( وألّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه نسلكه عذابا صعدا )
من المعلوم أنه من أعظم النعم التي أنعم بها الله عز وجل على الخلق نعمة الماء الذي جعل منه كل شيء حيّا . ويتكرر في القرآن الكريم ذكر هذه النعمة في مواضع كثيرة يمتن فيها سبحانه وتعالى على الناس هذه النعمة العظمى التي وهبها لهم في الدنيا ، وجعلها نعمة من نعم السعداء منهم في الآخرة .
ولقد أنزل الله تعالى هذه النعمة من السماء، وجعلها شرابا لهم ومغتسلا ،وأحيي بها الأرض بعد موتها لتخرج لهم من كل الثمرات تكون طعاما لهم ، وإن حياتهم لرهينة بهذه النعمة شرابا ، وطعاما.
ومعلوم أن كثيرا من الناس لا يقدرون هذه النعمة حق قدرها ، ولا يؤدون شكرها للمنعم جل وعلا إما جحودا وعنادا أو جهلا وغفلة أو تجاهلا ، وهو ما يكون سببا في حجبها عنهم لعلهم يرجعون عن كفرانها . ومعلوم أن حجب هذه النعمة يكون بمنعهم القطر الذي يكون سببا في القحط ، وفي شدة المئونة .
وعلاجا لهم من كفر نعمة الماء ، يتعطف الله عز وجل عليهم رحمة منه بهم ، فينصحهم بالإستقامة كما أمرهم ، ويجعل استقامتهم سببا في نزول المطر بعد انحباسه . ومما جاء في كتاب الله عز وجل في هذا الصدد قوله تعالى :
(( وألّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه نسلكه عذابا صعدا )) ، ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أن الله عز وجل جعل استقامة الناس جالبة للسقيا، وهي استقامة مشروطة بكونها على طريقة معلومة قوامها الاعتقاد الحق ، والسلوك الصالح كما أمر بذلك الله جل شأنه . ولقد وعد الله تعالى المستقيمين على الطريقة التي ارتضاها لهم بسقيا يكون ماؤها جما غزيرا يسقي حرثهم ، ويجري أوديتهم ، ويفجر عيونهم ، ويملأ آبارهم ، فيكثر الخير لديهم ، ويحيون حياة طيبة في رغد عيش وبحبوحته .
ويفهم من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة أيضا أن عدم استقامة الناس على الطريقة ، يكون سببا في انحباس القطر عنهم ، وحلول القحط ، وشدة المئونة ، وقد جاء تهديده سبحانه لهم بذلك ، في قوله : (( ومن يعرض عن ذكر ربه نسلكه عذابا صعدا )) ، ومعلوم أن الإعراض عن ذكر الله تعالى هو الانحراف عن الطريقة التي أمر بها ، وهو ما يجعل المنحرفين عنها يسلكون العذاب الصعد، وهو عذاب متدرج في الشدة إلى أن يبلغ أقصاها . ومعلوم أن انحباس القطر جزء من هذا العذاب الصعد الذي يكون مجاعة مهلكة هلاكا كبير ، وهو عذاب في الدنيا قبل عذاب الآخرة .
ومما يجعل الناس في غفلة عما توعدهم به الله عز وجل أنه سبحانه وتعالى يرسل السماء عليهم مدرارا وهم ناكبون عن الطريقة ، ويكون ذلك فتنة لهم مصداقا لقوله تعالى : (( لنفتنهم فيه )) ، حتى إذا ازدادوا انحرافا عن الطريقة أنزل بهم العذاب الصعد ،فتكون بدايته انحباس القطر ، ونهايته وخيمة العواقب .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير بما ذكر به الله عز وجل العباد في محكم التنزيل خصوصا ونحن نعيش فترة انحباس المطر عنا دون أن نستحضر السبب الذي ذكره الله تعالى ، وهو الانحراف عن الطريقة اعتقادا وسلوكا انحرافا فيه تجاسرا على شرع الله تعالى نهارا جهارا ، وهو تجاسر أصبح الناس يتنافسون فيه ، ويبتدعون منه ما لم يسبقوا إليه ، وقد فتنوا بذلك، وغرهم أن الله عز وجل لم يمنع عنهم القطر ، وهم على حال انحرافهم عن الطريقة ، وظنوا أنه لن ينزل بهم عذابه الصعد .
ولو كان الناس في هذا الزمان يلازمون معاشرة كتاب الله عز وجل لتنبهوا إلى تنبيهه سبحانه وتعالى لهم ، ووعيده لمن يتنكبوا الطريقة . وكان على الناس أن يراجعوا أنفسهم وقد مر من فصل التساقطات زمن معتبر دون أن يغاثوا لكنهم لم يفعلوا ولم يبادروا بذلك ، واستنكفوا حتى عن الاستسقاء ، والذي يجب ضرورة أن يكون مسبوقا بتوبة نصوح ، وتحلل من المعاصي المجاهر بها ، وهو السبيل الوحيد للعودة إلى الاستقامة على الطريقة استقامة معجلة بالسقيا .
ومعلوم أنه لا يكفي أن يستسقي الناس بألسنتهم ، وهم ناكبون عن الطريقة ، لأن الله تعالى اشترط في سقياهم الاستقامة عليها ، وليس مجرد الاستسقاء بألسنتهم لأنه من الضروري أن تسبق الاستقامة الدعاء بالألسنة . وقد يقول قائل إن الله تعالى أمر العباد بالتضرع ، وهذا أمر مطلوب لا نقاش فيه إلا أن التضرع الذي لا يسبق بتوبة نصوح واستقامة حقة على الطريقة لا جدوى ترجى منه .
وعلى الناس كلما استمر انحباس القطر أن يلوموا أنفسهم ، ويتهمونها ، ويراجعوا ما هم عليه من انحراف على الطريقة ، ومن إعراض عن ذكر ربهم .
اللهم يا ربنا أنت أعلم بما نحن عليه من نكوب عن صراطك المستقيم ، فتداركنا يا سيدنا بلطفك العاجل ، ورد بنا ردا جميلا إلى هديك ، وعجل لنا بتوبة نصوح بعون منك تعيدنا بها إلى الاستقامة على الطريقة التي ترضيك . اللهم إنا نبرأ إليك من معاصينا ، ومن سفهنا ، ونعوذ برحمتك من عذابك ، وبرضاك من سخطك . اللهم إنا نقر لك بذنوبنا ومعاصينا ، ولا ننكر منها شيئا، فعجل لنا مولانا الكريم بمغفرة وعفو منك ، ترفع به عنا غضبك وسخطك . اللهم إنا ندعوك بتذلل لك ، ونعوذ بك أن تعرض عنا بوجهك الكريم . اللهم إنا قد قصرنا في التوبة والإنابة ، فارحم ضعفنا ، ولا تؤاخذنا بسوء فعلنا .
اللهم أنا نضرع إليك تائبين مستغفرين، فعجل لنا بسقيا ماؤها غدق ، تنبت لنا به الزرع ، وتحيي لنا به الضرع . اللهم اسقنا غيث نافعا، ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسق عبادك وبهيمتك، وانشر رحمتك ، واحي بلدك الميت ، اللهم إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 967