( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا )
حديث الجمعة
لقد شاءت إرادة الله عز وجل أن تَبُثّ من ذكر وأنثى شعوبا وقبائل ،تتناوب على عمارة الأرض لآجال معلومة ، وقد نظم هذه الشعوب والقبائل تنظيما محكما، فجعل نواتها الصلبة الأسرة المكونة من ذكر وأنثى تنشأ عنهما ذرية . وما استقام أمر الشعوب والقبائل إلا بهذه النواة الصلبة ، وقد هيأ الخالق سبحانه وتعالى الظرف المناسب لهذه النواة كي تؤدي دورها المنوط بها ، فجعل بين طرفيها الذكر والأنثى مودة ورحمة مصداقا لقوله تعالى : (( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا وجعل بينكم مودة ورحمة )) ، وجعل فيهما رحمة تفيض على من ينتج عن علاقتهما من ذرية ، وحثهما على صيانتها كما حذر من التفريط فيها مصداقا لقوله تعالى : (( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا )) ، فهذه الآية الكريمة، تدل ضمنيا على الأمر بصيانة حياة الأولاد من خلال النهي عن قتلهم في أسوأ الأحوال كحال خشية الإملاق بله قتلهم في أحسنها .
ولقد اقتضت إرادة الله عز وجل أن تكون لأطراف الأسرة النواة حقوق وواجبات ، لهذا جعل الله تعالى حقوقا للأولاد في حال ضعفهم وهم صغار ، فأمر بصيانة حياتهم ، كما جعل للآباء والأمهات حقوقا في حال ضعفهم وهم كبار وعجزة ، فأمر أيضا بصيانتهم ، وبهذا ترتبت عن حقوق الطرفين واجبات تقابلها .
وإذا كان قتل الآباء والأمهات أولادهم في شرع الله عز وجل خطئا كبيرا أي كبيرة من الكبائر ، فإن ما يقابلها من الكبائر، هو مما يصدر عن الأبناء تجاه الآباء والأمهات من إساءة تسمى العقوق الذي ورد ذكره في قوله تعالى : (( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا )) ، ففي هاتين الآيتين من سورة الإسراء، قرن الله تعالى بين أمرين أمر بهما عباده ، وهما : طاعته وعبادته ، والإحسان إلى الوالدين . وكما أن معصيته سبحانه وتعالى كفرا أو شركا هي كبيرة لا تغتفر لقوله تعالى : (( إنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة ومأواه النار )) ، فإن من يعق والديه، له نفس المصير باعتبار ما قضاه الله تعالى من ألا يعبد إلا إياه، وبما قضاه من إحسان بالوالدين . ولما كان توحيد الله عز وجل هو ما يقابل إنعامه على الخلق ، فإن ما يقابل إحسان الآباء والأمهات إلى الأبناء هو إحسان الأبناء إليهم .
ومن بلاغة الآيتين في سورة الإسراء، أن الله عز وجل جمع فيهما بين الإشارة إلى الإحسان بالوالدين، وبين ما يقابله من إساءة إليهما أو عقوقهما . أما ما يدل على العقوق، فهو التأفف ، والنهر أو الزجر ، وأما ما يدل على البر، فهو القول الكريم الذي يكون غاية في اللين ، ثم الرحمة والدعاء لهما. ولقد جعل الله تعالى للعقوق مستوى أدنى وهو التأفف الذي يكون بكلمة تدل على التضجر ، ومستوى أعلى هو النهر أو الزجر ، كما جعل للبر مستوى أدنى وهو القول الكريم ، ومستوى أعلى هو الرحمة في أعلى درجاتها كما عبر عنها قوله تعالى : (( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة )) ، وقد أراد سبحانه وتعالى أن يبلغ الأبناء أقصى درجة الرحمة بآبائهم وأمهاتهم، تماما كما تبلغ صغار الطير أقصى درجة الذلة عندما تهاجمها الطيور الكاسرة ، على اختلاف بين ذلة الطير وذلة الأبناء في معاملة الآباء والأمهات ، ذلك أن الأولى تكون عن خوف ووجل ، بينما الثانية تكون عن شفقة ورقة ولين جانب .
ولقد اقترن أمر الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين بحال بلوغهما الكبر أو العجز عند الأبناء، لأنهما قبل بلوغ هذه الحال، يكونان غالبا في غنى عن إحسان الأبناء إليهما. وجعل الله تعالى الإحسان إليهما عند بلوغهما الكبر عند ابنائهما مقابل إحسانهما إلى أبنائهما في صغرهما ، ودل على ذلك قوله تعالى : (( وقل رب ارحمهما كما ربتاني صغيرا )) ، وهذا من باب رد الجميل على الجميل وفق قاعدة : (( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان )) . وكما يرد الخلق إحسان الخالق إليهم بتوحيده شكرا وحمدا على خلقهم ، ورزقهم ... ،لأنه سبحانه غني عنهم ، لا يحتاج ردهم بإحسان على إحسانه ، فإن عليهم رد إحسان الآباء والأمهات إليهم بإحسان مثله ،اعترافا بجميلهم مع حاجتهم إلى ذلك، وقد صاروا إلى ضعف كالذي كان عليه الأبناء في صغرهم .
ولقد وقف المفسرون عند كاف الخطاب في قوله تعالى : (( وقضى ربك )) ،فقال بعضهم إن الخطاب موجه إلى عموم الخلق ، وليس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،لأنه عليه السلام قد فقد أبويه وهو صغير ، لكنه أدرك ما سد مسدهما ممن ربوه صغيرا من قرابته ، وصار بذلك مأمورا هو الآخر بما أمر به الخلق وهو قدوتهم ، ووجب على الخلق أيضا ممن لم يدركوا آباءهم وأمهاتهم إسوة به أن يحسنوا إلى من تعهدهم بالإحسان في صغرهم .
ولقد جعل بعض أهل العلم الدعاء للآباء والأمهات أحياء وأمواتا واجبا ، وكان بعضهم يدعو لهم عقب كل صلاة ، علما بأن هذا الدعاء من أهل الصلاح يدون في صحفهم وهم أموات كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له "، وفي هذه الحديث الشريف أن دعاء الأبناء مع شرط صلاحهم للآباء والأمهات ، هو من الأمور الثلاثة التي لا ينقطع أجرها وأصحابها أموات .
ولقد أمر الله تعالى ببر الوالدين إذا بلغوا الكبر عند الأبناء برا سواء ليس بينهما تفاضل كما يفهم من الآيتين الكريمتين إلا أن أهل العلم استوقفهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله أحدهم عن أحق الناس بحسن صحابته فقال له : " أمك ، قال الرجل: ثم من ، قال : ثم أمك ، قال: ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال : ثم من ؟ قال: ثم أبوك " ، وقد فهم من تكرار رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن صحبة الأم ثلاثا تفضيلا لها على الأب ، واختلف العلماء في هذا الأمر، فرجح بعضهم تفضيل الأم على الأب ، وقال بعضهم بالتسوية بينهما في حسن الصحبة . وأثار بعضهم قضية أحدهم اختلف أبواها في أمر سفره حيث أمره الأب به ، ونهته الأم عنه ، فسأل الإمام مالك عمن يطيع منهما فقال له : " أطع أباك ، ولا تعص أمك " ، وفهم بعضهم من جواب الإمام مالك أنه أراد استئذن أمك فيما أمرك به أبوك ، وهذه النازلة طرحت مشكل طاعة الأبناء عند تناقض أوامر الأبوين ، فإن أمرا بما لا يرضاه الله عز وجل، فلا طاعة لهما أو لأحدهما ، فإن كان غير ذلك فليجتهد الأبناء في إرضائهما قدر المستطاع إلا أن ذلك لا يجب أن يؤثر في التفريط في برهما كما أمر الله عز وجل .
وقد يحتار بعض الأبناء في بعض ما قد يصدر عنهم من أقوال أو أفعال يريدون بها نصحا أورفقا وشفقة بآبائهم وأمهاتهم تقتضيها ظروفهم، إلا أن هؤلاء قد يعتبرونها تأففا أو نهرا زجرا ، ودفعا لهذه الحيرة يستحسن سؤال أهل العلم حين يصعب التعامل مع بعض طباع الآباء والأمهات عند كبرهم . ولا شك أن الله تعالى قد أشار ضمنيا إلى ذلك لأن التأفف لا يكون إلا مما يصدر من أفعال أو أقوال عن الآباء والأمهات أو يكون من أحوال ، وقد فقدوا القدرة على التمييز بين ما ينفعهم وما يضرهم ، الشيء الذي يصعب معه مجاراتهم في اخيار أو الميل إلى ما يلحق بهم الضرر، ويتعذر على الأبناء إقناعهم دون شيء من الصرامة التي لا يكون القصد من ورائها تأفف أو نهر أو قسوة ، كما يكون الحال على سبيل المثال عند رفضهم الطعام والشراب والدوام ، ويكون ذلك سببا في هلاكهم .
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو احتفال العالم بما يسمى عيد الأم أوعيد الأمهات ،الذي يصادف الواحد والعشرين من شهر مارس آذر، وقد ابتدعه قوم في العالم الغربي لما لاحظوه من تخلي بعض الأبناء عن أمهاتهم في الملاجىء ، فجعلوا هذا العيد تحسيا بهذا النوع الخطير من العقوق .
وقد يحتفل المسلمون بهذه المناسبة تقليدا للغرب، كما جرت عادة كثير منهم في تقاليد أخرى ، مع أننا في غنى عن ذلك إذا ما جعلنا كتاب الله عز وجل ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دليلين نتمسك بهما . ولما كان الأصل عندنا كمسلمين أن يبلغ الآباء والأمهات عندنا الكبر عكس ما هو الحال عند من ابتدعوا عيد الأمهات الذين ينزلونهن الملاجىء ، فإن عيدهن عندنا لا يقتصر على يوم واحد يكون فيه لفت أنظار الغافلين عن برّهن هم والآباء على حد سواء، بل كل يوم يمر علبنا، وقد بلغوا عندنا الكبر، هو عيد عندنا ، وكفى بوجودهم عندنا أكبر نعمة أنهم بها الله عز وجل علينا ، وطوبى لمن أنعم عليه بها.
والأجدر بالأمة المسلمة أن تقدم أمر ربها سبحانه وتعالى، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم على أمر غيره في التعامل مع الآباء والأمهات ، ففي أمرهما ما يغني عن أمر أو نصح غيرهما أو تقليد ما لا طائل من ورائه عند غيرنا من قبيل تخصيص يوم عيد للأمهات أو للآباء دون أن ينالهم بر من الأبناء أو يكون قصارى ما يقدم لهم باقة ورد كما يفعل البعض مع إصرار على عقوقهما .
اللهم بصرنا بعيوبنا آباء وأبناء على حد سواء ، ولا تجعلنا كآباء وأمهات نعق أبناءنا صغارا ، فيحملهم ذلك على عقوقنا إذا كبرنا وعجزنا ، واجعل اللهم الإحسان بيننا متبادلا ، وتجاوز عنا كل ما قد يبدر منا من إساءة أو عقوق لم نتعمده إن حصل منا شيء منه ، لم نلق له بالا عن غفلة أو سهو أو سوء تقدير أو جهل . اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا أحياء وأمواتا ، وجازيهم عنا خير ما تجازي به عبادك الصالحين ، واحشرنا معهم في جنتك بجوار مقام نبيك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .آمين يارب العالمين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1074