سلمان جنيد

في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي جابر بن عبد الله بن حرام – رضي الله عنه- فقال له يا جابر ما كلّم الله تعالى عبداً قط إلا من وراء حجاب، ولقد كلّم اليوم أباك كفاحاً (يعني مواجهة). فقال: يا عبد الله سَلْني أُعطِك.

قال: يا رب إني أسألك أن أرجع إلى الأرض فأُقتل فاستشهد.

قال: إني كتبت عليهم أنهم إليها لا يرجعون.

قال: يا رب فبلّغ مَن ورائي ما أنا فيه من النعيم..

فأنزل الله تعالى: (ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون...)

قد والله لقيت الأحبة – يا سلمان- محمداً وصحبه.. ولقد حققت يا سلمان أسمى أماني المؤمن (الموت في سبيل الله أسمى أمانينا) ولقد كنت من الذين اختارهم الله (ويتخذ منكم شهداء) فأنت الشهيد لنا، والشهيد على الظالمين إن شاء الله.

سبقت حلب الكريمة إلى تقديم الشهداء الأبرار، وسبقت من قبلها حماة لتقديم خيرة شبابها ديناً وخلقاً وعلماً، وانتظرت حمص، وتلفت أهلها يمنة ويسرة، في سرهم يتساءلون: متى يكون لمدينتنا حظها من نعمة الشهادة؟ من سيكون الرائد؟ ومن سيكون المقدام؟

وتلهف الجميع وأجاب العلماء: الشهداء أحباء الله (يحبهم ويحبونه) ولتعلمن من حبيب الله بعد حين.

إذا مشيت بسوق الخضار في حمص، ثم انعطفت قليلاً إلى اليسار، وجدت مسجداً صغيراً حديث البناء، وإذا دخلت المسجد وصليت فيه ركعتين، فقد يلفت نظرك شاب في العشرين من عمره أو يزيد، معتدل القامة، نحيف الجسم، في عينيه ذبول، أسمر الوجه مُشْرِقُه، وضيء الجبهة، في نظراته معاني التواضع والرقة والدماثة، خافت الصوت، حياؤه من حياء عثمان رضي الله عنه، يمسك بكتاب الله الكريم، يتلوه بصوت خفيض، ويصلي ركعات خشوع، وقد تلقاه يعلّم من حوله من اليافعين تلاوة القرآن الكريم ويشرح لهم معانيه.

وإذا سألت في حمص: هل من عالم يحل لي مشكلة فقهية معقدة؟ قيل لك: علماؤنا كثيرون ولكن عليك بالشيخ محمود جنيد من أجل حلّ المشكلات العويصة.

وتسأل عن الشيخ في (قيصرية الزيت) ويدلونك على دكان متواضعة، فيها شيء من خيوط الغزل، وعلى أحد الكراسي الصغيرة يجلس شيخ وقور يلبس (صاية) متواضعة يربطها على خصره (بحبل) بسيط وعلى رأسه (طربوش) تسلم عليه بتحية الإسلام، فيردّ عليك بأحسن منها ويدعوك إلى الجلوس، فما تملك إلا أن تجلس متأدباً بين يديه ولو كنت عظيم الشأن والجاه، تعرض مشكلتك فيصلي على النبي عليه الصلاة والسلام، ويمسك بلحيته مفكراً قليلاً، ثم يشرح ويفتي ويوضح فما تخرج إلا راضياً، وما تغادر إلا وأنت تقول:

هنيئاً لهذه المدينة بهذا العالم الفاضل.

وبشيء من الفطنة، ودقة الملاحظة، يمكن إدراك العلاقة بين ذاك الفتى وهذا الشيخ.. إنها علاقة الابن بأبيه..

أجل إن ذاك الشاب هو سلمان بن الشيخ محمود جنيد، عالم حمص، وإن هذه الأسرة من خيرة أسر حمص علماً وتقوى وإحساناً.

في هذه الأسرة الكريمة تربّى، وبين أترابه من الشباب المؤمن الطاهر تعلّم حياة الإيمان والإسلام والأخوة، وقبل ذلك وبعده، من نور كتاب الله التمس معالم الطريق، وبسيرة النبي صلى الله عليه وسلم حاول أن يلزم نفسه، وعلى درب الصحابة ورجالات الإسلام وطَّن نفسه أن يسير.

أنهى سلمان تعليمه الثانوي، ويحار في اختيار الفرع الجامعي الذي يناسبه، لكن مصدر الحيرة ليس كما هو عند الكثيرين: أي الاختيارات أفضل مستقبلاً وأيها أربح؟

إنما مصدر الحيرة حرصه على أن يحسن الاختيار الذي يفيد به المسلمين ودعوة الإسلام، وأخيراً يقرر دراسة الهندسة، ويشاء الله أن تكون دراسته في مدينة حلب، مدينة الشهداء والانتصارات، ويشاء الله أن يشهد بدايات الثورة الإسلامية ممثلة في شباب الإخوان المسلمين، الشباب المؤمن الذي آثر ما عند الله فترك دراسته وجامعته وأعماله ليخط للآخرين معالم الطريق، ومرة أخرى يفكر سلمان، ويمعن التفكير، أما آن أن أقدّم شيئاً في سبيل الله، أما آن أن ألحق بمصعب وخباب وعمار؟

يستخير الله تعالى ثم يقول في نفسه شبيهاً بقول عمير بن الحمام"

بخ بخ.. أما بيني وبين الجنة إلا هذه الجامعة وشهادتها"،

ثم يقدم ويتقدم ليكون الشهيد في سبيل الله.

لقد جاءك الجواب يا مدينة حمص: سلمان هو الرائد، وهو المقدام، وتصيخ حمص وتُنصت ويتلقف الجواب بقية الشباب، وتكون من ثم المبادرات والبدايات.

كذلك كنت يا سلمان رائداً في التقوى، رائداً في التزام تعاليم الإيمان، فقد كنت الرائد الذي لا يكذب أهله، فقضيت شهيداً في سبيل الله.

أذرف الدمع لا بل اكفُفْنه     لا تقل مات إنه في الجنة

اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واحشرنا وإياه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً.

وسوم: العدد 683