الاتجاه الإسلامي في شعر أحمد بهكلي
نشأة الشاعر بهكلي وحياته:
الشاعر أحمد يحيى بهكلي هو الثاني في مدرسة التحرر في التجديد في الجنوب، إمارة عسير، ولد بمنطقة جيزان عام "1374هـ"، ثم تنقل في مراحل التعليم بين جيزان وأبها والرياض، حتى حصل على "ليسانس" كلية اللغة العربية من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1397هـ.
وبعد تخرجه عمل مدرسًا في معهد الرياض العلمي، واستمرَّ يواصل تعليمه في تحضير رسالة الماجستير1.
وهو الآن يشارك في تحرير مجلة الفيصل الثقافية، التي أصبحت الآن تؤدي دورًا كبيرًا في العالم العربي والإسلامي، صدر له حتى الآن ديوانان كما سبق، وهما:
ديوان "الأرض.. والحب".
وديوان "طيفان.. على نقطة الصفر".
وسحر جيزان وأبها وتهامة كان له الأثر في هيام الشاعر بالطبيعة الخلابة، حتى غلبت على شعره يصور مناطق الجنوب في الذهاب والإياب، يصور جيزان مرة، وبيشة ثانية، وفيفا ثالثة، وأبها رابعة، وغيرها وغيرها.
وكثيرًا ما يدفعه الحنين وهو في الرياض إلى موطنه في الجنوب، ليجدد شاعريته في منبع شاعريته.
وهذا بالإضافة إلى تطلعه إلى التحصيل والتعليم، ولا زال حتى الآن يعد نفسه للدراسات العليا حتى يحصل على الماجستير.. وللناس فيما يعشقون مذاهب.
وصقل العقل، وتهذيب الذوق الأدبي يحتاج إلى متابعة مستمرة، ومداومة في الترويض والمتابعة، وليس بعد الصحافة والاشتغال بالتحرير في المجلات الأدبية والثقافية من دافع قوي متجدد في ترويض الذوق، وصقل النفس وشحذ الذهن فالعمل في هذا المجال مملوء بالحركة والحيوية والنشاط ولا ننسى أن النهضة الأدبية الرائدة في مصر كانت تتفجر من المجلات والمعارك الصحفية.
هذه هي العوامل التي فجرت ينابيع الشاعرية في نفس الشاعر أحمد بهكلي، وأصبح بديوانيه من رواد مدرسة التحرر في التجديد.
الشعر الإسلامي
خلا ديوانه الأول "الأرض والحب" من الشعر الإسلامي، بينما ضم ديوانه الثاني "طيفان ... على نقطة الصفر" هذا الغرض، بل عنوان الديوان إنما هو عنوان لموضوع قصيدة إسلامية، والشعر الإسلامي عند بهكلي يشمل قصيدة "غسيل الملائكة ص14، 25"، وقصيدة "عبيرات على خدّ الدعوة الإسلامية ص33، 42"، وقصيدة "أنشودة الفارس القادم ص26، 32"، وقصيدة "طيفان ص43، 48"، وقصيدة "من خالد بن الوليد ص93، 97"، وقصيدة "إلى سيد قطب ص98، 102"، "وخماسية ص121".
غسيل الملائكة :
والقصة الشعرية "غسيل الملائكة" تقوم على حدث قصصي يبدأ حينما أذن المنادي للجهاد في سبيل الله في غزوة أحد، ويلبي النداء الصحابي الجليل حنظلة بن أبي عامر ليلة دخوله على عروسه، ويخرج إلى الجهاد وهو جنب لم يغتسل، ثم يقتله الأسود بن شعوب، وحنظلة يحاول قتل أبي سفيان، وإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرى الملائكة وهي تغلسه، فأرسل إلى أهله فأخبروه بخبره، يقول الشاعر في هذه الأقصوصة الشعرية:
ليلة والنجوم تستغفر الليل ... وما حاز قدرة الغفران
وعواء الرياح يخفت حينًا ... ثم يعــــــــــلو كآهة الولهان
وهنا في الخباء ينتجع الطهر ... فيجني ثماره عرسان
وجذوع النخل راهنت الليل ... وللفجر شدة الغفران
لم تكن غير لحظة فإذا الليل ... طريد الرحيل في إذعان
والندى يغسل الأزاهير ... والأطيار تشدو برائع الألحان
وصريخ علا بأن أناسًا ... داهموا ربع الندى الفينان
صرخة أعنقت تخب فتجلو ... صدأ الاندهاش في الآذان
كأن رجع الصريخ جلجلة الإيمان ... يحمي مرابع الإيمان
ما ترى غير لابس درع حرب أو مغد السير فوق حصان
وازدهت حرة المدينة جندًا ... ورسولًا ومبدءًا قرآني
رقص الفجر رقصة فتغنت ... أحد ... والتقى الجمعان
وانبرى حنظل يقارع ذاك ... القرم في قوة وأيد جنان
ضربة إثر ضربة.. أشف سؤلي ... كيف مرديك يا أبا سفيان
كنت في الأسفل الحضيض وقد ... كان ملاقيك في أعز مكان
هم بالوأد حنظل ... وتجلت ... قسوة منه أثبتتها اليدان
"أنجدوني" ترددت وأبو سفيان ... من موته على إيقان
واجتلى الفارسين "شدادًا" فارتا ... عت خطاه كما فؤاد الجبان
واستطالت وراء حنظل مثل شلا، ... بطعن لكالح الفعل جاني
طعنة ... والدم الزكي تسابيح ... تدق السماء في رضوان
ولعيني حنظل ومضات ... أطفأتها من الردي ريحان
أن نعمى وهبت يا ابن شعوب ... لابن حرب مجندل الفرسان؟
ساعة وانتهى العراك وأصغى ... قومه للرسول والكل حان
قال: إن الملائك حفت ... بقتيل وأمسكت بأواني
إنها تغسل القتيل.. وما كان ... سوى حنظل فتى الفتيان
اسألوا زوجه وجلجل في ... القوم جواب سما عن الأذهان
أيها الفارس النبيل ولم تث ... نك عن عزمك الأكيد الثواني
إن تكن أمس قد خلت بعرس ... فبذا اليوم دخلة للجنان
نم قريرًا.. فأنت لازلت رمز ... الاحتراق الرضي للإنسان
إيه يا حنظل الفريد وكم قد ... عاش فينا أبوك طول الزمان
هو باق.. يحب ... ينجب لكن ... لم يطلق بعد نجل حنظل ثان- طيفان ... على نقطة الصفر: 14/ 25.
الغرض من هذه الأقصوصة الشعرية موضوعي إسلامي، ومثل هذا الاتجاه لا يجيده شعراء التحرر في التجديد، الذين يعبرون عن ذاتهم، ويفتشون عن أنفسهم، وهم قابعون في برجهم العاجي.
لذلك لم ينصهر الشاعر هنا في بوتقة المعركة، ليصورها بحرارة وصدق عاطفة، فاضطربت التجربة الشعورية عنده، ولم تكن عميقة تستقصي جزئيات الأحداث بدقة وواقعية، واضطرَّ الشاعر أن ينصرف عن الأحداث إلى الاهتمام بتصوير الطبيعة، فتستجيب مظاهرها مع موضوع القصة، فالنجوم تستغفر الليل، ولا أدري ماذا يقصد الشاعر من هذا الاستغفار؟ والرياح تعوي، وثمار الخباء مجتني العروسين، وجذوع النخل راهنت الليل، ولا أدري لهذا معنى؟ والفجر يشتد في عنفه، والليل طريد الرحيل، لا يتناسب مع الندى يغسل الأزاهير، ولا مع الأطيار التي تشدو بالألحان، والفجر يرقص، وأحد تتغنَّى بتلاحم الجمعان، وغيرها من مظاهر الطبيعة، التي لم يحسن الشاعر تطويعها، واستخدامها بما يتناسب مع الوقار في الموضوع، وهيبة الموقف، فلا يصح للفجر أن يرقص، ولا للطير أن تشدو وتتغنى حين التقى الجمعان.
ومما يدل أيضًا على اضطراب التجربة، وقلق التصوير الأدبي، مثل اضطراب كلمة "كما" وعاميتها، فليست لفظًا شعريًّا؛ لأن للشعر أدواته الخاصة، وذلك في قوله: "وارتاعت خطاه كما فؤاد الجبان" مما أحدث قلقًا في موسيقى البيت وسذاجة في التصوير الأدبي.
ومثل صورة تسابيح الدم الزكي تدق السماء، إنها تتفتح لها أبواب السماء، ولا تدقها، لما فيه من معنى العنف والقهر.
ومثل صورة "أرى الملائك حفّت بقتيل، وصورة "إنها تغسل القتيل"، وما هو بقتيل؟! بل هو شهيد وأي شهيد، والوزن واحد لم يضطرب.
وكذلك صورة: "نم قريرًا ... فأنت ما زلت رمز الاحتراق الرضي" تناقض في التصوير الأدبي، كيف ينام قرير العين وهو رمز الاحتراق الرضي.
وفي كل هذا الدلالة على أن الشاعر متحرر في تجديده من القيود الموضوعية، التي تتناسب مع أحداث القصة الشعرية فيعتسف طريقًا آخر يعبر فيه عن ذاته لا عن موضوع القصة وأحداثها، ألا وهو الهروب إلى الطبيعة، بدون مبالاة لواقعية الأحداث ونموها، ثم التحرر أيضًا من الواقعية الموضوعية إلى الانطلاق في ذات الشاعر، والتغني بها من خلال مظاهر الطبيعة، مما أوقع الشاعر في اضطراب التجربة الشعورية وقلق التصوير لها والتناقض بين أجزائها، وعدم انسجامها مع الغرض من القصيدة.
والشاعر نفسه يعترف بهذه الحقيقة، فيقول عن شعره في ديوانه "طيفان على نقطة الصفر": نلاحظ أن التناول لم يكن منصبًّا على سرد التفاصيل الحديثة، بقدر ما يصف الأثر النفسي أو الانعكاسات الشرطية، كما يسميها بذلك تلاميذ الغزالي، وبافلوف ... إنني لا أميل كثيرًا إلى الموضوعية في الشعر، فكلما كان الشعر موضوعيًّا كان بسيطًا، وكلما كان بسيطًا فقد هيبته وفاعليته كداعية إلى التخيل والتفكير.
وليس هذا القول صحيحًا إلَّا من جانب واحد فقط، وهو أن الشاعر متحرر ينشد ذاته فقط، ولا يحسن تصوير الأحداث في الشعر الموضوعي، ومن ينكر شاعرية شوقي في مسرحياته، وروعة التصوير فيها، فالتحرر عند بهكلي جعله لا يجيد تصوير شعر الموضوعات، والتي تقوم على نمو الأحداث وسحر تصويرها.
والذي يؤكد وجهة نظري هذه، هو ما أحس به بهكلي نفسه حينما حاول أن يأخذ
اتجاهًا جديدًا في ديوانه الثاني، وهو تعدد الموضوعات، والخروج من إطار الذاتية التي سيطرت على ديوانه الأول، وهذا التحول كان بناء على رغبة القراء كما يقول، وأعلن عن خوفه من الاتجاه الجديد، وتمنَّى ألا تخل الموضوعية الجديدة بالقيمة الفنية لمحتوى القصيدة، ولهذا الرجاء جاء بقصيدتين طويلتين، وهي قصيدة "غسيل الملائكة"، وقصيدة "ذهول الحس" يقول بهكلي:
"إنني أعلم جيدًا أن القراء لا يستوون من حيث الميول والنزعات، ولا من حيث المنحى الفكري، لذا آثرت تنويع موضوعات هذه المجموعة بشكل أرجو ألَّا يكون مخلًّا بالقيمة الفنية لمحتواها، ومع أنني لا أشك إطلاقًا في الإيجاز الذي اعتمدته هنا، وفيما مضى، وسأعتمده مستقبلًا بمشيئة الله، مع ذلك فقد وردت بعض القصائد الطوال كقصيدة "غسيل الملائكة" وقصيدة "ذهول الحس "مثلًا ... "1.
والحديث عن الموضوعية في شعر بهكلي لا يغض من شاعريته، وخاصة في الاتجاه الذي يجيده وهو الشعر الذاتي الغنائي، الذي يصور الأثر النفسي عنده، وهو بارع فيه وفي تصويره، قوي في إبداعه، حتى في الشعر الإسلامي، الذي يعد دون الأغراض الأخرى في الإبداع والتصوير.
الشهيد سيد قطب :
فالشاعر حين يصور أثر الشهيد "سيد قطب" الشخصية الإسلامية المعطاءة في نفسه، نجد شعرًا رائعًا قويًّا يدل على شخصية الشاعر وإبداعه الفني، يقول في قصيدته "إلى سيد قطب":
برغم الزحام ... برغم الظما ... يلو كان ذاك المدى المبهما
برغم الليالي حبالى عشى ... برغم الصبيحات سكرى عمى
برغم الذي جاء أو لم يجئ ... تمردت يا عاصفًا ملهمًا
فلا شيء واجهت إلّا ثوى ... كسيحًا.. وحطمت تلك الدمى
عبرت زمان القصور إلى ... زمان بدرع الوصول احتمى
وألغيت كل العذاب الذي ... قضى أمره زمنًا مبرمًا
ولم تك يا سيدي ساحرًا ... ولا ذا هوى بنجوم السما
ولكن ظللت شجاعًا بلا ... مراء.. وأعلنتها مسلمًا
وقال لك الله كن بذرة ... تفتح يقينا وأثمر دما
وراحت خطاك بدرب الهدى ... تشع سنا يهتك المظلما
وحققت دعوته لترى ... على طرقات الهدى معلما
وكم من جهول رديء بغى ... لك الخطب والحادث المؤلما
تغشت على ناظريه الرؤى ... فلم ير ذاك السنا الأعظما
ولم يجتل النور من مسلم ... وأنَّ له النصر إمَّا رمى
إذا مت يا سيدي معدمًا ... فما مت يا سيدي معدمًا
أتيتك يا سيدي لا تظن ... دمعي عليك إذا ما هما
لعمرك لم أبك يومًا على ... شهيد قلى الأرض نحو السما
ولكن حزني على أمة ... ملا عزها الكون واستلما
وعاث البغاث بأحسابها ... وقد طاولت - سيدي- الأنجما
إذا الصقر عن أيكة لم يذد ... رأيت النور تجوس الحمى
وإن أنجد الذئب يومًا وما ... تأذى.. فليث الشرى اتهما
أتيتك يا سيدي حيني ... معي وردة لم تزل بزعما
حنانيك ما كنت إلا كما ... ذوت بسمة لم تجد مبسما1
رابعًا: الرثاء
لا يوجد هذا الغرض إلا في ديوانه الثاني "طيفان ... على نقطة الصفر" ويضم قصيدة "ذهول الحس ص73، 82" في اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز -طيب الله ثراه، أنشدها في 13/ 5/ 1395هـ بالرياض، وقصيدة "حديث العياء ص82، 85" في رثاء رفيق الشاعر عبد العزيز أحمد هيجان في 1/ 4/ 1395هـ جيزان، وقصيدة "البريء ص86، 90"، مهداة إلى روح الشيخ علي بن يحيى عباس رئيس بلدية أبي عريش سابقًا.
يقول بهكلي في "ذهول الحس":
مثلما تهصر اليد الغصن هصرًا ... ووريقاته تساقط تترى
كما بعثرت حبيبات رمل ... ريح صيف تحول الحسن نكرا
مثل هذا يجيئنا القدر الصارم ... يخطو فما ندبر حذرًا
إن هربنا وكيف ذاك لم نسط ... طع هروبا فنسلم الأمر قسرًا
إنما خطوة القضا ألف شبر ... إن تكن خطوة الخلائق شبرًا
هي أقدارنا سوائم في مرتع ... أعمارنا تذل وتضرى
لم نأس إذا تعسفها الجوع ... فجاءت تجذ شوكا وزهرا
وإذا ما القضاء حل.. محال ... رده فالقضاء أمضى وأجرى
إيه يا لهفة المحبين زيدي ... وأجأري بالدعاء بالخير جأرًا
فالذي شيد المحبة صرحًا ... في الحنايا.. وبلور السعد بشرى
قد قضى بينما الليالي ابتهال ... ببقاه.. وغادة الحلم سكرى
والفيافي حدائق تتغانى ... ووجوه الأقوام تطفح بشرًا
بينما الحلم سارب في رؤانا ... يتهادى على المشاعر نهرًا
وإذا بالصروف تقطع ذاك ... الحلم كي تصنع النهاية غدرًا
ورمته الرعناء -آه- فأصمت ... سهمها.. والذهول بالحس أزرى
وإن الموجة العظيمة تنقض ... شتاتا قضته مدا وجزرًا
والحبيب القريب منا مسجي ... برداء ... وقد قضى الله أمرًا
ويكاد التكذيب يثبت لولا ... أن رأى العينين أصدق خبرًا
إنه مات لم نعاند.. ولكن ... عاند الحب ... رب رحماك تترى
كان في كل خافق أملًا يا ... رب فاغفر له ... وأجز له أجرًا
وأعني فإني لست أدري ... من أعزي فيمن فقدناه طرًا
أأعزي المحراب وهو انتحاب ... حين يضحي ضحى.. ويصبح فجرًا
أم أعزي المنى وكانت تغني ... لحنها الراحل المجلل فخرًا
حرت هل أبعث العزاء إلى مكة ... والقدس تسطر الدمع سطرًا
والبراءات هل أعزي وعين ... النبل والمجد يا إلهي عبرى
هل أعزي الشآم والنيل باك ... وعيون الفرات بالدمع سكرى
ويصبح البكاء في مسمعي من ... ربع عمان ... أم منازل بصرى
ولصنعاء آهة لو وعتها ... أذني ... أصبحت تجلل وقرا
وقف الحزن كاتبًا بيد الغدر ... على أوجه المحبين سفرًا
والمآفي سفائن في بحور الوجد ... والوجد ينثر الدمع نثرًا
إيه يا لهفة المحبين إني ... إن تزايدت استمحيك عذرًا
كلفيني البكاء والألم المغدق ... إني بندب حبي أحرى
سأصوغ الليالي عقدًا على صدر ... حنيني ... وسوف أوليك شكرًا
فالمصاب الجليل هتك أستار ... التأسي.. فلم يذر فيه سترًا
حملني الشجى ولمض المعاناة ... وأوفى إليَّ فجرًا وعصرًا
غير أني ... وإن تدجت سمائي ... لن أظل الزمان أطلب بدرًا
فعلى أفقي الرحيق بدور ... تتبدى فتصنع النور صبرًا
فالنفوس الظماء للعز تروي ... من عيون تظل تزخر زخرا
إننا صفحة إذا تمَّ سطر ... كتب المجد في الصحيفة سطرا
وإذا فل صارم من قرع الخطب ... لم تفتقد صوارم أخرى
نحن من أمة تخيرها الله ... فأضحت بالله أعظم قدرًا
ستظل الزمان تعلو وتعلو ... وتصوغ الجهاد حقًّا ونصرًا
وإذا ما اقتطفت يا دهر ريحانة ... آمالنا ... فلم نأت إصرًا
إن في الأفق نفحة من شذاها ... أرجا ينجلي بهاء ونشرًا
قد تموت الأشياء تفنى ولكن ... يخلد الحق ... فهو أعمق جذرًا1
كان لا بد من ذكر القصيدة كلها لأوضِّح أمرًا لا بد منه هنا، وهو أنني جعلت بعض القصائد في رثاء الفيصل من الشعر الإسلامي، ولم يدخل تحت باب الرثاء؛ لأنها انصرفت عن تصوير المرثي إلى تصوير ما قام به من حضارات إسلامية، وتثبيت لدعائم الشريعة ثم مواقفه العربية الإسلامية للدفاع عن الإسلام والعروبة وغيره، مما جعل مثل هذه القصائد الإسلامية العربية لا تدخل في باب الرثاء.
لكن هذه القصيدة "ذهول الحس" ليس بها من المرشحات السابقة التي تجعلها من الشعر الإسلامي إلّا في القليل من أبياتها، فهي أدخل في باب الرثاء، ولا ينقص ذلك من قيمتها الأدبية، فالرثاء ما زال غرضًا أدبيًّا نبيلًا وشريفًا وعدم دخولها في الشعر الإسلامي وانتسابها إلى غرض الرثاء يرجع لأسباب؛ أهمها: أنَّ الشاعر يرجع إلى ذاته، ويتمدد في وجدانه، ويهرب إلى الطبيعة هيامًا بها، ولا يخضع لموضوع في الشعر حتى يتقيد به، بل يسير على مذهبه من التحرر في التجديد، وهكذا يمضي الشاعر من أول بيت في القصيدة إلى آخر بيت فيها.
فالشاعر بهكلي يعبر عن مذهبه الأدبي فيها؛ لأنه لا يصور آثار الفيصل -طيب الله ثراه- في الأمة الإسلامية والعالم العربي، وما شيده من حضارة، وما حثَّ عليه من التمسك بقيم الإسلام وتشريعه، ولم يوضح مواقفه الشجاعة مع الأمة ضد أعداء العربية والإسلام.
لكن الشاعر صور أثر الصدمة العنيفة على نفسه التي رنَّت في أذنيه تحمل نبأ الاستشهاد، فأخذه "ذهول الحس"، وصرفه عن وصف الأمجاد إلى تصوير الآثار النفسية للنبأ الذي هزَّ وجدانه من أعماقه، وهزَّ وجدان العالم الإسلامي من حوله؛ بحيث أبدى الجميع آثار هذه الهزة العنيفة على النفس، فيصور مدى الأسى العميق الذي أصابها، ويصور اليد الطائشة التي أججت الأسى، ويصور القدر الذي فاجأ النفس بما لا ترغب مع الإيمان به كل الإيمان، في عشرين بيتًا.
ثم يصوّر العزاء بعد ذلك، وهو أثر نفسي أيضًا في ستة عشر بيتًا، وفي الأبيات الثمانية الأخيرة، يصوّر أمجاد المرثي، وغاية الأمر عنده في هذا، أنَّ الفيصل صفحة من التاريخ سطرها المجد، فهو سيف صارم، والحق خالد بعد فنائه، وتلك آثار نفسية أيضًا، وليست تصويرًا للأمجاد والبطولات التي حفظها التاريخ لهذا الزعيم الإسلامي العربي الكبير.
لذلك كان الشاعر دقيقًا وصادقًا، حينما جعل عنوان قصيدته "ذهول الحس"، فكانت صدى لتصوير أحاسيسه ومشاعره، وتجسيدًا لأثر الحادث الأليم على النفس، الذي فجر في نفسه تلك التجربة الشعورية الحزينة المؤلمة فجعلت النفس تنزف دمًا، وتتلظَّى ألمًا، وتشتكي أمرها، وهي مفزوعة حائرة تائهة لولا الإيمان بالقدر الذي يثبتها على العقيدة السمحاء.
فالقصيدة مشدودة بمميزاتها السابقة إلى الخصائص الفنية لمدرسة الشاعر، وهي التحرر في التجديد، التي يركّب فيها الشاعر أجنحة الألم والحزن والشكوى والانطواء داخل الذات والنفس، متحررًا عمَّا هو موضوعي؛ لأنه خارج عن ذاته وأعماق نفسه وأغوار وجدانه، وبهذا يكون الشاعر صادقًا مع مذهبه الأدبي، ومخلص له كل الإخلاص.
لهذه الأسباب أدخلت قصيدته "ذهول الحس" في باب الرثاء، لا في الشعر الإسلامي، على العكس مما صنعته في مواطن أخرى، حيث انضم إلى الشعر الإسلامي، لما يقوم عليه من موضوعية لا ذاتية، واهتمام بتصوير آثار المرثي وأمجاده، لا آثاره في نفسه فقط،، وبذلك يكون الرثاء قد أخذ طورًا جديدًا لم يكن له من قبل في الشعر الحديث، ولذلك فضلت أن يدخل في الشعر الإسلامي، فهو إليه أقرب من غرض الرثاء الموروث.
أما الديوان الثاني "طيفان.. على نقطة الصفر" فقد تنوعت فيه الأغراض والموضوعات، فاشتمل على أغراض موضوعية، وخاصة في شعره الإسلامي، ولكنَّه مع ذلك غلب عليه التحرر في شعره من الموضوعية والالتزام، وأوضحت ذلك حين تناولت الشعر الإسلامي غرضًا من أغراض شعره، حين صور الشاعر أثر الموضوعات في نفسه، لا ذات الموضوع بأحداثه، وقد أقر الشاعر بذلك على نفسه ومنهجه في الشعر كما قدمنا.
والشأن في الموضوعات الإسلامية التي تناولها الديوان الثاني أن تعتمد على الالتزام والتصوير الواقعي للأحداث كما وقعت في التاريخ، ولكن تحرر الشاعر في التجديد جعله لا يعبأ بتطور الأحداث ونموها، وإنما كان يصور أثر هذه الأحداث في نفسه، ودرجة استجابة العاطفة والمشاعر لهذه الأحداث، وضربت الأمثلة على ذلك من قصيدته "غسيل الملائكة" وغيرها.
__________
المراجع :
1-راجع ديوانه الأرض.. والحب: التقديم، نادي جازان الأدبي 1398/ 1978.
2- انظر ديوانه طيفان ... على نقطة الصفر: المقدمة ص4.
-وانظر طيفان ... على نقطة الصفر: 98/ 102.
- وكذلك طيفان ... على نقطة الصفر: 73/ 82.
وسوم: العدد 684