( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا )
حديث الجمعة :
من المعلوم أن الناس صنفان : صنف هداه الله تعالى إلى صراطه المستقيم ، فأقام دينه على الوجه الذي ارتضاه له ، وصنف ضل ، ولم يهتد إلى الاستقامة على صراطه وأعرض عن دينه تعاليا واستكبارا.
ولما كان كل مولود من بني آدم يولد على الفطرة ، وهي استقامة على صراط الله المستقيم ،لا يحيد عنها إلا بسبب سوء تربية يتلقاها عن والديه أو عمن يسد مسدهما في تنشئته ، فإن تنكب ذلك الصراط مرده أن الله تعالى يصرف الضالين عن الاستقامة عليه لسابق علمه بأنهم لن يهتدوا أبدا مهما جاءتهم من آياته الدالة على سبل الهداية والاستقامة على الصراطه المستقيم ، وذلك مصداقا لقوله تعالى في سورة الأعراف ، الآية 146 :
(( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا )) ، ففي هذه الآية الكريمة ، يذكر الله تعالى بعض أحوال وصفات الصنف الضالين من الناس ، فهم أهل كبر، واستعلاء، وتجبر في الأرض ، وذلك عن باطل معرضين عن الحق ، كما أنهم أهل عناد وإصرار على الباطل ، ولا تقنعهم أدلة الحق بسبب تشبثهم بالباطل ، وانصرافهم عن الرشد إلى الغي .
وقد يدور بأذهان البعض أن سبب ضلالهم هو صرف الله تعالى لهم عن الاهتداء إلى صراطه المستقيم ، والحقيقة غير ذلك ،لأنهم يولدون على فطرة التوحيد والاهتداء والرشد ، لكنهم يتلقون الكفر والضلال والغي عن غيرهم ضل قبلهم فيساهمون في تنشئتهم تنشئة ضالة عن الهدى ، فيترسخ لديهم الضلال والغي والإصرار عليهما ، وحينئذ يأتي صرف الله تعالى لهم عن الهداية والاستقامة على صراطه المستقيم، وذلك لسابق علمه سبحانه وتعالى بأنهم لن يتخلوا أبدا عما تربوا أو درجوا عليه من ضلال وغي ، ولن يفطنوا إلى آياته الهادية لهم وما ظلمهم جل في علاه ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون .
ولقد ذكرت كتب التفسير أن هذه الآية جاءت في سياق الحديث عن بني إسرائيل لما عصوا نبي الله موسى عليه السلام ، كما ذكرت أيضا أنها نزلت في كفار قريش. لما أعرضوا عن الإسلام . ولما كان القرآن الكريم هو رسالة الله عز وجل الأخيرة أرسلها إلى العالمين حتى تقوم الساعة ، وكانت العبرة بعموم لفظه لا بخصوص أسباب نزوله ، فإن ما جاء في هذه الآية الكريم يشمل جميع من ضلوا عن صراط الله المستقيم ، وانصرفوا عن سبيل الرشد إلى سبيل الغي في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة ، فهؤلاء يُصرفون صرفا ، ويُصدون صدا عن آيات الله عز وجل لاستكبارهم في الأرض بغير حق ، وهم على باطل ، وفي ضلال وغي لا ينفكون عنهما أبدا إلى أن يرحلوا عن هذه الدنيا وهم على تلك الحال .
وآية استكبارهم أنهم في حياتهم يحيون ، ويتصرفون ، ويتعاملون بالباطل في كل أحوالهم، وأقوالهم ، ومواقفهم ، ولا يتركون سبيل غي إلا سلكوه ، ودعوا إليه بإصرار وإلحاح كبيرين ، وهم معرضون عن الحق والرشد ، ويعادون كل من يدعوهم إليه ، ولا يفيد معهم نصح ، أو تذكير ، ولا تنفع معهم أدلة أو براهين أو حجج مهما كانت دامغة ومقنعة تبرهم على ما هم عليه من ضلال مبين .ويعقب الله تعالى بعد الحديث عن صرفهم عن آياته بقوله : (( ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين )) ، ففي هذا التعقيب بيان سبب صرفهم عن آيات الله عز وجل الذي هو التكذيب بها ،والغفلة عنها.
ولا بد من التبيه إلى أن المُصرفين عن آيات الله يكذبون بها ، وهؤلاء يكونون إما كفارا كفرا بواحا أو من أهل الملل والنحل الضالة كأهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين حرفوا ما أنزل إليهم ، أو كانوا من المنافقين الذين يبطنون الكفر ، ويظهرون الإيمان من أجل خداع المؤمنين ، فكل هؤلاء يشملهم صرف الله تعالى عن آياته في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه وتحذير المؤمنين من نقمة الصرف عن آيات الله ، وبئس النقمة . وبيان هذا التنبيه وهذا التحذير هو أن الوقوع في تقليد واتّباع الضالين المصروفين عن آيات الله تعالى ، والحذو حذوهم في أقوالهم وأفعالهم ،سواء كان ذلك عن وعي أو كان عن غفلة بحيث يكون سبب هذه الغفلة تقليدهم التقليد الأعمى، فيصرفون بدورهم عن آيات الله ، ويقضون أعمارهم في تلك الغفلة حتى يلقون ربه ، وأما الذين يتعمدون عن وعي وإصرار اتباعهم وتقليدهم ، ويرضون بذلك فهم منافقون.
ومن أشكال اتباع أهل الضلال وانحرافهم عن صراط الله المستقيم ، واتباع سبل الغي بتقليدهم في أقوالهم وأفعالهم ، ومواقفهم ، نذكر من ذلك على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر أقواما من المحسوبين على العلم والدعوة إلى الله عز وجل الذين أنكروا على المجاهدين الذين يجاهدون في سبيل الله بأرض الإسراء والمعراج ، ومن أجل تحرير بيت المقدس من دنس الصهاينة ، وصيانته من الهدم والتخريب جهادهم ، وقد أفتوا ببطلان جهادهم ، وحملوهم مسؤولية ما استحر من قتل في صفوف المؤمنين في أرض فلسطين المحتلة على يد الصهاينة المجرمين الذين يمارسون عليهم كل أنواع الظلم من تقتيل، وإبادة جماعية ، وتهجير قسري ، وتجويع ، وأسر وتعذيب ، واغتصاب .... وما لا يعلمه إلا الله تعالى مما خفي ، ولم تصوره عدسات المصورين .
ومعلوم أن الذي حمل هؤلاء المحسوبين على الدعوة والعلم الشرعي على بخس جهاد المجاهدين هو تملقهم حاكمهم الذين قصروا في حق واجب ديني يلزمهم شرعا بإغاثة من يتعرضون للإبادة الجماعية على يد الصهاينة العنصريين والمجرمين . وعوض أن يقوم هؤلاء المحسوبين على العلم والدعوة بإسداء النصح لولاة أمورهم ، وحثهم على دعم المجاهدين ، وإنقاذ المستضعفين من الولدان والنساء والشيوخ على غرار دعوات الصادقين من العلماء الدعاة المخلصين ، فإنهم فضلوا السكوت على تقاعسهم ، وشجعوهم على ذلك بل زينوه لهم مع أنهم بموجب ما آتاهم الله تعالى من سلطان لزمهم الجهاد في سبيله ، ومن أجل تخليص المسجد الأقصى من الأسر والتدنيس ، والتهديد بالهدم . إنهم دعاة ضلال يتملقون أصحاب السلطان طمعا في رسوم تدفع لهم ، وخوفا من بطشهم ونقمتهم كما حصل لكل من صدق معهم في النصح لله ولكتابه ، ولم يقبلوا منهم نصحا بل عاقبوهم على ذلك ، وزجوا بهم في السجون والمعتقلات الرهيبة .
وإنه ليلزم العلماء والدعاة المترسمين كما سماهم أبو حامد الغزالي في مقدمة كتابه إحياء علوم الدين أن يعجلوا بتوبة نصوح وألا يجعلوا الخوف من الخلق كخشية الله تعالى أو فوق خشيته . وعليهم أن يخشوا يوما يردون فيه إليه ، علما بأن معظمهم لم يبق بينهم وبين رحيلهم عن هذه الدنيا الفانية سوى أيام معدودات .
اللهم إنا نعوذ بك من أن نُصرف عن آياتك أو نستكبر في الأرض بغير الحق أو نتخذ سبيل الغي سبيلا أو نكون من الغافلين عن آياتك . اللهم إنا نسألك الثبات على دينك ، وعلى صراطك المستقيم ، وأهمنا سبيل الرشد .
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في فلسطين نصرا تعز به دينك ، وتعلي به رايته . اللهم وانصر من نصرهم ، واخذل اللهم من خذلهم ، وعجل اللهم بهلاك أعدائك وأعدائهم الصهاينة المجرمين، و بهلاك كل من والاهم من كفار ومنافقين ، وأرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك وقد طغوا في الأرض ، وأكثروا فيها الفساد، فصُب اللهم عليهم سوط عذاب .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1102