جيل فريد

جيل فريد.. ناجية أبو صالح

بقلم: رفاه المهندس

عضو رابطة أدباء الشام

كثير من الناس من يولد ليعيش أو يموت دون أن تحتفل لحياته أو موته الأصداء.

ساكناً لا تهتزّ لحياته أو موته الأرجاء.

دون أن يضيف إلى حياة الأحياء معنى.

ولا إلى بعض القلوب فهماً.

ولا للإنسانية هدفاً أو غاية.

فما تحزن الأرض لفقدهم، ولا تدمع محزونة عليهم أدمع السماء.

وعلى العكس من ذلك..

فقد خلق الله خلقاً قد جبلوا على الخير، وتوثقت طبيعتهم على العطاء، واستمدت قلوبهم دفقها من شريان الخير والنور.. ففتحت لهم أبواب القلوب، وشرّعت لهم ستور الغيب عوناً ومدداً.

لكنهم إذا ما قضوا آجالهم أظلمت الأرض من بعدهم وانكفأ نورها إلا من رحمة الله ولطفه، وانتقصت أطرافها، وانهدّ من أركانها إلى أن يخلق الله خلقاً يعيدون بناء ما انهدّ، ويكملون ما انتقص، ويجددون ويجحدون.. وهكذا تدوم الخيرات وتعمر.

"ناجية أبو صالح" هي واحدة من أولئك الأفذاذ الذين استطاعوا أن يؤكدوا أن الإنسان وقيمته بما يعمل ويزرع ليس بما يملك أو يتباهى به، ولا ما يكون له، ولا ما يحمله من الشهادات أو ما يتزيّا به من الألقاب.

وقد ظنّ البعض أن ما قامت به البهارج من ألقاب أو شهادات أو شهرة دون أن يكون لها توثيق في عالم الواقع، إنما هي أبعد ما ترمي إليه قوس الأحياء وسهامها، وما هي في الواقع إلا إشارات لحاملها على أنه مؤهَّل للعطاء، ولكن يبقى عطاؤه وحده هو الذي يؤكد جدارة الحياة التي عاشها ذلك الإنسان حياً ولو مات.. وليس ميتاً بين الأحياء.

ولدت الأستاذة ناجيّة لأب عالم متخصص في علوم العربية والنحو والفقه، فقد قرأ الفقه الشافعي وعلوم النحو والصرف على شيخ الشافعية وفقيهها آنذاك الشيخ أسعد العبه جي، كما قرأ الفقه الحنفي على شيخ الحنفية في حلب آنذاك الشيخ أحمد الزرقا، وقرأ عليه القواعد الفقهية في أصول الفقه ودرّسها حتى آخر عمره رحمه الله.

وقد ألهبت هذه البيئة العلمية ومواهبها، ورشحت بأريجها ندية في أعطاف فكرها وثنايا ذاكرتها، وأثّرت في طباعها أيما تأثير بما وعته من قراءات والدها العالم واستنتاجاته وخواطره.وقد لازمت دروسه في مساجد حلب فكانت دروس المسجد هي البيئة الثانية التي طبعت الحاجة ناجيّة بطابع الوعظ والتعليم والعمل للخير بما يكون معه من انفتاح على الناس، حتى امتلكت ناصية الفهم من الناس والفهم عنهم وحسن مداراتهم، وحسن توجيههم بما يناسب الصغير، وبما يحفز الشباب، وبما يلائم عقلية الكبير.

كما أثّرت بيئة الدروس المسجدية في حياة الحاجة ناجيّة بما وثقت من عرف التعارف والتآلف بين الناشئات المسلمات، فتعارفت هناك على أحباب روحها الغاليات أذكر منهن على سبيل المثال:

- سامية البيانوني وهي زوجة الأستاذ محمد المبارك الدمشقي.

- معزز البيانوني، خريجة دار المعلمات بحلب آنذاك.

- وداد علوان، خريجة دار المعلمات.

- الأستاذة أمينة شيخة، خريجة كلية الشريعة بدمشق.

وأخريات ثلة من خيرة بنات حلب اللواتي يجمعهن الالتزام والغيرة على دينهن.

وقد بقيت هذه الصحبة متقاربة القلوب، متجاوبة الأهداف، متلاحمة المصير إلى آخر أيامها رحمها الله رحمة واسعة.

وكنت قد حضرت جانباً من ودادهن إذا ما اجتمعن بعد سفر أو غياب فكنت تراهن كما وصف الله المؤمنين: "أذلة على المؤمنين" تتراحمن وتتواددن وتتناصحن وتتبادلن الهدايا مهما كانت بسيطة، وإذا ما طارحهن السمر تذكر إحداهن الأخرى بمواقفها ومناقبها ونكاتها وطالباتها وذلك مما يكون معه علم وإفادة ومرح فيما لا يكون كاملاً إلا بينهن مجتمعات.

وقد كانت تذكر من غيرة والدها رحمهما الله الشيخ ناجي أبو صالح ما منعه إذ ذاك من السماح لها بمتابعة دراستها لما هو أكثر من الثالث الابتدائي بما شاع آنذاك من أن حركة التغريب تبدأ من المدارس، وأن العلم الشرعي هو أهم من كل ما تتلقينه في مدارسهن.

وكان –رحمه الله- لا يرضى لها اصطحابها لواحدة من أترابها إلا إذا أثبتت له بأن صحبتها تعود عليها بالنفع والفائدة والفهم مما شجعها أكثر أن تكون بين المتعلمات مثلهن تماماً وبين الجامعيات تفهم قضاياهن ومحاضراتهن إلى أن وجدت نفسها تعلّم ما تعلمته، وكان شعارها دائماً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "بلّغوا عنّي ولو آية".

تزوجت وعمرها سبعة وعشرون عاماً من عالم الحديث الأستاذ عبد الرحمن فاخوري ليسانس لغة عربية، وهو من (دركوش) التابعة لمحافظة إدلب في عام (1962م) وقد كان زواجها موفقاً ناجحاً متآلفاً أشاع بينهما من الرحمة والوداد ما جعلهما يسموان أمام المحن، فكان الود والإخلاص أقوى من شظف العيش وأقوى من عدم إنجاب الولد، وأبقى من السجن والقتل، فقد امتحنت رحمها الله مع زوجها في أول شهور اعتقاله بالرغم من مرضها بالقلب، وعذبت أمام زوجها وعذب أمامها مرات عدة بالرغم من أن قلبها لا يحتمل ذلك أبداً.

ثم أفرج عنها بعد ذلك –أي بعد عدة أشهر- لتبقى ما يزيد على اثنين وعشرين عاماً لا تعرف عنه أية معلومة، إلا أنها استودعته عند الله الذي لا تضيع عنده الودائع.

وقد تناهى إلى سمع أقاربها خبر مقتله واستشهاده إلا أن أحداً لم يخبرها بذلك رحمة بها، وإبقاءً على تماسكها وصحتها.

ولقد هاجرت بعد الإفراج عنها مع والدها إلى الرياض في رحلة متنوعة الخطوات "دالة مرتحلة إلى الله" "متبسمة لكل ما قابلته من لأواء" صابرة محتسبة أمام الخطوب والأنواء وفي بيوت إخوتها الأفاضل طاب لها المقام مع والدها وقد لازمت خدمته والقيام بواجبه إلى آخر أيامه إلى أن توفاه الله

وبالرغم من أن وفاة والدها قد ترك لها فراغاً مؤلماً، إلا أن حدب إخوانها وزوجاتهم وأسرهم عليها كان يسري عنها ويخفف آلامها ومعاناتها.

لكنها في كل مراحل حياتهم لم تتخلف عن دعوتها، ولم تترك مقالاً لله ورسوله فيه رضى إلا وقالته، ولقد أقضّ مضجعها أن المسلمين لم يفقهوا دينهم الذي يعتنقون، وأنهم لم يربوا الإسلام في أنفسهم، ولم يجعلوه حاضراً بينهم في أقوالهم وأعمالهم ومظهرهم.

بل كانت تناقش النساء في أخص أمورهن وأدق علاقاتهن مع أسرهن وآبائهن وأزواجهن وأولادهن، مستنهضين الهمم، وتناقش الآراء، وتشخص الأدواء، ثم لتؤكد من خلال محاوراتها اللطيفة وتجاربها الكثيرة أن عدم استمساك الأمة بدينها هو الذي أقعدها عن الخيرات، وقتل فيها الكثير من المواهب.

كانت كثيراً ما تحزن لاعتقادات الناس الخاطئة، كما كان عندها إلمام بمجموعة من الأحاديث الموضوعة المكذوبة، فكانت تؤكد للناس أن الاستشهاد بها، والعمل بمقتضاها يكون مشاركة للوضاعين في كذبهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيرة بذلك إلى أن العقل المسلم يجب أن يكون واعياً لما يتلقاه، ولما يعمل به، ولما يقوله لأنه يساعد في بناء صرح الإسلام أو- لا سمح الله - يكون معول هدم وفساد.

كما كانت تستغلّ كل سانحة لإيصال مفهوم الإسلام لمن تعرف ولمن لا تعرف، كالممرضة في المشفى، ولسائلة عن حجابها في فرنسا (وكان معها من يترجم لها) والعابرة سبيل على شاطئ بحر، ولطفلة صغيرة رأتها تبكي، وهكذا كانت تمتلك الكلمة الآسرة، والابتسامة الرزينة، والدمعة الساخنة أو النكتة الودودة، والصوت الشجي المعبر.

وإذا ما تناولت موضوعاً فإنما تضرب له الأمثلة الشديدة الوضوح، والشواهد كثيرة الشروح، ولا يملّ السامع أن يترك نفسه تسترسل نجيّة لها مغالبة له ولفكرته.

كما أنها لم تكن لتتوانى عن رفض القبائح وإعلان عوارها، وتسفيه مثالبها، وفي الوقت ذاته تحرض العقل البشري أن يستنتج مهتدياً للطيب دون الخبيث وللحسن دون القبيح، وللصواب دون الخطأ متشفعة لقلوب السامعات بنكات وقصص وأمثلة بالغة الجذب والتأثير.

ناجية أبو صالح امرأة قلّ نظيرها بين النساء، الدعوة إلى الله تجري في عروقها، تنبض معها نبض الحياة.. ذكية حصيفة تركت في قلب من عرفها نبضة وذكرى وفكرة.. إن خذلها قلبها المريض، أو خذلتها ظروفها، لم تخذلها أبداً آمالها وأفكارها واستنهاضاتها.

الجسد الكبير الواحد كان يؤرقها..

وفي يوم غزو العراق المشؤوم دخلت المستشفى بحالة طارئة.. لكنها هناك فارقت الدنيا بعد أسبوع من المرض الشديد كانت قبله بما يزيد عن الأربعين عاماً.. وهي في معاناة مع مرض القلب المتعب المضنى.

وفي 10 نيسان 2004م -1424هـ ودعت هذه الدنيا إلى عالم كانت تعدّ له عدته، وتنتظر فيه آمالها وتلتقي أحبابها.

رحمك الله يا خالة ناجية وتغمدك برضوانه الذي كنت لأجله تسعين.. إلى جنات ونهر، عند مليك مقتدر عنده وبرضاه تكمل أفراح الروح.. تقر الأعين وتلذ الأنفس إن شاء الله تعالى.