قراءة في رسالة جامعية "تاريخية الفتوى الأندلسية وآثارها الحضارية" للدكتورة شيماء فرغلي

أبو الحسن الجمّال

مع كثرة الدراسات التاريخية في الحقل الأَنْدَلُسي والتي اتخذت الفتاوى مصدرًا من مصادرها في البحث التاريخي في كافة الموضوعات السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية...وغيرها. كان لابد أن يتوقف الدرس التاريخي أمام الفتوى كظاهرة حضارية مهمة ومتشابكة ومتعددة الأبعاد في التاريخ الأَنْدَلُسي ليقوم بتناول تاريخ الفتوى في الأَنْدَلُس ذاتها وليس تاريخ الأَنْدَلُس في ضوء الفتاوى. ومن هنا جاء موضوع هذه الدراسة "الفتوى وأثرها في الأندلس منذ الفتح الإسلامي إلى نهاية عصر ملوك الطوائف (93ـ484هـ/711ـ1091م)"، والتي أعدتها الباحثة شيماء فرغلي سيد علي، - الباحثة في المكتبة المركزية لجامعة القاهرة-، وحصلت عليها من كلية الآداب ـ جامعة القاهرة، 2015م بمرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطبع الرسالة على نفقة الجامعة وتبادلها مع الجامعات الأخرى. وذلك تحت إشراف: أ.د/ عبادة عبد الرحمن كحيلة، أ.د/ أحمد عبد الله زايد. وتهدف الدراسة إلى محاولة التعرف على أحد هذه الجوانب المهملة في البحث التاريخي، وقد خصصت الإطار المكاني والزماني له خلال الفترة منذ الفتح الإسلامي إلى نهاية عصر ملوك الطوائف (92–484ﻫ/711–1091م).

 واختارت الباحثة هذا الإطار الزمني للبحث لأنه يتصف بإطار واحد للأندلس قبل وقوعها تحت سيطرة مغربية بعده متمثله في المرابطين والموحدين، كما أنه مفيد في رصد التغيرات الحادثة في الإفتاء ودراسة التطورات خلال فترة الدراسة، كما أن هذا الإطار الزمني الطويل تستدعيه الطبيعة الجزئية الصغيرة للموضوع المرتبطة بموضوع مثل الفتوى؛ يرتبط بالتاريخ الثقافي من ناحية، والتاريخ الديني من ناحية ثانية.

 وتهتم هذه الدراسة بالفتوى باعتبارها ظاهرة حضارية مهمة ومتشابكة لها أبعاد كثيرة، ولها أثرها الكبير؛ حيث إنه لما كانت الحياة بها الثابت والمتغير فإن المتغير يحتاج بضرورة حتمية إلى الاجتهاد الفقهي حتى يستطيع مواكبة حركة التغير الاجتماعي، وتُعتبر الفتوى من أهم صور هذا الاجتهاد. ومن ذلك يتبين أهمية موقع الفتوى ضمن منظومة الفقه والتشريع الإسلامي، وكذلك أهميتها التاريخية لارتباطها بكافة أنشطة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية...إلخ. كما يتبين بالتالي أهمية المفتي ومكانته العظيمة في التاريخ الإسلامي؛ لما له من تأثير كبير على الناس والمجتمع، وهو الذي يوصف بأنه "قائم في الأمة مقام النبي في بيان أحكام الشرع للناس".

 لقـد كانت الفتوى مـن أهم الوظائف التي اهتم بها رجال السيـاسة من ناحية وعلمـاء الدين من ناحية أخرى، وقد تنوعت الفتاوى بحسب الوقائع المستجدة، وهي بذلك تُعتبر وثائق تاريخية تكشف عن ملامح الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عاشتها المجتمعات التي صدرت فيها. وتتميز الفتاوى بوجه عام باتصالها بحياة الناس في كل وجوهها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وهو الأمر الذي نجده متمثلاً في الأندلس أصدق تمثيل؛ إذْ كانت الفتاوى بها إجابات عن أسئلة صورت الواقع الأندلسي، كما أن كثيرًا منها اعتُبر أحكامًا اجتهاديةً جاءت وليدة الحاجات والظروف الزمانية والمكانية.

 وبناءً على ما سبق يمكن القول بإن الفتوى صورة من صور الخطاب الديني في الأندلس والذي كان يشتمل كذلك على الخطابة في المساجد، والتعليم في الكتاتيب، وحلقات العلم في المساجد، وحركة التأليف الديني الواسعة..إلى غير ذلك. والفتوى كخطاب ديني يمكن التعبير عنها عبر عدة مستويات: المستوى الأول: خطاب الفتوى المنتج من قبل المفتين الرسميين. والمستوى الثاني: خطاب الفتوى من المفتين غير المنضوين رسميًا في خطة الإفتاء. والمستوى الثالث: خطاب الفتوى الممثل في الآثار أو الكتابات الناتجة عن النشاط العلمي في الأندلس.

 إن ما تقدم يكفي أن يكون باعثًا على اختيار موضوع الفتوى مادة للبحث؛ وذلك لأهميته وخطورته، والحاجة العامة إليه، فضلًا عن أن الموضوع لم يطرق من قبل في بحث تاريخي مستقل.

 ودراسة الفتاوى قد يكون همها الفتوى ذاتها من حيث كونها نصًا فقهيًا دينيًا يرتبط بقضية أو مشكلة تثور حولها تساؤلات. وهذا يدخل في صميم عمل الفقيه، الذي يتعامل مع تلك النصوص بمعزل عن المكان والزمان اللذين صدرت فيه الفتاوى. أما الطريقة التي اتبعتها الرسالة في دراسة الفتاوى هي طريقة البحث التاريخي الذي يفيد من الدراسات الاجتماعية في هذا الصدد، والتي تدرس الموضوع في إطار الأطراف الثلاثة التي يتكون منها، ألا وهي: منتجو الفتوى، ومستقبلو الفتاوى، والفتاوى ذاتها.

 ولما كان موضوع الدراسة موجهًا أساسًا إلى دراسة تاريخية الفتوى، فإنه من الواجب دراسة الإطار التنظيمي التاريخي للفتوى في فترة البحث في شقيه الخاص بالهيئة الرسمية أو الخطة ذاتها وكل ما يرتبط بها من موضوعات، وكذلك ما يرتبط بعلاقة هذه الخطة والأفراد المنتمين إليها بخطط الدولة الأخرى كجهات للاستفتاء. كما يرتبط بالإطار التاريخي للفتوى الحديث عن منتجي هذه الفتوى وخلفياتهم المعرفية وأثرهم في المجتمع الأَنْدَلُسي وكذلك الجوانب الأخرى المرتبطة بالفتوى في إطارها الزمني كموضوعاتها المتنوعة ومناهجها ومصادرها وكذلك الدور الثقافي وحركة التأليف العلمي التي نشأت حولها والآثار التي أنتجتها.

 وفي ضوء ذلك قسمت الباحثة هذا الكتاب إلى أربعة فصول رئيسة، ويسبق الفصول الأربعة تمهيد تحدثت فيه عن موضوع الدراسة وأهميتها، ومفاهيمها، والإطار التاريخي للدراسة، والمنهج المتبع بها، كما قدمت دراسة موجزة عن أهم مصادر الكتاب ومراجعه.

 وتصدى الفصل الأول لرصد خطة الفُتيا في الأَنْدَلُس، وتناولت فيه جهات الإفتاء المختلفة، وجهات اختيار المفتين، والشروط التي كان يجب توافرها فيمن يتصدى للإفتاء، كما تطرق الفصل إلى مواقع الإفتاء الأَنْدَلُسية، ومجالس الإفتاء.

 وخصصت الفصل الثاني لدراسة الركن الأول في عملية الفتوى وهو أهل الفُتيا أو المفتين، متحدثة عن أعدادهم وطبقتهم، وأوضاعهم الاجتماعية، وأجيال المفتين، ورحلاتهم، وأعمالهم، وأنشطتهم العلمية، وأيضًا أوضاعهم المادية، والعلاقات التي كانت فيما بينهم، وأخيرًا سلبياتهم.

 وجاء الفصل الثالث تحت عنوان (المستفتون وجهات الاستفتاء)، وتناولت فيه الركن الثاني من أركان الفتوى أو مستقبلي الفتاوى، سواء كانوا من الأفراد أو جهات الدولة ونظمها في الأَنْدَلُس، مع التركيز الموسع على جهات الاستفتاء الرسمية (الساسة ـ القضاة ـ المحتسبون) وعلاقاتهم المتشابكة بالفتوى والمفتين.

 أما الفصل الرابع والأخير فتم التطرق فيه إلى الفتاوى (موضوعاتها - مناهجها - آثارها)؛ وذلك باعتبارها الركن الثالث من أركان عملية الفتوى.

 واختتمت الكتاب بخاتمة ضمنتها أهم نتائج الدراسة، ثم ألحقت الكتاب بمجموعة من الملاحق المهمة التي استخدمت أثناء البحث وأفادته في بعض مواطنه، وفي النهاية أتت قائمة مصادر الكتاب ومراجعه.

 وقد أدت طبيعة موضوع الدراسة إلى ضرورة أن ترجع الباحثة إلى المصادر المتاحة كافة سواء كانت تلك المصادر تاريخية أو جغرافية أو فقهية أو أدبية ...إلخ؛ وذلك حتى يتم جمع كل ما يمكن من المادة العلمية المهمة لموضوع البحث. وقد تكاملت المصادر جميعًا في هذه الدراسة، وإن كانت كتب الفتاوى التي ذكرت الفتاوى، وكتب التراجم التي ذكرت المفتين هي الأساس الأكبر الذي انطلقت منه الدراسة. وبالرغم من تعدد مصادر الدراسة إلا أن كتب التراث الفقهي عامة والنوازل والفتاوى وكتب التراجم يأتيان في المقدمة وشكلا الأساس الأكبر للبحث.

 ولقد حاولت الدراسة بحث العديد من الإشكاليات المرتبطة بتاريخية الفتوى كقضية معرفية جدلية. ومن هذه الإشكاليات: إشكالية الفصل بين الخطاب الفقهي والخطاب التاريخي المستمد من النوازل والفتاوى، وإشكالية تزاوج الفتوى بالسياسة في مدرسة الفتوى الأندلسية، ومدى التشابك بين الحيزين الديني والسياسي للفتاوى، والإشكالية الجدلية بين اعتبار الفتاوى أحيانًا تمثل فعلاً بشريًا أو إبداعًا فكريًا يخضع لعوامل مختلفة ويصيبه التغير من ناحية، وبين تقليديتها واعتمادها على الآثار والأصول السابقة، وهل اتصفت الفتوى في الأندلس بالواقعية والتجدد ومسايرة الأعراف والتطورات المجتمعية؟.

 ويمكن تلخيص أهم المعالم المنهجية المستخدمة في دراسة الفتوى وأثرها فيما يأتي:

الرصد الزمني المتتابع للأحداث المرتبطة بكل فكرة يتم دراستها، مع الحرص على التمثيل وضرب بعض النماذج المعبرة عن الفكرة. تقديم الشرح والتوضيح للمادة العلمية والربط بينها وبين السياق العام للتاريخ الأندلسي. محاولة التقصي عن الأسباب والعوامل التي أدت إلى حدوث الوقائع التاريخية وذلك عن طريق تفسير المادة التاريخية. وبالإضافة إلى المنهج الوصفي والتاريخي ـ الذي يساعد في تتبع ملامح الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية في فترة الدراسة ـ تطلب هذا البحث المنهج الاستقرائي التحليلي الاستنباطي، ومحاولة الوصول إلى حكم كلى بما يوجد في المادة التاريخية جميعها أو بعض جزيئاتها، أي محاولة الوصول إلى أحكام عامة تتصل بأفكار الدراسة.  واستُخدمت كذلك بعض أدوات المنهج المقارن الذي لا يكتفي بالتاريخ السردي الوصفي، والمنهج المقارن يجيب عن التساؤل: لماذا حدث بينما المنهج الوصفي التحليلي يجيب عن التساؤل: كيف حدث فهو منهج يتسق مع الأحداث ويحاول الكشف عن محركاتها. وقد حاولت الدراسة تطبيق بعض المفاهيم المنهجية الحديثة في دراسة العلوم وذلك عن طريق استخدام المنهج الإحصائي في جانبين فقط من جوانب الدراسة المتعددة وهما المرتبطين بالمفتين الأندلسيين من ناحية، وآثارهم من ناحية أخرى. وطريقتنا في مثل هذا الأمر احتاجت منا فترات زمنية طويلة؛ حيث ظل العمل عليها طوال مرحلة إعداد الرسالة إضافة أو دمجًا أو حذفًا وذلك في إعداد الجدولين الخاصين بالمفتين، وآثارهم خلال أربعة قرون وتحديد محاوره ومحاولة رقمنته واستنطاقه واستخراج ما به من دلالات.

 ويمكن الخروج من خلال هذا الكتاب بالكثير من النتائج العامة، ومنها:

 أولاًـ أثبت البحث توافر المعالم الديوانية أوالمؤسسية للإفتاء في الأندلس، وقد تجلت الناحية المؤسسية للفتوى في إشراف الدولة ومتابعتها، ووجود خطة للفتوى وأخرى للشورى، وشروط وآداب عديدة وجب توافرها فيمن يتصدى للإفتاء، ووجود مجالس للإفتاء. والفتوى كمؤسسة صار لها موقعها المؤثر داخل الدولة الأندلسية، وهو الأمر الذي جعلها تقع في علاقات متشابكة مع مؤسسات الدولة الأخرى في الأندلس، والتي اعتبرت هي أهم جهات الاستفتاء بجانب الفتوى العادية بالإجابة على تساؤلات الأفراد.

 ثانيًاـ من الجدير بالملاحظة أن كافة الأفراد اتجهوا إلى المفتين طلبًا للفتوى؛ وهو ما يعكس تدين كافة قطاعات المجتمع الأندلسي، اللهم فيما عدا العلماء والفلاسفة الذين لم يحتكوا بالمجتمع وانعزلوا عنه ولم يظهروا أفكارهم له، فلم نجد فيلسوفًا أو عالمًا في المجالات الطبيعية طلب فتوى، وإنما العامي أو السلطة هم من يطلبون الفتوى.

 ثالثًاـ أكد البحث على تشابك العلاقات بين الفتوى والنظام السياسي كأحد جهات الاستفتاء، وهو الأمر الذي أدى إلى حدوث تداخل بين السياسة والفتوى أخذ مظاهر عديدة منها ما هو سلبي ومنها ما هو إيجابي، كما أدى أحيانًا إلى وجود تسييس لبعض الفتاوى إلى حد ما.

 رابعًاـ استطاع البحث أن يرصد اتجاهات تعامل السياسة والسياسيين مع الفتوى، واتجاهات تعامل الفتوى والمفتين مع الجانب السياسي ونظام الدولة، تلك الاتجاهات التي تراوحت مواقف المفتين فيها ما بين المهادنة والتأييد من ناحية والمواجهة والنقد من ناحية ثانية.

 خامسًاـ أظهرت الدراسة تعدد وجوه الخطاب المتصل بالفتوى فهناك الخطاب المنتج من قبل مؤسسة الفتوى الرسمية في الأندلس عن طريق المفتين الذين يعملون في إطار هذه المؤسسة، وهناك خطاب ثان للمفتين الذين لم يتقيدوا تمامًا بقيود المؤسسة الرسمية للفتوى، أما الخطاب الثالث والأخير فيظهر في الآثار العلمية للفتاوى في الأندلس من خلال الكتب العديدة التي ألفت في هذا الصدد.

 سابعًاـ أوضحت الدراسة أهمية المفتين وهم الركن المنتج من أركان عملية الفتوى (المفتي ـ المستفتي ـ الفتوى) ومكانتهم في المجتمع الأندلسي، وقد أهلتهم هذه المكانة الكبيرة وما قاموا به من أدوار ثقافية ودينية واجتماعية إلى أن يصبحوا نخبة علمية من ناحية، ونخبة دينية من ناحية ثانية، ونخبة اجتماعية من ناحية ثالثة، ونخبة مؤسسية من ناحية رابعة.

 ثامنًاـ ساعدت الحياة العلمية المزدهرة بالأندلس تعلمًا ودراسة ورحلة في سبيل العلم داخل الأندلس وخارجها إلى كثرة من وصلوا بها إلى درجة الإفتاء، ولهذا وجدنا الكثير من المفتين لهم تلاميذ عديدين من المفتين أيضًا، وهو ما تم تناوله بشكل إحصائي مبينًا لمعالم هذه التلمذة وامتداداتها الزمنية.

 تاسعًاـ من الناحية الاجتماعية برزت بعض البيوت العلمية التي اشتهرت بتقديم الكثيرين من المفتين من بين أبنائها، وهي ظاهرة شهدتها بعض المدن الأندلسية، وهي لم تأخذ الطابع الوراثي بقدر ما ترجع في الأساس غالبًا إلى تشجيع الوسط العلمي والتنشئة على اكتساب المهارات والمعارف التي تؤهل للإفتاء.

 عاشرًاـ قامت الدراسة بتسليط الضوء على حركة التأليف الخاصة بالفتاوى والمفتين وبحثت اتجاهات هذه الحركة المتنوعة زمنيًا ومكانيًا وموضوعيًا. وتبين أن معظم مؤلفات المفتين اقتربت بوجه أو بآخر من الفتوى، وهي إما أن تكون تابعة لمصادر الفتاوى وقواعدها كالقرآن والحديث وفتاوى الصحابة والتابعين...إلخ، أو خاصة بالفتاوى المتنوعة والجزئية، وهي التي تعددت موضوعاتها تعددًا كبيرًا. ويلاحظ أن التأليف في ساحة المفتين الأندلسيين لم يقتصر على الجوانب المتصلة بالفتاوى بل اقترب كذلك من دوائر العلوم الإنسانية والطبيعية؛ وهو ما يدل على تنوع ثقافة المفتي الأندلسي.

 حادي عشرـ على الرغم من تعدد موضوعات الفتاوى واتجاهاتها المختلفة إلا أن الإطار المذهبي الغالب عليها كان هو اتباع المذهب المالكي بمنهجه ومصادره والتعصب له. وهي في ذلك تتماشى مع الخطاب الديني العام في الأندلس وتناسقها مع هذا الخطاب، غير أن ذلك لم يكن ليمنع من توافر أنماط للخصوصية الأندلسية والتي تمثلت في حركة الإفتاء بمخالفة بعض الفتاوى للإمام مالك من زاوية ومراعاتها للأعراف الأندلسية واستحداث مصدر تشريعي جديد (عمل أهل قرطبة) من زاوية ثانية. أي أن الفتاوى في الأندلس استطاعت بقدر الإمكان مسايرة التغيرات الزمانية والمكانية الخاصة بالأندلس وظهر ذلك واضحًا في اعتمادها على المصادر المرتبطة بعوامل التغير الاجتماعي، مع مراعاتها للواقع الأندلسي.

 ثاني عشرـ لم يكتف أهل الفتيا في الأندلس على ما هو مذكور في مؤلفات المذهب دون إعمال الرأي، حيث إن عدم إعمال الرأي يعمل على دفع الفقه دفعًا إلى طريق الجمود الفكري، مما يؤثر بالسلب على التشريع الإسلامي، وكذلك على درجة الوعي والتدين لدى كافة المسلمين، حيث يظهر أن الفقه عاجز عن مواكبة التغيرات الحادثة في المجتمع الأندلسي، وعن التطور مع الزمان، مما سيدفع إلى نهاية العلم الفقهي وعدم جدواه لفائدة الإنسان وتحقيق النفع له. كل هذا تم إدراكه في ساحة الإفتاء الأندلسية.

 ثالث عشرـ كانت هناك حالة من التوازن بين المذهب المالكي السائد وآرائه وفتاويه من ناحية وبين المجتمع الأندلسي من ناحية ثانية، وهذا التوازن ظهر في عدة مظاهر يأتي منها خروج المفتين الأندلسيين في كثير من الأمور عن آراء المذهب المعروفة، وذلك حين لم تتوافق تلك الآراء مع خصوصية الأندلس ومجتمعه.

 رابع عشرـ لقد تكاملت الفتوى في الأندلس ضمن إطار جدلي له أربعة أركان أولها النصوص الأصلية وثانيها القواعد المذهبية وثالثها العقل الإنساني ورابعها طبيعة المجتمع الأندلسي وهذا الإطار الجدلي تفاعل من أجل إخراج الفتاوى المناسبة المؤسسة على كافة هذه الأركان. وهذا معناه ضرورة أن تكون الفتاوى ديناميكية وتنبض بالحياة وفي حالة تفاعل وتغير مستمر في المكان والزمان، ولا تتجمد أو تتحجر عند أفكار واحدة ثابتة.

 خامس عشرـ شهدت الحركة العلمية الأندلسية الدعوة إلى الاجتهاد الدائم وعدم إغلاق بابه، وهذه الدعوة وإن لم يكتب لها النجاح الكامل إلا أن ظلالها ظهرت لدى بعض المفتين ممن كانت لهم آراء وفتاوى واجتهادات.

سادس عشرـ اتضح من الدراسة الآثار العديدة للفتاوى على كافة المستويات داخل المجتمع الأندلسي، سواء كان هذا الأثر سياسيًا أو اجتماعيًا أو دينيًا أو ثقافيًا...إلخ. غير أن ما يلفت الانتباه بقوة هو الآثار الباقية للفتاوى حتى أيامنا هذه في القرن الحادي والعشرين ممثلة في المؤلفات المختلفة التي تمخضت عنها حركة التأليف حول الفتوى وما يتعلق بها من موضوعات.

هذه هي أهم النتائج الكبرى لهذا الكتاب، أما النتائج الجزئية الكثيرة فتوجد في ثنايا الكتاب ذاته.

وسوم: العدد 735