمعنت الغالبية في تزيين واقع إيجابي مضاد غير موجود على أرض الواقع . ينقل الوردي رأيا لكاتب عراقي يقول فيه :

( قلنا ان من خصائص الفرد العراقي حب العمل والشهامة والرجولة والتآخي وهي ثلاث خصائص إدا وُجدت في شعب ومجتمع استطاع أن يبلغ أقصى ما يهدف إليه وأن يحظى بما لا يستطيع أن يناله أحد من المجتمعات أو الشعوب إذ ليس ثمة من خير عميم ولا فضل وفير إلا كان نتاجا لهذه الخصائص ) .

ولا يخلو كتاب من كتب الوردي من التحذير من المخاطر القائمة والمقبلة للصراع الطائفي وفي مختلف العهود وفي ظل مختلف الأنظمة . ففي كتابه " منطق ابن خلدون " لم يحذّر من خطورة التناحر بين الطوائف كأمر يمزق المجتمع بصورة مباشرة حسب بل اعتبرها قابلة لأن تتغطى بأستار سياسية وحزبية ، فتتنكر وتبدأ بممارسة تخريبها المدمّر تحت تلك الأغطية المشروعة في الظاهر عادة :

( يمكن القول إن النزعة الطائفية المستفحلة في العراق بين الشيعة وأهل السنة قد اتخذت طابع العصبية القبلية . فأهل المدن المختلفة من الطائفة الواحدة قد ينسون عصبيتهم المحلية والبلدية في نزاعهم العام مع الطائفة الأخرى ، ويتخذون بدلا عنهما عصبية من نطاق أوسع . لعلني لا أعدٌ الصواب إذا قلت إن النزاع الحزبي الذي حدث إثر ثورة 14 تموز كان غير خال من بعض آثار تلك العصبيات المحلية والبلدية والطائفية ، على وجه من الوجوه ) (474) .

أما كتابه – القنبلة : " وعاظ السلاطين " الذي ألّفت خمسة كتب في الرد عليه ، بالإضافة إلى عشرات المقالات والذي أعقب صدوره هدر دم الوردي من قبل إحدى اشخصيات الدينية ، فهو كتاب مسخّر بكامله لمناقشة موضوعة التسنن والتشيع وكيف نمت جذورها منذ وفاة الرسول الكريم ( ص ) وحتى الخمسينات من القرن العشرين . وفيه قدم التحليل " الثوري " الأكثر شمولا لهذا الموضوع في تاريخ الثقافة العربية . لقد وصل في الفصل الحادي عشر المعنون بـ : " السنة والشيعة " والذي يستهله بالقول :

( إن هذه القضية شائكة إلى أقصى حد ، سيّما في العراق – البلد الذي يصح أن يسمى ( بلاد الجلاوزة ) . كان العراق مثل هذه القضية في أول أمرها ، ولا يزال يعاني منها ما يعاني . ولم ينهمك بلد من البلاد الإسلامية في شيء بمثل ما انهمك العراق في هذه القضية ) .

ثم يقدم موقفا وطنيا غيورا هاما يبين فيه أنه يشعر بالمسؤولية في هذا الأمر تجاه الجيل الجديد وليس تجاه الجيل القديم الذي تكلست قناعاته وتحجرت . إنها محاولة للإنقاذ من خلال تبصير الجيل الشاب الجديد الذي – بخلاف ذلك – سيكون ضحية محتمة لهه القضية المعقدة :

( وإني لم اكتب هذا الفصل للجيل القديم من أبناء العراق . فهؤلاء سوف لا يفهمون منه شيئا ، إذ كل فريق واثق بأن الحق بجانبه وحده وأن الباطل كله من نصيب غيره ، وهو قد ورث هذا الاعتقاد الجازم من آبائه . فهو لا يفهم إلا ما نشأ عليه من تقاليد وعقائد وطقوس . لم أكتب هذا الفصل إلا لأبناء الجيل الجديد – هذا الجيل الذي سئم من هاتيك التقاليد البالية وأدرك بأنها مصدر بلائه وأساس ضعفه ) (475) .     

وكانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّظ ، فرصة أن نتنبه للمحنة هذه ونمسك بها لندرسها ونتبصر بعواملها المعلنة والمستترة والأغطية التي تتخفى تحتها في جهد وطني مدروس يستثمر فرصة كون الكثير من أبناء الجيل الجديد كما يقول الوردي صاروا مدركين أن هذا النزاع الطائفي بما فيه من سخف وتخابث بدأت نفوسهم تتقزز منه ، والمنطق الاجتماعي يستخف هذا الجدل ويضحك على ذقون أصحابه . فهو يعتبر جدلا قَبَلِيا أكثر منه جدلا مبدئيا .

# الشيعة والسنّة كانتا في أول الأمر من حزب ثوري واحد :

____________________________________

وهنا تظهر وقفة مهمة للوردي ، فهو لم يكتف بإدانة الطائفية حسب ، بل قدم جهدا بناءً خلاقا ومسؤولا من خلال التأكيد على الأصل الثوري ، والواحد المناهض للطغيان لكلا الطائفتين . يقول الوردي :

( قد يستغرب القاريء إذا علم بأن كلتا الطائفتين – أي السنة والشيعة - كانتا في أول الأمر من حزب واحد ، وأن الذين فرّقوا بينهما هم السلاطين ووعاظ السلاطين . في عهد الدولة الأموية كان الشيعة وأهل السنة يؤلفون حزب الثورة . إذ كان الشيعة يثورون على الدولة بسيوفهم ، بينما أهل السنة يثورون عليهم بأحاديثهم النبوية ) (476). 

( من الحقائق التي يجب أن يفهمها هؤلاء المغفّلون : أن عمر وعليا كانا من حزب واحد واتجاه متقارب . ولا يستطيع أي مؤرخ أن ينكر أن أصحاب علي أيّدوا عمر في خلافته كما أن أصحاب عمر أيّدوا عليا في خلافته . فالصحابة الذين اشتهروا بالتشيع لعلي كانوا في عهد عمر عمّالا وقوّادا يأتمرون بأمر الخليفة ويخدمون الإسلام بالتعاون معه . نخصّ بالذكر منهم : عمار بن ياسر وسلمان الفارسي والبراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وسهل بن حنيف وعثمان بن حنيف وحجر بن عدي وهاشم المرقال ومالك الأشتر والأحنف بن قيس وعدي بن حاتم الطائي . وعندما سافر عمر إلى الشام ولّى عليا مكانه في المدينة . ونجد من الناحية الأخرى أن الذين بايعوا عمر وآزروه في خلافته هم أنفسهم الذين بايعوا عليّا بعد ذلك وقاتلوا تحت رايته . بايع عليّا أكثر المهاجرين والأنصار . وهذا أمر لا مجال للشك فيه . وقد صرّح عليّ غير مرة أنه بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر من قبل . فلم يرد عليه أو يكذب دعواه أحد ) (477) .

وينقل الوردي رأيا للآلوسي في كتابه ( مختصر التحفة الإثنى عشرية ) يقول فيه أن ثمانمائة من أصحاب بيعة الرضوان كانوا يقاتلون معاوية تحت راية علي في صفين . وقد قُتل منهم ثلاثمائة . وأصحاب بيعة الرضوان هؤلاء هم نخبة الصحابة وقوام المهاجرين والأنصار . وقد حدثت بيعة الرضوان في عام الحديبية حيث جدد المهاجرون والأنصار بيعتهم للنبي وعزموا على الموت . وهم إذن يختلفون عن أولئك الناس الذين دخلوا الإسلام بعد الفتح وكان كثير منهم منافقين ، حيث أسلموا رهبة أو رغبة .

ثم يقدم الوردي دعوته إلى مراجعة هذه الوثائق التاريخية الصارخة من قبل الشيعة وأهل السنة على حد سواء وأن لا ينشغلوا بجدلهم العقيم الذي لا طائل وراءه .

ويستعرض بعدها وحدة الطائفتين والعلاقات الوثيقة بين أئمتهما الكبار كالعلاقة بين أبي حنيفة وزيد بن علي ونصرته له ، ثم دور الاحتلالات العثمانية والفارسية في تأجيج الفرقة بينهما ... إلخ .

ومن جديد لم يستثمر أحد هذه الفرصة ، وبدلا من استيعاب دعوة الوردي الوطنية الغيور هذه تمت محاربته وتكفيره وتهديده بالقتل . إن سلوك " النعامة " الذي برعت فيه الجهات المرجعية ؛ السياسية والإجتماعية والدينية العربية والعراقية ، جعلها تتغافل عن الحقائق التاريخية المثبتة التي لا غبار عليها والتي تكشف بوضوح قاطع عن أن الصراع الطائفي كان من سمات الحياة اليومية في بغداد مثلما كان من سمات الحياة اليومية في العواصم و الأمصار والبلدان العربية والإسلامية الأخرى . 

وسوم: العدد 678