جدليَّة الثقافات: بين السِّلاح النَّووي والسِّلاح النَّـبَطي!
رُؤى ثقافيّة 271
في اللغة والشِّعر
-1-
للَّهجة العامِّـيَّة تأثيرها على اللغة الشِّعريَّة، حين يكتب الشاعر قصيدةً فصيحة، وعلى الموسيقى الشِّعريَّة كذلك. نضرب مثالًا بشاعرٍ كبيرٍ، كان تجذُّر العاميَّة في عربيَّته يحمله على التكلُّف تارةً وعلى الاعتساف تارةً؛ فتبدو فُصحاه عليلةً بعامِّيتها. وهو الشاعر اللبناني (سعيد عقل). وقد سألني أحد الأصدقاء عن معنى بعض الأغنية التي تغنيها (فيروز) من شِعر عقل:
أمـــسِ انتـهـيـنـا فـلا كُــــــنَّــا ولا كــانـــــــــا ** يا صاحبَ الوعــــدِ خـلِّ الوعــدَ نسيانــــــا
طـافَ النعــاسُ على ماضيـكَ وارتحـلـــتْ ** حــدائــقُ الـعـُــمــرِ بُـكْــــيًــا فــاهــــدإِ الآنــــــا
كـــــان الـــــوداعُ ابـتـســـــامــاتٍ مـبـلَّـــــلــــــةً ** بـالــدمــعِ حــيـنًـــا وبـالـتـذكـــارِ أحــــيــانــــــا
حـتــى الـهـدايـا وكـــانــت كـــلَّ ثـروتــــــــنــــــا ** لــيـــلَ الـــــوداعِ نـســــيـنــاهــا هــدايــــانـــــــا
شـريـطُ شَعــرٍ، عـبيـقُ الـضَّـوْعِ، مَحْـرَمَـةٌ ** ونجـمـةٌ ســــقـطـتْ مــن غـصـنِ لُقـيـانــــا
أسـلـمـتـُــهـا لــريـــاحِ الأرضِ تـحـمـلُــــهــــــــا ** حـيـنَ الهُـــبـوبِ فـــلا أدركـــتِ شــــــطـآنـــا
يـا رحـلـةً فـي مـدى النِّســيـانِ مُوجِعـــــــةً ** ما كـان أغــنـى الهـوى عــنهـا وأغــنـانــا
فقد أعجبت الصديق الأبياتُ، أو بالأصح أعجبه غناءُ فيروز، لكنه لم يفهم قول الشاعر «حــدائــقُ الـعـُمْــرِ بُـكْـيًا»، ولا قوله: «شريـطُ شَعـرٍ، عبيـقُ الـضَّـوْعِ، مَحْـرَمَـةٌ».
قلت: فيروز تقول في البيت الثاني: «بَكْيًا» (بفتح الباء)، والصواب: «بُكْيًا». والشاعر يعني: «بُكِــيًّا»، أي: ارتحلت باكيةً. فارتكب ضرورة شِعريَّة ثقيلة من أجل البحر البسيط، «ما كـان أغنـى النظم عنهـا وأغناه». وكان بإمكانه أن يقول مثلًا: «وارتحلتْ حدائقُ العُمْرِ تبكي فاهدإ الآنا».
وفي البيت الخامس جعل يعدِّد الهدايا: شريط الشَّعْر: ربطة الشَّعْر، عبيق الضَّوْع: عبير العِطْر. على أن العبيق والضَّوع بمعنى واحد، فقوله: «عبيق الضَّوع» كمن يقول أهداني فلان: «رائحة الرائحة»! وكان يمكن أن يقول: «عبيق العِطْر»، أو «عبير العِطْر». أمّا «مَحْرَمَة»، فيعني: منديلًا، أو نحوه. ولضرورة الوزن كذلك استعمل «مَحْرَمَة» بدل «منديل». فاعتسف كلمة غريبة ونابية في موضعها.
وسعيد عقل، كما أشرتُ، لا يخلو شِعره الفصيح من مثل هذا التكلُّف والاعتساف، ولا ينجو أسلوبه من التواء وضبابيَّة؛ لأنه ظَلَّ معتَّـقًا بالعاميَّة اللبنانيَّة حتى النخاع؛ العربيَّة الفصحى لغة كتابةٍ لديه فقط، لا لسان حياة. تدلُّ على ذلك حواراته الشفهيَّة، التي لا ينطق فيها بغير العاميَّة اللبنانيَّة، إلّا إذا قرأ شِعرًا فصيحًا. يفعل ذلك بـ(أدلجة قُطريَّة لغويَّة) معروفة عنه، لا عجزًا بالضرورة. فصارت العربيَّة بمثابة لغةٍ أجنبيَّةٍ لديه، يصطنعها اصطناعًا للكتابة، ما أورث تعبيراته ثقلًا وبعض نُبُوٍّ لافت. لأن اللغة هي الإنسان، الازدواج فيها لا يمضي بسلام دون أن يحيف أحد لسانين على آخَر. لا يغضُّ تشخيصُ هذه الظاهرة من شِعريَّة الشاعر المقدَّرة، ولا من مكانته الثقافيَّة العالية.
-2-
وربما سأل سائل- في معترك اهتمامنا، نحن العرب، بالشِّعر، إنتاجًا وتنظيرًا-: وهل الشَّعر أولويَّتنا اليوم؟ تلك إيران- على سبيل المثال- مشغولة بالسِّلاح النووي، وإسرائيل تملك مئات الرؤوس النووية، وتُطلق الأقمار الاصطناعيَّة، والخليج مشغول بـ«السِّلاح النَّبَطي»، و«الأقمار الشِّعريَّة»، بشاعر المليون، وأمير الشعراء، والغزل بالنساء والإبل.. في بيئة ثقافيَّة جاهليَّة، من تراث المكايدات، والمفاخرات، والمنافرات، والنقائض الهجائيَّة، (الإعلاميَّة بعد الشِّعريَّة).. هَرَأَنا العُربان بالشِّعر والمسابقات الداحسيَّة، وثقافة «ألا لا يجهلن أحدٌ علينا، فنجهل فوق جهل الجاهلين»! ما أشبه الليلة بالبارحة، وأشبه (تَغْلِب) اليوم و(عمرو بن كلثومها) بتَغْلِب الأمس وعمرو بن كلثومها، الذي قيل فيه وفيهم:
أَلْهَى بَني تَغْلِبٍ عن كُلِّ مَكْرُمَةٍ * * قصيدةٌ قالها عمرو بنُ كلثومِ
يـروونـهــا أبــــدًا مُـــذْ كـانَ أوَّلُهــم * * يا لَلرِّجالِ لشِعْرٍ غيرِ مَسؤومِ
إن الشِّعر اليوم في دنيا العرب ليس بأولويَّة، بل الأولويَّة للعِلْم والتقنية! وإنَّ في مسابقات الشِّعر إراقة لماء الكلمة، والفنِّ، ولاسيما حينما تحكم المسابقات أمزجة، وقُطريَّات، تُصوِّت تعصُّبًا عشائريًّا، لا إعجابًا إبداعيًّا. وفي تلك المسابقات كذلك ترسيخٌ لتراثٍ من إراقة ماء وجه الإنسان (الشاعر)، الذي يلهث بشِعره وراء الدراهم، كما كان سلفه يلهث بشِعره وراء عباءةٍ، أو عبدٍ، أو جاريةٍ، أو بغلٍ، أو فَرْوٍ، يخلعه عليه سيِّده السُّلطان، وإنْ كان الشاعر في مستوى (المتنبي) أو (أبي تمَّام)، القائل، متسوِّلًا بقصيدةٍ عصماء فَرْوًا يقيه البرد:
ولا بُدَّ مِن فَرْوٍ إِذا اجتابَهُ امرُؤٌ * * كَفَى وهْوَ سامٍ في الصَّنابِرِ أَغلَبُ
هكذا يمكن أن يعترض معترضٌ على الاحتفاء العربي المفرط بالشِّعر ومسابقاته؛ لاستعادة مذلَّات الشعراء، ودونيَّاتهم، ودورانهم في بلاط السلاطين، متكسِّبين بالنفاق والمَلَق. وهو يرى أن تلك صحوة لـ«مليشيَّات» الشِّعر التي ظلَّت تجوب التراب العربيَّ مذ كان أوَّلهم بأخلاقيَّات يعرفها التاريخ.
«هَرَأتمونا شِعرًا يا عرب!»... وذلك حقٌّ، لكن النصف الآخر من الكأس أن الشِّعر يظلُّ وسيلةَ استنهاض اللغة الأُولى، حتى في عصر التأثير الإعلامي، من حيث إن الشِّعر يُشعِل الحسَّ اللغوي الإنساني، على نحوٍ لا يُضاهَى بوسيلةٍ أخرى. كما هو وسيلة استنهاض الروح العربيَّة، للحقِّ أو للباطل. والعرب لا يَدَعُوْن الشِّعر ولا يَدَعُهُم، حتى تَدَعَ الإبل الحنين! ومن هنا تأتي خطورة الشِّعر اللغويَّة والثقافيَّة؛ فهو سلاحٌ ذو حدَّين، يمكن أن يَبني ويمكن أن يَهدم، إنْ في جانب اللغة أو في جانب القِيَم.
في البدء كانت الكلمة. بوسع الشِّعر أن يكون ثورةً معرفيَّة، وصحوةً فكريَّة، وانبثاق رؤيةٍ نحو المستقبل، وليس بتسليةٍ، ولا كلام فارغ، إلا في الأُمم الفارغة المستهانة. كذا كان (طاغور)، و(إقبال)، و(شكسبير)، و(بودلير)، و(ت. س. إليوت). وكذا جاءت المقولة، التي قد تُنسَب إلى (ماوتسي تونج): «الشاعر ثائر»!
في البدء كانت الكلمة، وفي البدء كان الشِّعر! والفنون إنَّما نبتت على هوامش الشِّعر، الذي صاحب الإنسان منذ طفولة البشريَّة. فلقد جاء الشِّعر- حسب تاريخ نشأة الفنون- قبل أي فنٍّ مكتسب مركَّب. وما نشأت الفنون الأخرى إلَّا بتطوُّر الكائن الإنساني، فردًا وجماعة وحضارة. بل لقد وُلِد بعض تلك الفنون شِعرًا. فغنَّى الإنسان قبل أن يصنع الموسيقى وآلاتها. ورسمَ بالكلمات قبل أن يرسم بالفحم والألوان. وبقي المسرح شِعريًّا إلى عهدٍ قريب. وتُعَدُّ الرواية، التي نشأت متأخِّرة، وريثة الملحمة الشِّعريَّة. أمَّا من حيث التأثير النفسي والذهني في الجماهير، فلا يُقارَن أيُّ فنٍّ بَصَريٍّ أو سمعيٍّ أو حركيٍّ بفنٍّ لغويٍّ. وتتمثَّل أهميَّة الشِّعر الاستثنائيَّة الإضافيَّة في أنه الفنُّ اللغويُّ الأوَّل والأعرق والمستمر. وما أظن أحدًا يُجادل في أن اللغة هي الإنسان، بكلِّ ما تعنيه الكلمة من معانٍ.
* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «في اللغة والشِّعر (جدليَّة الثقافات: بين السِّلاح النَّووي والسِّلاح النَّـبَطي)!»، صحيفة "الرأي" الكويتية، الثلاثاء 22 أغسطس 2017، ص18].
وسوم: العدد 735