قصيدتان.. في الرقمي وخشان..
بطول السنوات التي تعاملت فيها مع الشبكة العنكبوتية، ثم صفحات التواصل الاجتماعي، لم يفرض اسم نفسه عليَّ كما فرضه اسم: "خشان خشان".. ظننته في البداية اسمًا مستعارًا، ولكن كيف يكون مستعارًا وهو المعروف لأهل الشعر والعروض يقصدونه لتصحيح ما يكتبون، وفيما يعرضه من مقالات ومقولات، ولم أجد في نفسي الحماسة من خوض غمار حروب فهم العروض أكثر، خاصة بعد أن تخففت منه ومن العمودي وتفرغت لكتابة الأغاني الدينية وقصائد الابتهالات، وانشغلت أيضًا بمشروعي الثقافي في كتابة عدة كتب في السيرة النبوية المطهرة وعلوم القرآن الكريم، والنقد الأدبي، لكن لم يفارقني هذا الرجل الذي أجده علمًا من أعلام العروض في عصرنا الحالي وأنشطهم أيضًا، حتى هذا الحين لم أكن أعلم عن العروض الرقمي سوى نتفًا من ارتباطه بالراحل الدكتور مستجير، وكتاب عنه لمواطني السويسي الشاعر فوزي محمود، ثم وجدت العروض الرقمي وعلى رأسه أيضًا ذلك الاسم الكبير "خشان".
ذات يوم داعبت صفحات التواصل الاجتماعي باحثًا، وقفز إلى ذهني اسم "خشان" فكتبته، فجاءتني صفحته فطلبت صداقته، فقبل الرجل صداقتي وتواصل معي على الخاص وضمني إلى أكاديمية العروض الرقمي، وأنشأ صفحة لي، وتواصلنا ولكن صدَّني عن تلك الصفحة أنها لم تكن مستجيبة لي في الكتابة، ومن باب "بركة يا جامع" أقفلتُ عائدًا، ولكن هيهات .. هيهات أن يدعني خشان وعروضه الرقمي وهو الذي زرعني فيه، ومن هنا رغم ابتعادي عن تلك الصفحة برغم دخولي نجمًا حائرًا في فلك خشان أقرأه، وأتابع ما كتبه ويكتبه، فأتعجب تارة لغزارة علمه الذي يعيا منه المتخصص فما بالنا ودراسته في الهندسة المدنية، وتارة أخرى لصبره في الجدال والنزال مع أهل التخصص من الأكاديميين المرموقين الذين يعرفون له قدره ويعرف لهم قدرهم، ثم أقف متوجعًا ساخطًا لتلك الجرأة التي تتجاوز الصراحة إلى الوقاحة من أولئك الذين يناطحون تلك القلعة الشماء، وهم بعد لا يطاولون قدمه لا قامته، ومع هذا فلا يجد الرجل غضاضة ولا فتور من نشر دعوته، والصبر عليها، ونثرها وشرحها، وتيسيرها، حتى قرَّ في ذهني أن هذا الرجل الذي يملأ الساحة الأدبية مثله مثل حورس الفرعوني ذلك الذي تقطعت أوصاله وتفرقت في الأقطار والبلدان، ولزم الأمر أن يقوم أحد بجدية بمهمهة لملمة هذا الجسد العملاق ليقدمه للمعاصرين والقادمين تاريخًا وشهادةً وتراثًا كاملًا غير منقوص، خاصة أن وراء أكمة الرجل ما وراءها من علم لم يبح به، الظاهر منه وجوده في العروض فقط، والمخفي منه تبوح به الخفايا من الثنايا بين السطور لمن شرح الله صدره، وأيقظ عقله، وأنار بصيرته فقرأه ونشره.
بعنفٍ ومهابة، وبحبٍ ونكوص، دقت فكرة الحوار مع هذا الرجل الذي لا نعرف عنه الكثير، على الرغم من علمه الغزير الذي استفاد منه الكثير، لكن أحدًا لم ينتبه لذلك البحر العذب العباب الزاخر غير أن ترسو قواربهم على مرفأه فيتزودون ثم يمضون على أمل العودة أو اللاعودة وحسب، يطَّمعهم في هذا تواضع الرجل وأدبه الجم، إذ لم يرد يومًا طارقًا قصد بابه فقرعه إلا وجد الأستاذ أمامه متأهبًا للقائه ليلًا أو نهارًا بلا مضضٍ أو ضيقٍ وتبرم، ولا استعلاءٍ بعلم، فكأنك حين تحادثه بصوته الرصين المكين، يدخل الألفة على نفسك، وينزع منها المهابة، وكأنك تحادث صديقًا من أندادك.
كانت مهمتي صعبة فالرجل كتاب مفتوح من حيث ما يقول، وكتاب مغلق من حيث من هو، ولم أجد عنه إلا النزر اليسير الذي لايقوم ببحث أو دراسة عنه يساعدني في الكتابة عنه بغير حوار وكفى، فما كان إلا أن كلمته على الخاص وطرحت فكرة الحوار مشفوعة بحواراتي الحالية والسابقة، وافق الرجل وسأل أين سيكون النشر فأجبت، فأرسل لي عدة روابط كان يظن أنني لم أقرأها، ثم قفزت في ذهني أن رجلًا مثل هذا لا يكفيه حوار واحد بل كتاب، سهرت على إعداده شكلًا ومضمونًا، ولما أنتهيت منه أرسلته إليه، ووافق أيضًا مشكورًا فأبحرنا معًا في كتاب أبوابه مشرعة لم تغلق بعد في استقصاء أمواج وروافد أستاذي خشان، وسيكون كتابًا له شأن في عالم العروض إن شاء الله، خاصةً أن الرجل رأى أن يطبعه طبعة ورقية إن تيسر لا أليكترونية فقط.
عاودت خوض غمار العروض الرقمي متدربًا، عبر دوراته الثمانية التي عشتها وتعرفتُ منهجها قبل أن أبدأها، ومضيت مع الدورة الأولى وأنهيتها وأصبحت مجازًا للثانية، كل هذا وأنا أعمل في هذا الكتاب وكتابًا غيره، وحوارات مفتوحة ومغلقة ما زالت، ومنها حوار مع الدكتور محمد حسن كامل سفير الثقافة العربية المقيم في فرنسا، والذي سيتحول أيضًا إلى كتاب بعدة لغات، وحضوري لعدة ندوات ولقاءات تليفزيونية وإذاعية، ولكن لكي أكون صادقًا ومعايشًا لتلك التجربة مع العروض الرقمي وشاهدًا عليها، كتبتُ كلمتي في نهاية الدورة الأولى ومضيت ليفاجئني أستاذي العلامة والعروضي الكبير مهندس خشان محمد خشان، بقصيدةٍ عصماء أكبر من قدري وعلى قدر كرمه، ليضعني في مأزق الرد عليها بقصيدة تماثلها وزنًا وقافية، فسهرت ليلة أكتب وأمحو حتى استقرت أبياتي على الجودي، وها أنذا أنشر القصيدتين معًا، والمقارنة ليست في صالحي، وما قصدتها بل على سبيل رد التحية، ولكنها ــ هنا ــ ليست بأحسن منها لقلة بضاعتي وجودتها مقارنة بجواهر أستاذي، وهذه كلمتي متبوعة بالقصيدتين تباعًا:
(وإني لأدون كلمتي بالصدق النابع من معاينة التجربة بنفسي متدربًا، خلال متابعتي للدورة الأولى، والمرور على بقية الدوائر، وتلك النقاشات والدراسات، والمعلومات العميقة، والغزيرة، التي استفدت منها كثيرًا، وأقر بأنني رغم تعرفي على التفاعيل التي جاهدت في تعلمها على مضض، لم أجد مثل ذلك العنت في تفهم العروض الرقمي، بل والإقبال عليه، والانتصار له والإقرار بمنهجيته القائمة على التراتبية المنهجية المنطقية المدروسة والمحكمة، والتي تجعل من العروض مفتتحًا فقط للولوج في التعرف على منهج العبقري الفراهيدي، وأن وصف وضع الأرقام كترميز للمقاطع بالآلية الميكانيكية التي تحول بين تدفق الموسيقى والكلمات، أو بين حرارة الوجدان في إنشاء الأبيات، وصف ينبيء عن عدم ولوج صاحبه في دنيا هذا المنهج الذي وجد ليبقى، وأنصح من أراد أن يمتطي صهوة العروض ويتحاشى ما عانيناه، ويوفر طاقة شعره للبوح أن يقبل على الرقمي كمنهج، وكتجربة تشاركية تعاونية من صحبة كرام تزيل عنه رهبة المحاولة، وتحفزه للمزيد من الدراسة والتزود به ومنه).
ــ فقال العلامة والعروضي الكبير خشان خشان، في شخصي:
كلماتُ تبرِ حقّها التكريمُ ......... حيّاكَ ربي سيدي ابراهيمُ
أنصفت منهاج الخليل بفقرةٍ ........ من نورها يتبدّد التعتيمُ
لكأنها البشرى بفرض كفايةٍ.... وبه عن الأجيال سوف تقومُ
ببيان حقٍّ في كتابكم الذي ..... ترنو لتقطف من جناه حلومُ
لسواه قالوا في العلوم مناهجٌ ..... وله تفاصيلٌ بها تجسيمُ
أوصافُه لا فكر يجمع بينها.... ظلم لعمري ذا المقال عظيمُ
ستنيله منك البصيرةُ حقّه .. فاعزمْ فمثلك في الجليل عَزومُ
والفكْرُ حارسُ كل منهجِ مبدإٍ .. بسوى حراسته المآل وخيمُ
يا ربّ وفّقْ للصواب مسيرهُ ........ ليقومَ بالمرجوّ يا قيومُ
ــ فكان هذا ردي على قصيدته:
شكرا لأستاذي، أتيت أقيمُ ....... في روضةٍ فيها الثمار علومُ
يسَّرتَ منهاجَ الخليلِ زخارفًا....... في ساعةٍ يرقى بها المفهوم
فكتابنا من فيضكم سطرته.......... أنّى بدون مقامكم سيقومُ
يا من بنيت منارةً يزهو بها .........علم بفضل جهودكم مرقوم
خشَّان قل لي شيخنا من مثلكم .......حق عليّ لمثلك التعظيم
كم ذا تناوشك الخصوم بمنطق ....لا يعرف المنهاج فهو ظلوم
ما إن غضبتَ ولم تضق ذرعا بهم .... والردّ برهانٌ لديك مقيم
لله والتاريخ أشهد أنني ................ ألفيتُ منهاجًا عليه تقومُ
يعطي الفراهيديّ كامل حقه ... فكْرُ بنِ أحمدَ في العروض عظيمُ
وسوم: العدد 631