البعد الوطني في شعر د. محمد حكمت وليد

ما الذي يميز التجربة الشعرية في القضايا الوطنية ؟ أهو انشغال الشاعر بقضية وطنه، أم أن الشعر الوطني محاولة لإعادة إنتاج تجربة الوجود للأمة مجتمعة ؟

تلك أسئلة أساسية تراود الذهن إذا أردنا فهم السياق العام الذي تُكتب فيه القصيدة الشعرية الوطنية، وإذا أردنا تحديد السمة الجوهرية لهذه التجربة برمتها .

-تعود جذور القصيدة العربية الوطنية إلى عصر ما قبل الإسلام، حيث تنصهر التجربة العامة للشعر بالتجربة الخاصة، وما وقوف الشاعر على الأطلال، وذكر المنازل والمواطن والديار إلا مواقف شعرية يتجلى فيها الحنين إلى مكان حلّ فيه وأقام، وكان له بين أعطافه ذكريات وحوادث ومواقف تشابكت في مقدمات طللية كانت بمنزلة رسالةٍ للشاعر، وغايةٍ حيّرت النقاد والمفسرين إلى يومنا هذا .

إنّ المقدمات الطللية خصيصةٌ مميزة للشعر العربي أملتها حياة البداوة، فظاهرة التنقل للقبائل العربية أيام الربيع والصيف، وما رافقها من تجاوز وائتلاف، ثم العودة إلى الديار الأصلية ولّدت ظاهرة الوقوف على الأطلال التي ظلت موجوداً ثابتاً يتجاوز معناها القاموسي، فهي الوطن والأرض والوجود والمكان الذي فيه الإنسان، والذي أقام فيه، إذ أضحت مكوناً أساسياً من هويته وذاته، وفي ضوء ذلك قرئت معلقة (امرئ القيس) التي قيل فيها : إنه بكى، واستبكى، ووقف، واستوقف .

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ       بسقطِ اللوى بينَ الدَّخولِ فحوملِ

ولم يكن (امرؤ القيس) أو من بكى الديار، فقد سبقه ابن حذام كما أشار إلى ذلك في موضع آخر من قصيدة له :

عوجا على الطلل المحيل لعلنا        نبكي الديار كما بكى ابن حذام ِ- ديوان امرئ القيس- اعتنى به، وشرحه عبد الرحمن المصطاوي، ط2، دار المعرفة بيروت 2004م ، ص 151 .

-تطور مفهوم (الأطلال) لدى الشاعر العربي بعد الإسلام، وعبر مرحلة تاريخية اتسع فيها امتداد الأرض العربية، وشيدت فيها المدن ودور العلم، وازدهرت الفنون، وتنوعت الثقافة، ونشأت دولة وأمصار، وغدا الوقوف على الأطلال بوصفه مكوناً من مكونات الذات العربية لدى الشاعر العربي في عصور لاحقة شعوراً عربياً، ورابطاً فكرياً، وثقافياً وإنسانياً وقومياً يربطه بكل مكان أقام فيه، وبناسه وأهله، وأصبح في فترة الازدهار تطويراً واضحاً لما سيصبح فيما بعد سمة مميزة للشعر الوطني وللتجربة الشعورية الوطنية في الشعر العربي، وأصبح ذكر الأماكن والمدن وطناً وانتماء وكياناً وإحساساً بذات أعمق وأشمل يتجلى في قول أبي تمام :

بالشام أهلي، وبغداد الهوى، وأنا        بالرقمتين، وبالفسطاط إخواني

إن الإحساس الوطني بوصفه الذات والشخصية والانتماء يتحول في مرحلة الضياع العربي والتمزق والانحدار إلى صرخة مدوية في شعر الشعراء بحثاً عن الذات المنهارة لهفة إلى إعادتها وإعادة أمجادها، إذ تحولت العلاقة والارتباط من ارتباط قبلي كما هو عند دريد بن الصمة في قوله :

وهل أنا إلا من غزيةَ إن غوتْ        غويتُ، وإنْ ترشدْ غزيةُ أرشدِ

إلى ارتباط قومي يمثله الكثير من الشعراء ومنهم الشريف الرضي، والمتنبي الذي يقول مستصرخاً :

وإنما النــــــــــــــاسُ بالملوكِ وما       تُفلحُ عربٌ ملوكها عجمُ

وإذا الحنينُ مشاعرُ وأشواقٌ للأرض بوصفها مأوى ومستقراً، وملاذاً، ومسقطاً للرأس، ومكوناً أساسياً لذات الإنسان ولذات الشاعر يتحول إلى ذكرى وإلى فكرة تستعاد لدى الشاعر ابن الرومي ترافقه في غربته عن بغداد بعد انهيارها، وإذا الأرض تتحول من أرض مادية تاريخية إلى فكرة تتغلغل في الذات، وإلى جغرافية تخيلية واقعاً وخيالاً :

بلدٌ صحبتُ به الشبيبة والصبا      ولبستُ فيه العيش وهو جديد

فإذا تمثل في الضــــــــــــــــــــــمير رأيته       وعليه أفنان ُ الشبــــــــــــــاب تميـــــــدُ

-إن تصور الوطن بوصفه فكرة تُستعاد أو صورة تمتزج بالصور الأخرى تطورت في الشعر العربي في العصر الحديث، وخلال قرون من الاحتلال والاستعمار والصهيونية هاجر فيها أبناء الوطن إلى ديار غريبة، وخاض الشعب خلالها ثورات ومعارك كفاحية دفاعاً عن الوجود وعن الذات . نما مع هذه الصورة فهمٌ جديد للوطن ولعلاقة الشاعر مع الوطن، إذ تحوّل فيه الوطن إلى جسد إنساني يُعجن بتراب الوطن نازعاً عنه رداء الجماد وصفاته .

وتتضح صورة الوطن الجسد في الشعر الفلسطيني ليصبح جسداً شديد القرب ونقطة تفجير مركزية للخيال الشعري، إنها صورة الوطن المحمول في القلب، ينسج حولها أبو سلمى شعره بعد النكبة عام 1948م، ويُنشئ علاقة تضاد بين البعد والقرب، الوطن البعيد باغتصابه، والقريب في حلمه :

وطني ! هل سمعت من خفق قلبي      أغنياتي، وهل شجاك النشيدُ ؟

قـــــــــــــــــــــــــــد حملناك في القلوب وكنّا         نتناجى، وأنت دانٍ بعيــــــــــــــــد ُ

-غير أن التحول الجذري لصورة الوطن في الشعر العربي يأخذ رمز المرأة الوطن، فالشاعر هنا يختزل كل شيء في تجربته، وتجربة شعبه، والتجربة الوجودية المشتركة التي تنصهر فيها الذات بالجماعة حيث تشترك فيها الأرض بوصفها جسداً بعيداً، والمرأة بوصفها حلماً قريباً، وتذوب فيه التفاصيل بين المحبوبة والوطن .

وتظهر لدى الشاعر العربي التجربة الوجودية الجماعية، فيشترك فيها الوطن بوصفه جسداً بعيداً، والذات الفردية المشتتة لكتابة لحن جماعي يتخذ من الشعر قالباً تعبيرياً، وقد تجلت هذه التجربة في شعر نزار قباني، إذ يقول :

قادمٌ من مدائن الريح وحدي       فاحتضني كالطفل يا قاسيون

احتضني ولا تناقش جنــــــــــــوني       ذروة العقــــــــــل ياحبيبي الجنونُ

احتضني خمسين ألفاـــــــــــً وألفاً        فمع الضمّ لا يجوز السكونُ – كتاب مفهوم الأرض في الشعر الفلسطيني المعاصر : فخري صالح بتصرف .

*****

  ثلاثية الجرح والوطن :

كتب الشاعر (ثلاثية الجرح والوطن )، وهي موجودة في ديوانه المخطوط (تقاسيم على قيثارة الوطن )، وهي عبارة عن ثلاثة قصائد جاءت تحت العناوين التالية : وطن الجرح، في وجه الباب المغلق، اللاذقية التي أريد، والقصائد الثلاث من شعر التفعيلة ، تعبر عن صورة الوطن الجريح، بكل واقعية ، وتفضح الظالم المستبد الذي عاث الفساد في ربوع البلاد، كما تصور هذه القصائد الوطن الذي يرجوه الشاعر ويطمح إليه .

يقول في قصيدة ( وطن الجرح ) ..

يا وطن الجرحِ ..

وزهوَ الفتحِ

ونورَ الصبح ِ

ألمتُ لجرحك يا وطني ..

يا وطن المفجوعين المذلولين ..بكل مكانْ ..

يا وطناً ما زال بجوف الليل يرتّل آيات القرآنْ

يا وطناً حجّمه الباغي ..

بين جدار السجنِ ..

وبين تراب القبرِ ..

وبين المنفى في البلدن ..- تقاسيم على قيثارة الوطن : 12 .

إنها صورة حزينة قاتمة لهذا الوطن التعيس بجلاديه الذين غرسهم المستعمر خنجراً في جسد الأمة، ويا لتعاسة أبناء ذلك الوطن الذين يعانون من القتل والسجن والنفي، وإذا يمكر بك الذي كفروا ليخرجوك أو يثبتوك أو يقتلوك، ويمكرون، ويمكر الله، والله خير الماكرين .

ويمتزج عند الشاعر حب الوطن والشوق إليه، فهو يعاني من ألم الفراق، فالروح في مكان والجسد في مكان بعيد :

أشتاق لعطرك يا وطني ..

للدوح وأشجار التين

واللوز ..وزهر الليمونِ

يا فلاً تزرعه أمي ..أشتاق إليكْ

يا حباً يسكن في كبدي ..أشتاق إليكْ

أشتاق إليك وأركبُ طائرة الأحلام ِ

وأعبرُ فوق جبال الهندِ ..فوق السند

أحطُّ إلى السّجن بأطراف الصحراء ِ

أشارك أحبابي في السجنِ عذابهمُ ..

وصلاتهم ..وقيامهمُ ..

وأقبلُ فيهم وطنَ الجُرح ِ..

وكلَّ جراحكَ يا وطني ..

ويقارن الشاعر بين وطنه الذي يعاني من الشقاء والحرمان وضياع الحقوق، وبين الأوطان المتقدمة في بلاد الغرب، فيقول بمرارة وحزن عميق يكاد يفتت كبده الحرى:

العالم أصبح يا وطني ..

يُعنى بحقوق الإنسان ِ

ويصونُ حقوق الحيوانِ

ويناضل دون حقوق الأرضِ

وحقّ الطيرِ

وحقّ الشجرِ..

وحقّ الحجرِ..

وحقوق ..ما مرّت في بال البَشرِ

والقائد – سيدنا القائدُ – ريشٌ منفوشٌ كالصنم ِ..

والحزبُ القائدُ – سيدنا الحزبُ القائدُ –

ما زال على إرث الصنم ..

ويمجد أوهامَ الصنم ِ..

ويقيمُ الأرض ويقعدها ..إن لم يُعبدْ وجهُ الصنم ِ- تقاسيم على قيثارة الوطن : 14.

ويصمم الشاعر على العودة ويحمل على كتفه فأس إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويعزم على تحطيم الأوثان والأصنام الحجرية والبشرية :

سأعودُ لأرضك يا وطني ..

وأداوي جرحك بالألم ..

سأعودُ بمعول إبراهيم ..يحطّم أركانَ الصنم ِ..

سأعودُ أقبّلُ ترب الأرض ِ

وفوق الأرض

وتحت الأرض

وآكلُ مِنسأةَ الصنم ِ- تقاسيم على قيثارة الوطن : ص 15 .

في وجه الباب المغلق :

كشف الشاعر الإسلامي محمد حكمت وليد عن مكنونات حبه للوطن الحبيب وفضحته دموعه ، فعرف ذلك الحب البعيد والقريب، وعندما أبصره أحد (الرفاق) وسمع شعر الحنين لديه، أظهر الشفقة وقال : لمَ لا يسوي وضعه ويعود إلى حضن بلده ، فردّ الشاعر عليه بقسوة فقال :

وضعي سويَّ أيها الرفيقْ ..

ما كنتُ يوماً مجرماً ..

ولم أتاجرْ بالحشيش والرقيقْ ..

لم أقطع ِ الطريقْ

لم أسلب اللقمة من فم الجياعْ ..

ولم أعرّض البلاد للضياعْ

لم أسلب الأفراحَ من عيونِ الأمهات ْ

ولم أيتم الأطفالَ

لم أنكّلِ الزوجاتْ ..

ولم أجرجر الشيوخ يطرقون بابَ السجنِ واجمينْ ..

ليطلبوا من حضرة الجلاّد نظرة لكوّة السجين

ومن صغاره يردّهم ..بعد العناء خائبين ..

ويرد الشاعر على ذلك الرفيق الذي دعاه لتسوية وضعه والعودة إلى الوطن وكأنه نسي الشروط التي يفرضها السلطان على العائدين وهي التبرؤ من معتقداتهم السابقة وأخلاقهم وعاداتهم والرضا بالركوع والخنوع للطاغية بينما أتباع النظام من المخبرين المجرمين ينعمون بالرفاه ويقامرون بمصير الأمة ويسرقون خيراتها :

وضعي سويٌّ أيها الصديق

ومن يُسوي وضعي الذي تقول ؟

المخبر ذو الوجه الصفيقْ ؟

أم ذلك اللص العريقْ ؟

أم ذلك الجلاّدُ وهو في دمائنا غريق ؟

أما إذا كان وضع النظام على هذه الدرجة من الصفاقة ، فمن هو الذي يحتاج لتسوية :

وضعي سويٌّ أيها الرفيقُ لا يحتاجُ تسوية

لكنّ وضعَ حكمكم ..بحاجة لتسوية

ووضع حزبكم ..بحاجة لتسوية

ووضعُ فكركم ..بحاجة لتسوية

ووضع عقلكم ..بحاجة لتسوية

ويصور له مواطن الخلل في الحزب القائد والنظام الجائر فيقول :

وضع البلاد مائلٌ يا أيها الرفيق ..

فشقها غريق ..

وشقها الآخر يأكله الحريقْ

إن البلادَ أيها الصديقْ ..

في مأزق عميقْ

كانت لها ريادةٌ نهضةٌ

وموعدٌ وثيقْ ..

فأصبحت بفضكم

في آخر الطريقْ ...- تقاسيم على قيثارة الوطن : ص 17 .

اللاذقية التي أريد :

ثم قال له صديق سوّى وضعه وعاد إلى حضن الوطن ..لم لا تعود إلى الوطن ؟ فكتب له الشاعر قصيدة تحت عنوان ( اللاذقية التي أريد ) يقول فيها :

اللاذقية التي أريدْ ..

حرّة أبية ..لا ترتضي عيش العبيدْ..

لا تعبدُ الأصنامَ من جديدْ ..

لا يرتعُ المخبرُ في حاراتها ..

ولا يكونُ اللصُّ من ساداتها ..

كريمةٌ لأصلها تعودْ ..- تقاسيم على قيثارة الوطن : 18 .

فهو لا يريد وطناً يرتع فيه المخبرون المجرمون، ويعيثون في الأرض فساداً، ويكمل الشاعر صورة الوطن الذي يريده، فيقول :

اللاذقية التي أريد

جنّة بهيّة ..

هواؤها مُعطَّرٌ ..

وطلعها نضيدْ

تُستعذب المياه في عيونها ..

وتقطرُ الأعناب في كرومها ..

وعندَ موسم الحصادْ ..

يعمرُ الحصيدْ ..

ويصور أخلاق أبناء الوطن الذي يريد فلنسمع إليه وهو يقول :

اللاذقية التي أريدْ ..

سمحةٌ رضيةٌ ..

تشعرُ بالمُصاب حين موتِ والدي ..

لا تغلقُ الحدودْ ..

وتسمعُ الأنينُ في الفؤاد

حينما يبكي الفؤاد كالوليدْ ..

ولا تزيدُ لوعتي ..

ولا تردّ رغبتي ..

أن أحفرَ التراب في ربوعها ..

لأدفنَ الفقيدْ ..

ثم يتابع ويسترسل في رسم صورة الوطن الحبيب الذي يطمح إليه :

اللاذقية التي أريدْ ..

أمٌّ رؤوم حُرةٌ ..

تبحثُ في أقاصي الأرض عن أطفالها ..وكلهم فريدْ ..

نشكو لها همومنا ..ونكتبُ القصيدْ ..

فتحتفي بشعرنا ..وتطلبُ المزيد ..

إن يريد وطناً يمتاز بحنان الأم وعطفها ، يحفظ كرامة الإنسان وحريته ويحقق أحلام المواطن وآماله ويمسح دموعه ويواسيه عند الشدائد ..هذا هو الوطن وإلا فلا :

اللاذقية التي أريدُ

بلدة حبيبةٌ

كرامتي محفوظة في أرضها ..

أسابقُ الغزلان في مُروجها ..

أنثرُ أحلامي على سهولها ..

فتزهرُ الورودْ

أسكبُ آلامي على جبالها ..

فتزأرُ الرعودْ

أعندما تهمي عيوني بالدموع ..تمسحُ الخدودْ ..

اللاذقية التي أريد

كريمةٌ طاهرة .. لاتعبد الأصنامَ من جديدْ ..

اللاذقية التي أريد ..

حرة أبيةٌ

لا ترتضي عيش العبيد

لا ترتضي عيش العبيد – تقاسيم على قيثارة الوطن : 20 .

فالشاعر محمد حكمت وليد إما أن يعود إلى وطن يحترم الحريات وحقوق الإنسان كاملة غير منقوصة وإما أنه يفضل الغربة على العودة إلى وطن يعيث فيه المجرمون ويسرحون، ويمرحون .

الغربة في شعر د. محمد حكمت وليد :

يعدّ موضوع الغربة والحنين من الموضوعات التي تلازمت مع الإنسان في حله ورحيله، وقد تجلى هذا الموضوع عند أغلب الشعراء الذين ذاقوا مرارة البعد والفراق، وكانت العوامل السياسية من العوامل التي أرغمت كثيراً من أبناء الوطن العربي على ترك أوطانهم ، ومن هؤلاء الشاعر السوري محمد حكمت وليد الذي غادر بلاده من أجل الدراسة في بريطانيا، فشدا في مغتربه يقطر ألم الفراق، ويحمل أمل العودة واللقاء لذا جاء موضوع الغربة والحنين بارزاً في نتاجه الشعري بروزاً يجذبُ الناقد للوقوف عليه بوقفة نقدية تتلمس تجربته المتميزة في هذا الموضوع ، وقد أشبعت الدكتور سمية الرومي هذا الموضوع بحثاً ودراسة من الجانب الموضوعي والفني .

لقد سيطر موضوع الغربة والحنين على ديوان محمد حكمت وليد الأول، ولا غرابة في ذلك فقد غرد قصائده بعيداً عن وطنه، وعنوان الديوان (أشواق الغرباء ) يرسل أولى الإشارات الموحية التي أرسلها الشاعر للمتلقي، وهو (المفتاح الذهبي) لمحتوى ديوانه الذي تنوعت موضوعاته، ولكن تظلل هذه الموضوعات، وتجمع شتاتها (أشواق الغرباء )، والملاحظ أن عنوان الديوان تكون من كلمتين ركبتا تركيباً إضافياً، وجاءتا بصيغة الجمع، الأولى : تدل على العواطف، والثانية : تدل على تلبس الذوات بهذه العواطف، وهما تمتزجان امتزاجاً يحمل دلالة الاتصال الدائم بينهما، ولا يجد المتلقي فواصل بين قصائد الديوان، فهناك غربة وشوق وحنين في مجالين؛ المجال الأول غربة الذات، والثاني غربة المبدأ. ويظل بالمقابل الشوق والحنين للذات والمبدأ . ويزداد هذا الاغتراب مع الاغتراب الزماني، والمكاني القائم على الإجبار والظلم والإبعاد.

والديوان في مجموعه ما هو إلا تعبير عن هموم الشاعر في مغتربه في بريطانيا، وهو لا يؤثر الصمت، بل يظهر الرفض، ويجسده في قصائده التي ترفض ممارسات الوطن التي لا يرضاها، وهذا الإحساس يكتشفه المتلقي في سائر دواوينه .

تعريف الغربة لغة :

الغرب والمغربُ بمعنى واحد، والغرب : الذهاب والتنحي عن الناس، وغربت الشمس : بعدت وتناءت ، وغرُب الشخص بعد عن وطنه، والتغرب : البعد والاغتراب هو افتعال من الغربة، فهي مشتقة من الأصل، لذا فإن الغربة أعمق في الدلالة، وسوف أوضح ذلك في تناولي النقدي لغربة الذات وغربة المبدأ، بينما الغربة الأقل عمقاً في ذات الشاعر زمانياً ومكانياً وسوف أسميها بالاغتراب، وقد كثر استخدام هذه الكلمة في العصر الحديث، حيث نجدها من أكثر الكلمات دوراناً، يقول محمود رجب ( لو وجه علماء اللغة أجهزتهم لرصد ما يكتبه الباحثون والنقاد والفلاسفة في عصرنا الحاضر فإنني لأراهن أن كلمة (الاغتراب) سوف تحظى بالأولوية من حيث تردادها ) .

الحنين إلى الديار :

والشاعر محمد حكمت وليد يجسد في دواوين شعره (الوطن)، ويشخصه ولا سيما في ديوان أشواق الغرباء وديوانه الثاني تراتيل للغد الآتي حيث يلاحظ الناقد في شعره كثرة الحنين إلى الوطن، والشوق إلى الأهل والصحب، وهذا ما لا نجده عند غيره من الشعراء الذين يعانون غربة كغربته.. إلا قليلاً. وتفسير ذلك عنده ( إنه انتماء للأرض والناس والأفكار.. وانتماء لمجموعة من القيم والعقائد التي شكلت جسم الأمة، والتحمت بقيمها الإسلامية، فأصبحت جزءاً من الروح والقلب والجسد.

وإنني حين أحنُّ إلى الوطن، فإنني أحنُّ إلى فترة من العمر كانت مليئة بالأحلام والأمل.. ولازلت أشعر أنني لم أؤدِّ حقَّ وطني الذي ترعرعت بين رباه، وحالت بيني وبينه غربة طويلة.. لقد كنت كسندباد مسافر جمع في رحلاته زنابيل اللوز والزنجبيل.. وقوارير المسك والعنبر.. وعندما أراد العودة بها وجد الباب موصداً فاضطر أن يبيع بضاعته على أرصفة المرافئ.

لقد وجدت في غربتي بلاداً أكثر خضرة، وأخصب أرضاً، وأغزر علماً من الوطن.. لكنني لم أجد فيها يوماً الآصرة أو الانتماء.. بقيتْ روحي كزهرة نيلوفر طافية على سطح الماء، وبقي جذرها الذي يمدّها بالحياة غائباً في عمق المياه، يسامر عند قاعها التراب الناعم. والطحالب، ونجوم البحر.

تجربة إنسانية واحدة :

والذي يقارن شعر الحنين إلى الوطن عند محمد حكمت وليد، وعند شعراء المهجر يجد التشابه الكبير بينهما، فهل هو متأثر بأدب المهجر وشعرائه ؟؟

يجيب د. محمد حكمت وليد عن هذا التساؤل بقوله : (( لاشك أن تشابه التجربة الإنسانية، يؤدي إلى تشابه الإفراز الشعوري الذي عبَّرَ عنها. وأنا لا أستبعد أن أكون قد تأثرت بالشعر المهجري الذي أحببت قراءته منذ أن كنت على مقاعد الدراسة. ولازلت أذكر وأنا صغير قصيدة رشيد أيوب المؤثرة حين كان يخاطب في مهجره الثلج الذي ذكَّره بقريته القابعة على ضفاف الوادي في جبل لبنان:

يا ثلج قد هَيَّجْتَ أشجاني

ذكـرتني أهلي وأوطاني

بالله قـل عني لجيراني

مازال يرعى حرمة العهدِ

http://www.odabasham.net/images/adab18.gif    http://www.odabasham.net/images/adab18.gif    http://www.odabasham.net/images/adab18.gif

يا ثلج قـد ذكرتني أمي

أيام تقضي الليل في همّي

مشغوفة تلتذُّ فـي ضمّي

تحنو عليَّ مخـافة البردِ

كما أن له قصيدة أخرى أكثر تأثيراً، يتحدث فيها عن مهاجر قديم، عاد إلى بلدته بعد فراق طويل. وكانت فجيعته بفراق بلدته كبيرة، ولكنها أصبحت أكبر عندما عاد ورأى معالمها قد تغيرت، كما تغير ناسها وأفكارها. لقد بقيت العودة جميلة ما دامت حلماً، فلما تحققت تكسرت على أرض الواقع بقسوة ووحشية، فتحولت الغربة الجسدية إلى غربة معنوية وروحية، وارتقت إلى أبعاد إنسانية ومأساوية عميقة.

فصارت الغربة عند شاعرنا هي غربة المبدأ، وغربة الذات، وغربة الزمان، وغربة المكان، وامتزج فيها اللوم بالاغتراب .

غربة المبدأ :

تحدث النقاد والفقهاء والعلماء عن الغربة، وقد كان حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن الغرباء الدافع لكثير منهم للحديث عن هذا الموضوع، ومن الذين تناولوا ذلك (ابن قيم الجوزية) الذي ذكر أن الغربة تأتي على ثلاثة أنواع ، غربة أهل الله ، وأهل السنة، وهي غربة مدحها النبي -عليه السلام-، وغربة مذمومة وهي غربة أهل الباطل، وغربة مشتركة لا تحمد، ولا تذم، وهي الغربة عن الوطن . وابن القيم يقصد بغربة أهل الله الأمر المرتبط بالمبدأ والمعتقد.

وتبرز غربة الروح في ظل الطغيان المادي في حياة المسلمين، وشاعرنا تبرز لديه الغربة الروحية متمثلة في عدم التكيف الاجتماعي والنفسي، وتبدو دلالاتة في رفض ما يفرضه النظام الظالم من كبت للصوت وللحرية، وفي عدم التكيف النفسي مع من يخالفه بالمعتقد .

أولى قصائد الديوان (يا رب) تحمل نأمات الشاعر الروحية واتحاد الذات مع أشواقها الإيمانية المغتربة والمبتعدة عن مراتع الصبا والإيمان، والمصطدمة مع الجاحدين المنكرين الأشقياء الذين ابتعدوا عن التفكير المنطقي الصحيح، يقول في مستهل قصيدته يارب :

يارب يا نور اليقين يا من بوحيك أستبين

كم ذا يماري المدعون ويحجد ..المتنكرون

لكنهم لو يعلمون عن الحقيقة ..غافلون

وبكفرهم هم أشقياء في الضلالة يعمهون

لو فكروا في خلقهم يوماً لعادوا مهتدين –أشواق الغرباء : 20 .

أبيات الشاعر في ابتهاله تقوم على المفارقة الكاشفة عن غربة الحق يؤمن به الشاعر، إنها غربة الذات والمبدأ معاً، والمفارقة تتولد من المقابلات المعنوية بين الحق المبين والهدى والنور، وبالمقابل هناك الكفر والشقاء والضلالة، والشاعر يعلن هؤلاء الضالين، بل تصبح هذه الأمنية هي أهم وأغلى أمنية يسأل الله تحقيقها :

يا رب لو أدنيتني من عرشك الزاهي المكين

وطلبت مني أن تحقق أمنيات لي خفين

لسألت وجهك حاجة في هدأة الليل الحنون

أن تبعث الإيمان يزهرُ في قلوب الكافرين – المرجع السابق :  23 .

وفي قصيدة (صحوة الإسلام ) تطالعنا تجربة شعورية متقدة تحمل استبشار الشاعر في انعتاق المبدأ من الغربة ، ويتكئ في نفسه الشعوري المعبر عن هذا الانعتاق على ثنائية الحضور والغياب ، حضور الإسلام ، وغياب أو تلاشي الكفر، والإسلام حاضر وماثل بقوة في تصويره الواقعي الذي يشكله من الطبيعة المحيطة به، ومن التاريخ المشرق الذي يستدعيه :

تألقت من ربوع الحق أنوارُ         وانداحت الظلمةُ الظلماء والنارُ

واخضوضرت دوحة الإسلام وارفة        تشدو بأفنانها الورقاء أطيارُ

الله أكبرُ دوت في مرابعنا                كأنما هبَّ في الآفاق إعصارُ

فسطر المجد يا تاريخُ مكرمة ً         وكلّل الرأسَ بالأمجاد يا غارُ – شجر دائم الخضرة طيب الرائحة ، يكلل به القائد المظفر .

فهذه صحوة الإسلام قائمة           ودولة الكفر بالكفار تنهارُ

الشاعر في نسج صوره يعتمد الصور اللونية التي تكشف نفس الشاعر، وتنجح في إبرازها لعالم الظهور، لذا يأتي التضاد اللوني بين (أنوار ) و (الظلمة الظلماء) ، إنه يغلب النور على الظلمة، ليؤكد انتصار الحق على الباطل، ويؤكد ذلك بالصور اللونية (واخضوضرت دوحة الإسلام ) اللون الأخضر يرمز إلى الخصوبة والنماء، لذا يجعله الشاعر رمزاً للنصر، فلا غرابة إذن أن يزداد اللون الأخضر حضوراً في الخطاب الشعري، ويؤكد انتصار الحق بأمرين؛ الأول في قوله : وكلل الرأس بالأمجاد يا غارُ، فالغار نبات يكلل به الرومان رأس الفارس المظفر، والأمر الثاني باتكائه على الفعل الماضي الذي تأكد حدوثه : ( تألقت أنوار ، انداحت الظلمة ، اخضوضرت دوحة الإسلام ) .

وفي الأمرين كانت الصورة اللونية تؤدي دوراً فاعلاً في إثراء المشهد المنتصر بالدلالات النفسية المعبرة عن فرح الشاعر واستبشاره، ثم هو في تصويره ينتقل من هذه الصورة البصرية المتوهجة إلى الصور السمعية التي تحمل صوت الحق ونداء التكبير لتبليغ هذا الدين العظيم .

إن فرح الشاعر واغتباطه بالصحوة المباركة تدفعه لزف التهاني لرواد الصحوة، ويربط هذه الفئة بعصر الغرباء الأول عن طريق النداء الذي يستدعي الموروث التاريخي (يا عصبة الحق ) ، وهو في هذا الاستدعاء من خلال النداء يستدعي واقعة وحدثاً غيّر التاريخ ، إنه دعاء الرسول عليه السلام : ( اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض ) ، لقد أثار هذا الاستدعاء في نفس الشاعر الأمل لتحقيق الأمس المضيء في الواقع الذي بدأت أنواره تشرق وتملأ الكون :

يا عصبة الحقّ هيا للجهاد فقد       تزاحمــــــــــــــــــــــــت في ركاب الله أحرارُ

لتهن أنفسكم روحُ الجهاد فما      ضاعت سدى في سبيل الله أعمارُ

غرستمُ الحق في أرض تدوم له      طابت مع المجــــــــــــــــــــــــــد أغراسٌ وأثمارُ

وإن أرواحكم من عند بارئها       ترنو إلينا فمـــــــــــــــــــــــــلء الكون أنوارُ–أشواق الغرباء: 34.

وتحين من الشاعر التفاتة إلى الطاغوت المتمثل بالجلاد ( حافظ الأسد ) الذي يحكم بلاده في تساؤل يحمل في ثناياه الحرقة والألم لمحاكمة تصرفات هذا الظالم :

طاغوت حتام تغشى الناسَ في محن ٍ     إلى متى يستباحُ الأهل والجارُ

على الأعادي حسام كلَّ مضربه     أما على الشعب فالصمصام بتارُ

أما جرى منك دمع العين تذرفه         فقد جرت بدماء الناس أنهارُ

أذللت شعبك بالطغيان تقهره              فهل نسيت بأن الله قهّارُ

حسبت أن جنود البغي عاصفة ً            وأنما الملك جلاد وجزّارُ

إيوانُ كسرى عفت آثار دولته          وغادر القصر أعوان وأنصارُ

الشاعر في مواجهته الكاشفة للأعمال الإجرامية التي سلطت سيف الجلاد على الشعب وفطمته عن الأعادي يعتمد في بنائه الأسلوبي على المفارقة الحادة التي يعري من خلالها ذات الطاغوت التي تتفرد في جميع الأفعال الإجرامية ضد الشعب وفي ذات الوقت السلمية مع العدو، ومع أن وصف الشاعر يوحي بشراسة هذا الطاغوت إلا أنه يختصر نهايته ونهاية أمثاله في البيت الأخير الذي يجسد أمل الشاعر في النصر .

ويأتي ختام قصيدته عن الصحوة يردد نداء الصحوة الخالد : الله أكبر :

الله أكبر إن الظلم ينهارُ       في الشرق والغرب للإسلام تيارُ

هذا الذي وعد الرحمن عصبته    إن تنصروا الله ينصركم ويختارُ

وقل لمن قام للإسلام يغلبه       إن كنت ريحاً فقد لاقاك إعصارُ – المرجع السابق : 36 .

النفس الملحمي المنتصر يسيطر على أبيات الشاعر، وهو نفس يظهر الاستعلاء والفوقية التي واجهت تلك الأفعال الاستبدادية، والشاعر في ختامه يستعيد الماضي بخصوبته وانتصاراته من خلال التناص الذي لا يكتفي باقتباس الكلمة ( عصبته) ، بل يتجاوز إلى التضمين : ( إن كنت ريحاً فقد لا قيت إعصاراً )، وهو بهذا التناص المتوالي يثري خطابه الشعري ويكسبه تعددية المصادر المعرفية مع تمركزه في ذات الشاعر المغترب الذي وجد انعتاقاً ذاتياً له من خلال الصحوة التي امتزجت معها ذاته وقضت على بون المسافات التي تقطعه عن الوطن .

غربة الذات :

 عاش الشاعر محمد حكمت وليد في مغتربه بجسمه ودواعي حياته العلمية والعملية التي تحيط به ، أما روحه ومشاعره، وحياته الوجدانية ووجوده المعنوي فهي تحيا في حنين واغتراب ، ومع ذلك فقد ظهرت الإيجابية الفاعلة في شعر الاغتراب عند الشاعر إذ كان عاملاً من عوامل نمو الذات لتواجه، فهو لم يستسلم لقدر الغربة بل كان هذا القدر دافعاً قوياً لقدر اللقاء والعودة، وفي القصيدة المحورية في الديوان والتي عنونها بـــــــ(غرباء ) واستهلها بتقديم يحمل دلالة عنوانه الموحي، هذا التقديم هو قول الرسول – صلى الله عليه وسلم - : (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء ) – رواه مسلم – جامع الأصول في أحاديث الرسول ابن الأثير ، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط ، مكتبة الحلواني ، 1389ه – 1 / 275 .

 يستهل الشاعر قصيدته بتوجيه سامعيه إلى فؤاده الملتاع وقلبه الحزين الذي شطّ به المزار والبعد عن الأهل والوطن فما عاد يسليه شعره الذي فقد فاعليته في ذات الشاعر لطول الجوى الذي ألم به بسبب البعاد :

سلوا فؤادي فقلبي اليوم حيرانُ     قد مسّه بعدكم همٌّ وأحزانُ

إني لألمح في فيض الدموع أسى    قلبٌ يعذبه نأي ..وهجرانُ

يراه طول الجوى مما ألمّ به          فليس يطربه شعرٌ ..وألحانُ

الشاعر في حديثه عن قلبه المغترب يعري واقع الغربة ويكشف غربة الذات بصور تحمل دلالات الشوق والغربة ويعتمد الصور البصرية التي تجسد الألم وتظهره في الجمود وعدم الإحساس ( فليس يطربه شعرٌ وألحانُ ) ، والشاعر في تصويره ينطلق من واقع الإنسان فمن المعروف أن الإنسان في الغربة يوجد عنده ما يسمى (الوعي بالذات ) أو (الوعي الشقي) كما يسميه بعض النقاد، وهذا النوع من الوعي سيلقى ظلاله الجهمة والحزينة على عالمه التشكيلي ، وبالتالي على عالمه الموسيقي ).

إن الذات المغتربة لا تجد سبيلاً للقاء الأحبة إلا بالاتصال بالخيال :

لا تعتبي يا ظباء البيد إن لنا      ما بين أهلك أحبابٌ وخلانُ – أشواق الغرباء : 25 .

القلب يحيا مع الأحباب في رغدٍ وإن تناءت عن الأحباب أوطانُ الأشواق التي يعبر عنها الشاعر في بثه الوجداني هي مادة التواصل بينه وبين أحبته ، واللقاء الذي دونه المسافات الزمانية والمكانية يعانق ذات الشاعر المغتربة في كل نظرة وفي كل إشرقة ويعلل بقاء هذا الشوق وعدم فتوره وانقطاعه لارتباطه بآصرة العقيدة :

صوت من الله والإسلام يجمعنا      أكرم بجامعنا ..ربٌّ وقرآن ُ- أشواق الغرباء : 25 .

ويوجه الشاعر خطابه الشعري إلى جموع الغرباء، وتشتبك ذاته مع واقعهم المؤلم فتتحد لغته، وتتصادم مع واقع الغرباء المحارب والمحاصر والمليء بالعقبات؛ لذا ينتهز الفرصة، فيبث فيهم معاني الصبر والجهاد من أجل نصرة مبدئهم ودينهم مهما كانت ضخامة التضحيات :

يا معشر الغرباء الصيد إن لكم      في كل معركة سيف وميدان

طوبى لكم غربة في دار هجرتكم   طوبى لكم دعوة روحٌ وريحانُ – المرجع السابق : 26 .

النداء (يا معشر الغرباء الصيد ) مصدر قوة للشاعر الغريب، فليس هو الوحيد الذي يعيش الغربة، والغرباء لا تعوقهم غربتهم عن الحركة والفاعلية؛ فحياتهم عامرة بالجهاد وعدم الاستسلام في أي معركة ( في كل معركة سيف وميدان ) ، إن الحضور الفاعل للغرباء يواجه سكون الغربة، والشاعر يتبع هذا الجهاد بالجزاء الدنيوي مباشرة ( طوبى لكم دعوة روح وريحان )؛ إن الشاعر يختصر المسافات المكانية والزمانية في هذا البيت الذي يجعل الغربة مطلباً للغرباء، ويلفت الشاعر الانتباه، فيقيم داعاية وينصب لوحة إعلانية تثير بالمتلقي الرغبة بالانتماء لهذه الفئة:

هذي سفين الورى تاهت وليس      لها في لجة الكفر والإلحاد رُبانُ

أنتم لها يا جنود الحق فاصطبروا         ما ضاع حقٌ له جندٌ وأعوانُ

ويجعل التضحية مستساغة المذاق هينة في سبيل نصرة الحق :

وإن تساقطت الأبدانُ هامدةً              فالحق تفديه أرواحٌ أبدانُ

التناص الذي يستعيره الشاعر من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام عن الغرباء يستوعب ماضي الغرباء وحاضرهم ويحاصر ذواتهم المهاجرة في (دار هجرتكم ) كما يحاصر مهمتهم في الحياة، إنها هداية سفين الورى التي تاهت بها السبل وضلت عن طريق الهدى .

إن زاد الغريب هو الشوق الدائم لمرابعه، والأمل يحدوه لمتابعة المسير دون كلل أو ملل ، وإن وصف (الغريب والغرباء) الذي يكرره الشاعر يجعله يعايش الواقع بسلبيته ، ثم هو يرتفع على هذا الواقع المؤلم بالواقعية الإسلامية :

وللغريب إذا بانت مرابعه        وجد يطوف به الدنيا وتحنان ُ

لكننا غرباءٌ ضمنا أملٌ             بأن مستقبل الإسلام ريانُ

إني لألمح في الأفق البعيد     سنى تحدو به في طريق الله ركبانُ

ركبُ الدعاة مشى يحميه بارؤه    وليس يخضعه جورٌ وطغيانُ – أشواق الغرباء : 26، 27 .

إن الواقعية الإسلامية المستمدة من ( الواقع الأرضي المادي والحقيقة السماوية العليا) تؤطرُ تجربة الشاعر، وتجعله يحمل اليقين بأن ( مستقبل الإسلام ريّان ُ) بل إن رؤيته لتلامس أرض الواقع لذا يأتي تعبيره الفني متكأ على الصور البصرية المؤكدة ( إني لألمح في الأفق البعيد سنى ) .

ومع مرارة المعاناة التي تعيشها الذوات في غربتها إلا أن ذلك لا يفت في إيمانها ،بل إنها لتختار الموت في سبيل انتصار مبدئها وعقيدتها :

معاذ ربك أن نبقى على دعة ٍ   دار الجحيم ودار الذل سيان

فإن نعش فهدى الإسلام غايتنا    يحــــــــــــــــوط دولتنا دين وإيمان ُ

وإن نمت فعزيزٌ صوت أمتنا      يحوطنا في جنان الخلد رضوانُ

ويختم حداءه بخطابه التوجيهي مبيناً تصوره الإسلامي عن المسلم ومهمته في الأرض:

تحية أخا الإسلام خالصة      ما دام يحيا في هذا الكون إنسانُ

أنت الخليفة في هذا الثرى أبداً    فعمر الأرض بالإيمان تزدان ُ- أشواق الغرباء : 27 .

عاطفة الشاعر في ختامه تحمل الإعجاب والإكبار والتقدير والاحترام ( تحية يا أخا الإسلام خالصة ) ( أنت الخليفة في هذا الثرى أبداً ) وأسلوب الشاعر التقريري القائم على الجملة الاسمية يؤكد هذا الاحترام ، ومع أن أسلوب النداء ( يا أخا الإسلام ) وضمير الفصل ( أنت ) يحملان دلالة بعد الذات وانفصالها عن المخاطب في الأسلوب بصورة عامة، إلا أننا نلاحظ أن عاطفة الشاعر تخترق هذا البعد الدلالي ، فلا توجد فواصل بين ذات الشاعر وموكب الغرباء ، إنه يشاركهم الغربة ويندمج معهم، بل إن المتلقي وهو يردد (أنت الخليفة في هذا الثرى أبداً) تصله عاطفة الإعجاب والإكبار التي توحي بثقة الذات الشاعرة وإيمانها بقدراتها القيادية العظيمة الواثقة لتغيير الواقع مهما واجهتها الصعوبات والمعوقات .

الاغتراب الزماني :

أحس الشاعر محمد حكمت وليد أنه غريب في عصره الذي عجّت به المصادرة للذات المؤمنة، وفي قصيدة : (الزمان العربي الرديء) يبوح الشاعر بالاغتراب الزماني الذي يعاني منه الإنسان العربي حتى وإن كان يعيش على أرض الوطن، إنه يفتتح قصيدته بقول الرسول – صلى الله عليه سلم – فيما يرويه عن ربه : ( يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر ) رواه البخاري .

والقصيدة تعكس رؤية الشاعر في التغيير الذي لا بدّ أن يأتي من تشخيص الواقع بكل مصداقية ، ويكشف الواقع العربي وما تنطوي عليه مفردات هذا الواقع من خيانة وعمالة وضياع ، وهو يستهل قصيدته بنفي التهمة التي ألحقت بالزمن وتحميله ما أصاب الأمة من هزيمة، ويدعو إلى تحكيم العقل في إطلاق هذه الأحكام :

ليس الزمان رديئاً أيها العربُ        فليحكم العقل إن لم يحكم الأدبُ

ما زال بالخصب يروي أرضكم بردى   والنيلُ ما زال بالخيرات ينسكبُ

قد جاعت الناس يا قومي وعندكم     الزيت ينضح بالخيرات والذهبُ

لستم قليلاً فعد الرمل عدكم ..          ولا ضعافاً ففيكم عصبة نُجبُ

وما أرى الدهر قد أخنى بساحتكم        فلا تلوموه ظلماً أيها العربُ – أشواق الغرباء : 41، 42 .

وبعد إدانته للطغاة يلقي التبعية على المواطنين الجبناء الذين انتخبوا هؤلاء الطغاة خوفاً من تسلطهم .

لا تنكروا في الأفاعي سوء فعلتها فالشرق والغرب من أفعالكم عجبوا – المرجع السابق : 42 ، 43 .

ويستمر الشاعر في مكاشفة أمته بدائها مقدماً لها الدواء، إن الدواء يتمثل بعودة الضمير الحر الذي طالما اغترب عن ذوات العرب :

الذل والقهر لن يرقى بأمتكم      كلا ولا الإفك والتدجيل والكذبُ

متى يعود الضمير الحرُّ من سفرٍ    طالت إجازته والله يا عربُ – أشواق الغرباء : 43 .

ويتابع الشاعر عتاب بني قومه بشكل مطّرد لا مراوغة فيه، والمتلقي يستوحي من خطاب الشاعر أن ثمة انقطاع بين الشاعر وبني قومه بسبب اعتماده على ضمير المخاطب، ولكن الشاعر في نهاية قصيدته يمتزج ببني قومه ويظهر شوقه ومحبته لهم، ويؤكد ذلك بصورة شاعرية مؤثرة :

وما لكم عن سماع الحق في صمم ٍ     ويطعنُ الجار فيكم جـــــــاره الجنبُ

ليس الزمـــــــــــــــــــــــانُ رديئاً لا أبا لكمُ       إن الرداءة فيكم أيهــــــــــــــــا العربُ

لا تعـــــذلوا يا بني قومي فذا عتبٌ       لولا المحبة ما يحــــــــــــــــلوا لي العتبُ

تجري دمـــــــــــــــــــــــــوعي مدراراً لمحنتكم      نسيتم الله يا قومي وذا السببُ – السابق : 45 .

الاغتراب المكاني :

يعد المكان في التجربة الإبداعية بوجه خاص حياة برمتها ، لا يحدها طول، ولا عرض ، والمتتبع لإبداع الشعراء يلحظ مدى تأثير المكان في حياة الشعراء ولغتهم وإبداعهم؛ إذ يمنح أدبهم مزيداً من الخصوصية والأصالة .

بدأت فكرة الاستسلام للقدر باعتباره القضاء الذي لا يتغير بالاختفاء إلى حدّ ما، إذ لم يعد الشاعر المعاصر يرى  الغربة من صنع قوى خفية ولكن الاغتراب يخضع لإرادة االإنسان المغترب قبل كل شيء، فهو يستطيع أن يرحل أو لا يرحل ويستطيع أن يعود مهما كانت أمامه العقبات وهذه صور من صور التفكير الموضوعي الحديث .

والقراءة السريعة فضلاً عن المتأنية لشعر محمد حكمت وليد تستطيع أن تكشف حدود الوطن عنده حيث لا تحاصره حدود ترابية، بل إنها تمتد وتشمل الوطن العربي والإسلامي في كافة اتجاهاته ، إن اتصاله بأمته يظل مصحوباً بالحركة والعطاء والفاعلية ، وتظل رسائله تواجه صمت الشياطين فيعلن الحق ويواجه  الجور الذي تعانيه الأمة :

أقلب الطرف في الأوطان واأسفي     فلا أرى غير ليل حالك السجفِ

في أرضنا تمنحُ المستهرات حمى           وتستباح ذوات الدين والشرف

لم تبق غانية ..سكرى وراقصة          إلا وتمدح في الأخبار والصحف

أما حرائرنا وسط السجون فلا            ذكر لهنّ ولا صوتٌ فوا لهفي – أشواق الغرباء : 46، 47 .

ويستمر في اشتباكه مع الواقع المؤلم وتفاعله الرافض لمفرداته بكل قوة، وينهي نقده بالنداء لأمته، مقدماً الدواء الناجح لأوضاعها إنه ترك الظلم :

وفتنة لا تصيبن الألى ظلموا      يوماً ستعصفُ بالأسلاف والخلفِ

يستبدل الله بالأقوام إن سرفوا قوماً      يحبهم ليسوا بذي سرف ِ- أشواق الغرباء : 48 .

الشاعر في (الاقتباس ) الذي يستدعيه من القرآن الكريم لا يكتفي باستدعاء الآية استدعاءً عابراً بل يضمنها، وقد ساعد التضمين على تجذر الآية في النفس وحضورها في البنية الحاضرة دون أن تنفصل عن إطار عن إطار الحادثة التي نزلت فيها هذه الآية .

إن المعوقات التي تقف أمام الشاعر وتفصله عن وطنه تزيد من وطأة الغربة ، وتوقظ الحنين في حنايا نفسه التي تتجسد لها الغربة في كل ما يراه من مفردات الطبيعة ؛ في الطير، والبدر، والنهر، والبحر، لقد برّح ألم البعد في نفسه، ولعل في رؤيته لهذه المخلوقات مما يسلي نفسه ويعطيها العزاء :

الطير يبحث عن أليف بين جنات الزهور

والبدر قد أرخى الشراع لشاطئ الحب المنير

والنهر يبحث عن حبيب غاب في شطّ الغدير

والبحر أضناه الهوى فهواه مشبوب السعير

والقلب يبحث عن حبيب صادق سامي الشعور

أضناه طول السير ما بين المزالق والصخور – أشواق الغرباء : 55 .

ويخاطب نفسه بلغة يشوبها الحزن والفرح، فها هي الطيور أبت لمن تحب في عشها واجتمعت بعد الغياب وذاق كل من النهر والبدر والبحر طعم الراحة والأنس، بينما قلبه يكابد عناء البحث والمسير :

انظر لقد آبت طيور الفجر للعش النضير

والنهر قد ألقى عصا الرحال في دنيا الشرور

والبدر غاب ليختلي بحبيبه خلف الأثير

والبحر قد هدأ الوجيب بقلبه الجم ..الكبير

لكن قلبي لم يزل في الدرب ما بين الوعور

ما زال يبحث عن أليفته ويعيا بالمسير – السابق : 55 ، 56 .

الختام يكشف الاغتراب العاطفي وتبرز في التصوير أجواء الجفاف والعطش والإعياء والتشكيل الإيقاعي يساعد على إثراء الإيقاع الحزين .

إن الغربة التي يعانيها شاعرنا وهو في مغتربه بعيداً عن الأهل والوطن لا يجد سبيلاً للهروب منها سوى استدعاء الماضي يخفف من وطأة الواقع ، ذلك الماضي الخصيب الذي نعمت به ذاته طيلة سنوات الطفولة والصبا، والشاعر في رحيله للماضي يستدعي المكان وما به من طبيعة :

الذكريات من الطفولة ..للصبا     مرت كحلم ٍ شاردٍ بين الربى

بالغوطتين ودُمّرٍ صدحت بها       أطيارها وتمايلت ريح الصبا

يا ويح قلبي ينسى روضة           كانت له أنساً وكانت ملعبا

هي خفقة من قلبه ..هي نبضةٌ    من روحه ..هي منبع لن ينضبا – السابق: 75.

ويستمر استدعاء الزمان والمكان في الوطن حيث كان اجتماع الشمل في أجمل الأوقات وأجمل الأمكنة :

حلّ الربيع على الدنى ببهائه      فتألقت حسناً وطابت مشربا

لما أطل على الرياض مسلماً      قالت له كل الخمائل : مرحبا

مدت له كي يستريح بساطها      فأمــــــــــــــــــــــدها ظلاً ظليلاً طيبا

والغوطة الفيحاء تلثم خده         كانت له بنتاً ، وكان لها أبا – السابق : 75 .

الشاعر في بوحه يلح على ذكر الأثر النفسي للأماكن، وتثير موسيقاه تدفقاً إضافياً لهذه المشاعر ؛ فالإيقاع المعتمد الرجز بسهولته ورشاقته أسهم في إثراء تجربة الشاعر في حنينه وذكرياته ويأتي حسن التقسيم في البيت الرابع ليلون الأبيات ويزيد كمية صوتية ونغمية تعكس عاطفة الشاعر .

إن الذات الظامئة إلى اللقاء تتلاشى ولا تظهر، إنها تتشبث بالذكريات الغاربة وتحلق في أجواء الطبيعة الرومانسية الممتلئة بهاء وشاعرية وتنصهر ذات الشاعر وتتوحد مع الطبيعة المبتهجة مع الربيع، لقد اتحد المكان ( الروض ) والزمان ( الربيع) بصورة شعرية متألقة يتبعها خيال الشاعر ويظهرها بمظهر الأبوة والبنوة، إن خيال الشاعر وتصويره الحي يكشف عن جوانب نفسية خاصة عاشها في الوطن ولا زالت متجذرة في ذاكرته تمده بزاد نفسي يخفف جفاف البعد والنأي والاغتراب.

شوق وحرقة :

وفي ديوانه الثاني ( تراتيل للغد الآتي ) تظل معاناة فراق الوطن مستمرة مع الشاعر الذي يتوق إلى مراتع الصبا، وتكاد ذكريات الوطن تصيب الشاعر بالاختناق بسبب الحزن الذي يغشى نفسه، وهو يتذكر ربا وطنه المزهر، وثراه المتألق بالنور، وإن عودته للوطن لتعادل عودة الروح إلى الجسد :

المسك ملءُ رُباك والعبقُ        والنورُ ملءُ ثراك والألقُ

شطَّ المزارُ إليك، وانقطعت     بالسالكين لحبك الطرقُ

وتحس في ( شوق وحرقة ) باختناق الشاعر كلما ذكر وطنه، فهو يشعر بأنه مقيد فقد روحه في فقدان وطنه، ولن ينطلق إلا بالعودة إليه :

فمتى أعود إليك يا وطني      وتعود لي روحي فأنطلقُ

إني لأذكر موطني ولهاً           في غربتي فأكادُ أختنقُ – تراتيل للغد الآتي : 45 .

الشاعر في خطابه للوطن يبدأ بوحه باستهلال حسن، ويتكئ على الجملة الاسمية التقريرية ليقرر ميزات الوطن، ولكنه سرعان ما ينتقل للجملة الفعلية بحركيتها التي تظهر ثنائية الحضور والغياب، حضور الوطن وغياب الذات عن الوطن، ويسهم الاستفهام المكتنز به الزمن ( متى )، والتكرار ( أعود – تعود ) في إظهار شوق الشاعر وحرقته التي عنون بها ذكرياته .

ويستمر الشاعر في بث بوحه وشوقه عبر إطلالة الوطن من الماضي، ومن عالم الذكريات الذي يرتسم في مخيلته :

أهواك يا وطني وكلُّ هــــــــــوى        مــــــــــــن قلبك المعطاء ينبثقُ

أهواك في الواحات ناضـــــــــرةً         أهواك في الأمواه تصطفقُ

في الشطّ مفتوناً بمـــــــــــــــــــــوجته         تأتي إليه وكلـــــــــــــــــــــــها نزقُ

في الرمل في دمع الغمام وفي         بوح الروابي هزّها الغدق

أهواك في الأنسام عاطرةً    يهفو إليها النور والغسقُ – السابق : 46 .

الشاعر يصب حنينه وشوقه في صور الطبيعة التي تستخرج نأمات نفسه المترعة بالحنين ، وهو في ذكرياته يكرر حرف الجر (في ) مرات عديدة بدون استخدام عطف، لذا يظل نفسه الشعري متقداً بعيداً عن التراخي والضعف، بل إن حرف الجر ( في ) تكتنز فيه أشواقه العميقة للوطن .

ويستمر الشاعر في بوحه، وتزداد عاطفته قوة بتذكره عالم الإيمانيات الطاهر الذي خلفه في وطنه ولا يجد له معادلاً في المغترب :

في الفجر في صوت الأذان      وفي الليل البهيم يشقه الفلقُ

في المسجد المعمور مؤتزراً       بالطــــــــــــــــــــهر والأنـــــوار ..يأتلقُ

في زحمة الأســــــــــــــواق عامرة ً      بالطيبين لرزقـــــــــــــــــــــــهم سبقوا – تراتيل للغد الآتي : 46 .

الجملة الاسمية في بناء الشاعر تعبر عن زمن ثابت عاشه الشاعر وتعبر عن حقائق ثابتة لم تتغير ولن تتغير وسوف يراها ؛ إن هذه الذكريات تحمل ألم البعد والفراق وأمل العودة والرجوع، ووصفه (للفجر ولليل وللمسجد وللسوق) يظهر حنين الذات للزمن المنصرم (الليل والفجر) وحنينها للمكان البعيد ( المسجد والسوق )، إن الزمن المحدد (الليل والفجر) يحمل أسراراً روحية، ومشاعر نفسية يصورها شاعرنا الرومانسي بواقعيته الإسلامية التي تظل في شوق لهذه الأوقات، والمتلقي المسلم – على وجه الخصوص – تتسرب إلى نفسه دلالات معنوية تكشف تجارب الشاعر الإيمانية التي كان يحياها الشاعر في وطنه، إن المسلم المتبتل ينتفض في هذا الوقت ويسابق لاغتنامه ، والشاعر العابد المؤمن يقظ يقطع أنسه سماع الأذان وقت الفجر ، والفلق الذي يشق بهيم الليل الذي أحياه الشاعر بمناجاته الإلهية وسبحاته الروحية مع الملأ الأعلى ، وهل كشف الشاعر هذه المعاني ، لا ولكنها الصورة التي تحمل أبعاداً وأبعاداً لا تتسع لها الكلمات بين السطور .

إن الذكريات التي انثالت على ذات الشاعر حققت حضور الوطن أمام الشاعر لذا يسائل الشاعر الوطن بحرقة عن مشاهده الطفولية بدقائقها :

وطن الهوى ما زلت تذكرني ؟     أم ضاعت الأشــــــــــــــواق والحرقُ

أو تذكر الطفل الذي درجت     أحـــــــــــــــــــــــــــــــــــلامه برباك تنطلقُ ؟

ســـــــعدت به دنيا طفـــــــــــــــــــــــــولته     فجرى مع الأصحاب يستبقُ

ما فيه من هم الحياة ســــــــــــوى        طيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــارة أردانها  ورقُ

إن كنت تنساه فقد عـــــــلقتْ       في قـــــــــــــــــــــــــــــــلبه ذكراكَ تلتصقُ – تراتيل للغد الآتي : 47 .

والشاعر يبدئ ويعيد في هذه المعاني المشفوعة بالعواطف الجياشة، والمشاعر المستجاشة في أكثر قصائده ولكن بأساليب متباينة ولكنها متعانقة، وما ذلك إلا لتملك حب الوطن من قلبه ومن روحه ...

ومن الواضح انعتاق الذات من أسر الغربة، واتحادها مع الماضي الذي أطلت عليه، إنها تجري برحابة الماضي خلف طيارة الورق بلا قيود ولا همٍّ أو كدر .

ويعود إلى واقعه الذي يعيشه، يعود من الفضاء الزمني الذي نقله إلى أجمل مشاهده الحياتية في طفولته، ومن الفضاء المكاني (الوطن ) الذي انفصل فيه عن الغربة يعود متسائلاً عن العودة، عن عودة الروح للذات المعذبة من الاغتراب .

إن حبّ الوطن يسري في عروقه .. والحنين إليه ملء جوانحه، ولنستمع إلى هذه النفثات المحرقة، وهو يناجي وطنه الحبيب :

يا واهب الأيام بهجتها       إن غــــــــــــــالها التسهيد والرهق

في كل ركن من ثراك هوى    في خافقي مـــــــــــــــا زال يحترق

قد مرت الأيام تسرع بي      والســـــــــــــهد في عينيّ والأرق

وانصبت الأحزان مترعة       في القلب فهو بدمعه شرق

فمتى أعود يا وطني           وتعـــــــــــــــــود لي روحي فأنطلق – نفسه : 48 .

الشاعر ينسج خيوط سيرته الذاتية بمهارة فائقة في قصيدته (شوق وحرقة ) لذا فالماضي المبتسم والمقترن بأحداث اللقاء والوصال مع الوطن يسيطر على مشاهد الحاضر الذي يأمل عودته وحضوره .

حنين :

ومع ازدياد البعد الزمني عن الوطن يزداد الحنين والشوق فتظل ذات الشاعر المغترب في قصيدته ( حنين ) التي ضمخها الألم والحزن والمعاناة في شوق عارم للوطن الحبيب :

حنّ الغريبُ وحنّت البــــــــــلدُ       إلفان بينهما الهوى ..كبدُ

من كان دار الخـــــــــــلد مفتقداً      إني جنـــــان الشـــــــــــــــــام أفتقدُ

في النفس فيضٌ من لواعجها      والقلبُ بالأشـــــــــــــواق يتقدُ

وتهدني الأيام في جلدي          مالي على طول النوى جلدُ

الصور المتلاحقة تعكس الامتزاج النفسي مع الوطن والذي يكتنز في البيت الأول، ويتواءم معجم الشاعر ( حنّ – حنّت – إلفان – الهوى – كبد – أفتقد – فيض – لواعج – القلب ) مع عاطفة الشاعر وشوقه المبرح، بل إن الخيال ليشطح به إلى درجة يرفضها الحس الإسلامي الذي ينطلق منه الشاعر في مقارنته لأرض الشام بجنة الخلد .

لقد امتزجت ذات الشاعر بالطبيعة على عادة الرومانسيين، فراح بردى يبادله الهموم والأوجاع، وها هو الشاعر يشخّصه، فيقول :

كم كان يلقــــــــــــــاني بها بردى        إذ رحت بين الدوح أبترد

فيبثني الشـــــــــــــــــــكوى يعاتبني          وأبثه حــــــــــــــــزني وما أجدُ

وبعد هذه الشكوى وذلك العتاب والحزن والوجد يهتف الشاعر في التياع، ويرفع صوته بالنداء؛ سائلاً مظاهر الطبيعة عن العودة والرجوع :

يا زهر ..يا أنسام ..يا بلد      يا حبُّ ..يا أشواق يا كمدُ

هل ترجــــــــــــعُ الأيامُ فرحتنا ؟       والدهرُ يوفينا الذي يعــــــــــــدُ

في اللاذقية ..في مرابعـــــــــــــها      حيثُ الحمى والأهلُ والولدُ

وتصطرع الذات الشاعرة بالهموم؛ الهمّ الصغير: هم فراق الوطن، والهمّ الكبير: هم الإسلام المضطهد، ولكن إيمان الشاعر العميق يفتح له باب الفرج القريب ليواجه الهموم التي أحاطت بذاته :

يا لاذقية ..يا معــــــــــــــذبتي        تهفـــــــــو إليك الروح والكبدُ

ما كنت أحسبني مفارقها        أو أن إسلامي سيضطهدُ

قد دارت الأيام تعصف بي      يا ويح أيامي ومــــــــــــــــــا تلدُ

ويتذكر الأحبة فيها ، والاصطياف في سلمى وجنتها ورياضها ، ولا ينسى الشطآن اللازوردية في اللاذقية عروس الساحل السوري الخلاب ..لنتأمل هذا البث الحزين :

يا لاذقية أين مدرستي ؟        أين الطفولة ما  لها أمدُ ؟

أين الرفاق بها وما لعبوا         أين الأناشيد التي نشدوا ؟

أين الطباشير التي كسروا ؟       أين التلاوين التي فقدوا ؟

أين الحكايات التي نقلوا ؟       أين المواعيد التي وعدوا ؟

يتلاكمون إذا هم غضبوا         وتعود وحدتهم إذا سعدوا

لقد استغرق الحزن أبيات الشاعر التي نيفت على خمسة وعشرين بيتاً، بينما جاء أمله بالعودة والفرح في بيتين ختم بهما قصيدته، وهذا يتناسب مع عاطفة شاعرنا التي تحس شيئاً من التلذذ بالتألم؛ وتمجيد الألم هذه صفة أخرى للرومانسية تطغى في شعره، فالذكريات للعهود الحميمة والمنصرمة التي توجد النفوس تلتذ بتخيلها . وتتألم من انصرامها، في حين أن الأبيات التي تحمل أمل العودة قصيرة تتناسب مع السرعة التي تتوق النفس إليها من أجل تحقق أمل العودة واللقاء .

وفي نهاية هذه الوقفة مع هذه القصيدة يحسن بنا أن نقف مع منهجه الفكري والعاطفي الذي استفرغ فيهما تجربته؛ لقد طغى انفعاله الشعوري في البداية حتى كاد يفقده اتزانه الإسلامي عندما قارن بين وطنه ودار الخلد، ولكن حدة الانفعال تتزن فيما بعد فأطّر التزامه العقدي تجربته بصورة عامة ، وعبّر ختامه عن واقعية إسلامية تغلب جانب الحقيقة العليا على الواقع الأرضي مهما كان مظلماً ومؤثراً ومؤلماً ، وإن إيمان الشاعر بالتغيير يؤكده البيت الذي قفل به تجربته الشعورية المعبرة:

 لكنني والهمّ يحزبني             ما خانني الإيمان والرشد ُ

ما خاب دون الخلق معتمدي   إني على الخلاق اعتمدُ – نفسه : 56 .

ألا تذكرك بالقصيدة الفريدة في بابها ..قصيدة أب لأستاذنا الشاعر الراحل عمر بهاء الدين الأميري .

أمنية :

وهو يؤمل انتهاء الاغتراب المكاني الذي تعيشه الأمة بتفرقها؛ ففي نهاية المطاف تأتي قصيدته (أمنية ) المعبرة عن شوقه للوحدة والنصر واجتماع الشتات ولم الفرقة التي سببت الويلات والمصائب للأمة :

يا بني قومي .. وصوت الثأر في أعماق صدري

وأنين اللاجئ المحروم في سمعي ..وفكري ..

ودماء المسلمين اليوم ..كالأنهار تجري

نبئوني أنها الوحدة في الأقطار .. تسري

أن أوطاني تلاقت في الهوى ثغراً ..لثغر

أن نور الله قد أشرق في أجمل ..فجر !!..- أشواق الغرباء : 149 .

أبيات الشاعر مكتنزة بالتصوير الحي وكل بيت يحمل صورة تتجاذب مع غيرها وتنسجم لتكون صورة كلية تحقق هدف الوصول إلى ( تغيير روحي في القلب وفي طبيعة الإنسان )، و( الصورة تنفرد من بين عناصر الشعر – بإعطاء المتعة الجمالية التي لا يصبح الشعر شعراً ) .

إن (الثأر) له كيان مادي مسموع في صدر الشاعر، ويختزن في كل صورة مؤلمة يحاول الشاعر التغلب عليها بمشهد الاستعداد الجماعي الذي يجمع ( الأقطار – أوطاني ) للوحدة لتغيير هذا الواقع المؤلم البئيس، وإن شوقه ليستمر حتى بعد الموت لذا تأتي وصبته المؤثرة التي تحمل حلم الشاعر الرومانسي الواقعي :

فإذا ما كنت حياً .. فهي أمنية عمري

وإذا ما كنت ميتاً فاجمعوا الترب لقبري

واستريحوا ساعة .. ثم اجمعوا طاقة زهر

وانثروا فوق ضريحي وردة من كل قطر – أشواق الغرباء : 150 .

الشاعر في تعبيره عن الوحدة التي ينشدها للأمة يأتي بالصورة الموحية (طاقة زهر) ويختزن فيها آمالاً تداوي آلاماً طالما عانتها الأمة وهو بهذه الصورة الضبابية الموحية وغيرها من صور قد وافق ما اجتمع عليه النقاد من شرط الإيحاء الذي يجعل المتلقي يضيف من المعنى الأصلي قوة وجمالاً .

اللوم والاغتراب :

اتخذ الشاعر العربي من الوقفة على الطلل الدارس ومخاطبة الصاحب ومحاورته أسلوباً فنياً للإفضاء والبكاء والحنين، وقد كان الشاعر العربي في وقفته مديراً للحوار ومبتدئاً به، وفي نفثة شعرية لشاعرنا تقف ذاته المتألمة في قفص الاتهام وبالتالي ترضخ للاستجواب والمساءلة ، إن صورة الأخت تستدعيها مخيلة الشاعر في مغتربه ، فتواجهه وتسأله بإلحاح عن أسباب الهجرة والبعد عن الوطن وترك الأهل والوطن،

يقول في قصيدته لماذا هجرت بلادك ؟ :

لماذا هجرت بلادكْ ؟

لماذا هجرت الجواد الأصيل

لماذا استقلت من الحب ؟

ذاك الربيع الجميلْ

وأقلعت عبر المدى

وسافرتَ في أبحر المستحيلْ – تراتيل للغد الآتي : 61 .

الشاعر يستهل قصيدته بالاستفهام الاستنكاري الموبخ الذي يكشف تجربة الفقد للوطن، ويجسد الرمز (الجواد ) والحب والربيع أبعاد الفقد الذي يحسه الشاعر، إن صورة الجواد تعبر عن الوطن الأصيل المشتعل بالثورة والإباء والمقاومة، وإن (الحب) هو الحياة المتدفقة التي يحييها (الربيع) إنها صور تعبر عن الماضي المشوق، وحنين الشاعر يجعله يرهف السمع لأخته وهي تلح عليه بالرجوع :

تعال إلينا

تحنُّ إليك زهورك رغم الذبولْ

يحنُّ إليك رفاق الطفولة

أبناء حيك ..أمك ..أختك

والكل يجيا على ذكريات هواك الجميلْ

ألم تستمعْ للأذان ؟

ويرجع عودُ الصدى

ليبحث عنك وما من دليلْ

فتدمعُ عينُ المساجد

عند الصباح وعند الأصيلْ – المرجع نفسه : ص 51 .

 النفس الإسلامي يظلل حنين الشاعر، إذ يحقق المسجد والآذان حضوراً في البناء الشعري والعاطفي فيطغى على روابط الدم والأخوة التي عبر عنها، وتأتي صورته (دمع عين المساجد ) مكتنزة بالحنين والشوق والإيمان .

ويتابع عبر بنية ( السرد ) ذكريات الوطن على لسان سائلته إنها تثير حنينه للطبيعة الوادعة بالاستفهامات المتوالية التي تثير الجوى والشجن :

ألستَ تحنُّ إلينا ؟

إلى ذكريات الهوى والنخيل

وتلك السواقي

ألست تحنُّ إلى ماءها السلسبيل

أما اشتقت للخوخ فوق الغصون ؟

وللتين واللوز والزنجبيلْ

وشربة ماءٍ بأفيائها

تبلّ الغليل، وتحيي العليل – تراتيل للغد الآتي : 62 .

الشاعر لا يودّ أن يعيش وحيداً في مغتربه، فهو أوجد من الخيال شخص أخته، وأدار معها حواراً استرجع من خلاله ذكرياته، وأخذ يبوح لطيفها الذي استدعاه في مغتربه بمشاعره؛ إنه يتصدى لتنفيذ اللوم :

أقلي من اللوم أختاه

إن فؤادي عليلْ

دعيني أنا ما هجرتُ البلاد

ولم يهدأ القلب يومَ الرحيل

وأما بعادي

فذاك همٌّ ثقيلٌ

وشرحٌ طويلْ – السابق : 62 .

الصور تظهر أثر البعد (فؤادي عليل) وتصور هجراً قسرياً أرغمت الذات الشاعرة عليه ( أنا ما هجرت البلاد ) وتبين البعد الزمني للألم الذي ابتدأ من أول يوم ( ولم يهدأ القلب يوم الرحيل ) ، ويوجز سنوات الاغتراب بـــــــ( هم ثقيل وشرح طويل ) ، الشاعر يطوي في تصويره واقعاً يريد الهروب منه، ولا يريد أن يكرر الحياة فيه عبر سرده الشعري ، وتظهر المقارنة بين استظهار الماضي الذي يريد عودته ليحياه مرات ومرات ، بين الواقع الذي يهرب منه مع أنه لا يزال يحياه .

وينفي الشاعر تلبس ذاته بفعل الهجرة، وإن غادر جسده أرض الوطن، إنه يبين رفضه لممارسات الظلم في الوطن، وهذا سبب مغادرته بلاده :

أنا ما هجرتك يا موطني

فهجرك في ملتي مستحيل

أنا ما هجرتك حرّاً

ولكن هجرت الجراد بأرضك يغتال فيك الحقول

هجرت الغرابين تختال مرتاحة

وفوق رباك تموت البلابل كل الفصول

وتقضي بك الصافنات الجيادُ

يموت على شفتيها الصهيلْ – تراتيل للغد الآتي : ص 63 ، 64 .

الشاعر يعمد إلى تعرية الواقع الذي يسيطر عليه الاستلاب والقهر، والمفارقة تتعمق في صورة الباطل (الجراد يغتال ) ، و(الغرابين تختال)، بينما الحق يكبت (تموت البلابل) (الصافنات يموت على شفتيها الصهيل ) .

من الواضح أن كلمة الحق تواجه بقوة وضراوة (تموت)، وتأتي الدوال الصوتية (البلابل – شفتيها – الصهيل ) تعبر عن صوت الحق المقهور بشدة وقوة .

ومع ضبابية الواقع الراهن وقسوته إلا أن عدم رضا الذات عنه وثورتها على انكسارات الواقع تصرُّ على الرجوع لبناء الوطن والحياة فيه :

سأرجع يوماً إليك

وأهجع في مقلتيك

سأرجع أحملُ نورَ حروفي

وقلبي إليك الدليلْ

وأبذر فيك ضيائي وشمسي

وأحيا بظلٍّ ظليلْ – تراتيل للغد الآتي : 64 .

الحس الواقعي الإسلامي المتفائل ترسمه وتشكله كلمات الشاعر وصوره المعبرة عن العودة والرجوع ( أهجع في مقلتيك ) أي التحام ولقاء يحلم به الشاعر ويؤمله، إن عودته ليست للراحة بل للعمل لذا يتكئ الشاعر على الفعل المضارع المستمر ( سأرجع – أهجع – أحمل – أبذر – أحيا ) أفعال كلها تدل على العمل والعطاء المستمر ، وهو متأكد من فاعلية الكلمة التي يحملها؛ لذا تأتي التعبيرات الموحية بالأثر العظيم الذي ستحدثه كلماته ( نور حروفي – ضيائي وشمسي ) إن أثر عمله الإيجابي الفاعل سيذوق ثمرته ، وسينعم بالراحة بعد طول العناء ( وأحيا بظل ظليل) ويؤكد هذه العودة المرتقبة بالتكرار للفعل المؤكد بسين المضارعة ( سأرجع ) .

فهجرة الشاعر قسرية وليست إرادية ، ولهذا فإن حنينه إليها في توهج ، وتصميمه على العودة لا يُدافَع ..إنه مصمم ومتفائل .

ثم يعود الشاعر إلى أرض الواقع القريب الذي يحياه يصور حاله حتى تزول جيوش الظلم الحاكمة لوطنه، ويبين أنه وإن بعد جسده فإن فؤاده هناك :

وحتى تزول جيوش الجراد

ويحيا صهيل لجياد

فحبك يا وطني مؤلم

وهجرك يا وطني مستحيلْ – تراتيل للغد الآتي : 64 .

الشاعر ينهي قصيدته التي يظهر فيها الشكوى والألم نهاية ملحمية تظهر فريقين وتظهر نتيجة لقاءهما مستقبلاً ( تزول جيوش الجراد ) مقابل ( يحيا صهيل الجياد ) وأمام الفريقين يقف الشاعر بكل قوة وشدة مترجماً عن ذاته (حبك يا وطني مؤلم ) (وهجرك يا وطني مستحيل ) إن ياء المتكلم المضافة للوطن تبين التلاحم والالتصاق بين ذات الشاعر والوطن . وتعبر ياء النداء التي تحمل دلالات نداء البعيد عن البعد الذي يعيشه الشاعر، والتكرار لأداة النداء والنداء يعمق هذا البعد المكاني، ويظهر الخبر مؤلم آثار هذا البعد على نفس الشاعر ، في حين يؤكد ختام القصيدة ( وهجرك يا وطني مستحيل ) إيمان الشاعر الدائم باتصاله النفسي والوجداني بالوطن وإن أبعد جسده عن ربوع الوطن ومغانيه .

إن ختام الشاعر المشحون بالألم والأمل يستوقف المتلقي ويجعله غير قادر على عبوره وتجاوزه ؛ فالنص مشحون بالمعاني الكثيرة التي لا تظهر التراكيب الظاهرة، وهي كما يذكر جورج مولينيه في وصفه النص الأدبي بأنه ( يحمل في داخله قوة إيحائية ، فهناك جزء كبير من المعنى غير موجود بوضوح في التراكيب الظاهرة للنص ) . الأسلوبية : جورج مولينيه ، ترجمة بسام بركة ، ص 25 .  

عميد الغرباء : 

يقول الشاعر محمد حكمت وليد في قصيدته (عميد الغرباء ) التي أعدها للنشر في ديوانه المخطوط (تقاسيم على قيثارة الوطن )، ونظمها عام 2002م جاء فيها:

                         مَنْ هذا الضاربُ في الآفاقِ..

يُجَدِّفُ في موجِ الأعماقِ..

يُعانقُ نورَ الشمسِ

ويركبُ مَتْنَ الريحِ..

يحاورُ أسراب الأطيار البحريه.. – تقاسيم على قيثارة الزمن : ص 6 ، 7، 8 .

فعميد الغرباء يقوم برحلة خيالية يتطلع فيها إلى شمس الحرية، ويركب بساط الريح ويجوب الآفاق، ويزور الصحراء العربية، ويناجي عزّة، وليلى، وفتيات قبيلة عذرة :

ويجوبُ قفارَ الرملِ..

يُناجي عَزَّةَ..

يسألُ ليلى عن قيسٍ..

وَيعوجُ إلى جبلِ التوبادِ..

يسافرُ للأطلالِ العُذريّه..

فهو مسافر يبحث عن (الأطلال ) العذرية التي لم يقف عليها أحد من الشعراء السابقين . ولنستمع إلى ما يقوله (الأطفال) عن عميد الغرباء الذي يبحث عن الوطن المفقود، ويناجي الجدران الصامتة :

قالَ الأطفالُ..

نُشاهده يمشي في الطرقاتِ الحجريّه..

ويُسائلُ جُدران الصمت عن الأخبار المنسيّهْ..

ونراهُ يلعبُ في الحاراتِ مع الصبيانِ

ويعطيهم أصناف الحلوى اللوزيه..

ويشاركهمْ.. فرحَ العيدِ..

وأراجيحَ العيدِ..

وزغاريدَ العيد..

وَصباحاتِ العيدِ الشتويه..

وَنراه حيناً في الساحات ينادي..

أسماءً.. لم نَعرفْها.. لم نَشهَدْها..

ويردِّدُها.. حتى تسمعَها الأفلاكُ

وكل المخلوقات النورانيه..

وأتيناه لنعرفَ قصَّته –قال الأطفالُ-

فغاب سريعاً.. بين الغيماتِ الوردّيه..

إن عميد الغرباء يشارك الأطفال فرحة العيد وألعاب العيد وزغاريد العيد ويتذكر تلك الأيام الجميلة التي قضاها في مرابع الطفولة والصبا، ويتابع الشاعر محمد حكمت وليد حديثه عن مساجد سورية، فيقول :

ورآهُ مؤذنُ مسجدنا..

يوماً في المحراب يُصلي..

ويُناجي الربّ بِحنيَّهْ..

فأتاه يُحييهِ.. ومدَّ الكفَّ..

فغاب سريعاً..

يصعدُ درج المنبرِ..

مثلَ النور الصاعد نحو الآفاقِ العُلويَّه.

ودائماً نرى تجليات المكان المقدس في شعر د. محمد حكمت وليد ، و ها هو يصور الأطيار، وهي تبكي بين الأزهار، ثم راحت تراقب عميد الغرباء في رحلته الخيالية :

ورأتهُ الأطيارُ يناجي..

سَوسنةً تبكي.. بين الوردات الجورّيه..

فيواسيها.. ويداعبُها..

وينادي أسرابَ الحسون لتنشدها..

أحلى الألحان القدسيه..

فأتته الطيرُ تُسامرُهُ..

فرأته يُحلِّقُ في الأجواء..

وغابَ.. وغابَ..

هنالك خلف شعاعِ الشمسِ الفضيّهْ..

من هذا الضّاربُ في الآفاقِ؟

يُكابد أصنافَ الأشواقِ..

ويمشي بين الغابات البريَّه..

ويتأتي الجواب سريعاً :

قالوا.. جنيٌ مسكونٌ.. يمشي في وديان الليل السحريّه..

قالوا.. مجنونٌ فقد اللُّبَّ.. وراح يناجي تلك الأصوات العلويهْ..

قالوا.. مجذوبٌ.. نذرَ الروحَ..

وراح يُفتشُ في الآفاقِ عن المعنى..

ويتمتمُ بالأوراد الصوفيهْ..

ويصور الشاعر الحالة النفسية لعميد الغرباء، فيقول :

لكنَّ البعضَ أحسَّ بشيءٍ مختلفٍ..

ورأوا دمعَ الوَجْدِ يَسيلُ من العينين..

كحباتٍ بلوريه..

سمعوا القلبَ يُرتل أحزاناً ما مرت بفؤاد الخنساءِ..

ولا المأساة الإغريقيه..

عرفوه وقالوا هذا شيخُ الغرباءِ..

يعود لأرضِ طفولته..

يحدوه الشوقُ.. وأحلام الحبِّ الأزليه..

لقد ذرف (عميد الغرباء) الدموع غزيرة، والعميد هنا يمثل قناعاً فنياً للشاعر محمد حكمت وليد، إن أحزان الشاعر الغريب أشد من حزن الخنساء على أخيها صخر الحبيب ..لقد عرفه الناس من خلال تلك الدموع التي تسيل كالجواهر والدرر على الخدود ،إنه شيخ الغرباء وقد عاد يتفقد أرض طفولته يحدوه الشوق والحنين الممزوجان بالحزن والألم والأسى، ويصور رحلة العودة إلى الأرض التي تنكرت إليه، فلم تعد تعرفه، فيقول :

عادَ.. وما عادت تعرفُه الأرضُ

وما عادت تعرفُهُ الواحاتُ ولا النخلاتُ..

ولا الأطيارُ البحريه..

ما عاد يجيدُ حروف اللغةِ

ولا الأوزان الشعريه..

دَمْدَمَ.. تَمتمَ..

لم تفهمْهُ سوى الغيماتِ الصيفيه..

وحماماتٍ تسجعُ فوقَ الدوحِ..

وترقبُ عودة شمس الحريهْ

وبعد تلك الرحلة الخيالية الطويلة وبعد كل تلك التساؤلات الملحة لم تستطع أن تعرفه سوى غيوم الصيف وسوى تلك الحمامات التي تغني أعذب الألحان فوق شجر الدوح  .. إن تلك الطيور تعاني ما يعانيه الشاعر محمد حكمت وليد وتأمل ما يأمله وتتطلع معه إلى شمس الحرية والخلاص من الظلم والاستبداد .

وتلخص الأخت الدكتورة سمية الرومي أهم خصائص شعر الغربة عند الشاعر محمد حكمت وليد بما يلي :

1-أن الغربة تجربة إنسانية ذاق الشاعر مرارتها، وتجرع غصصها ، ومع بعده عن الوطن إلا أن حنينه اتسم بالإيجابية الفاعلة والتحم مع المجموع؛ فهو في شوق إلى اللقاء ، ولذا جاءت تجاربه في هذا الموضوع متجردة من الانعزالية والذاتية ، واظهر فيها العمل الدائم للاتصال بالمجموع العام .

2-نازل الشاعر الواقع المحسوس واقعياً وفنياً، وبرز تمسك الشاعر بمبدئه الذي يعاني الغربة مثلما تعانيها ذاته واتضح أن ثقافة الشاعر وفقهه هما مصدر غربته، ومع ذلك تمسك بهما ولم تذب شخصيته في الآخر .

3-تناول الشاعر لهذا الموضوع جاء بأسلوب شعري يجمع بين جمالية البناء وقوة التأثير فقد نقل للمتلقي قوة الإرادة المستمدة من الارتواء الروحي الذي ساعد على إيجاد التوازن النفسي لديه لنقل تجاربه بكل دقة ومصداقية .

4-تراوح المعجم اللغوي عند الشاعر في موضوع الغربة والحنين ثلاثة حقول دلالية ؛ وجداني متألم كشف خبايا نفس الشاعر وأثر الغربة في نفسه ، وكوني طبعي مفرداته معبرة عن الاغتراب المكاني والزماني ، وثالث إيماني إسلامي استمده من ثقافته الدينية العميقة .

5- ظاهرة التكرار كانت من الظواهر الأسلوبية البارزة التي ساعدت على نقل عاطفة الشاعر وإثراء الجانب الموسيقي في شعره .

6- ارتكز الشاعر على أسلوب النداء في مواضع التذكر والحنين، وأحياناً في مواضع الاستنهاض والمواجهة .

7- توزان الشاعر في توظيفه للصورة الفنية بين الصورة الحقيقية والمجازية .

وسوم: العدد 731