( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون )
حديث الجمعة :
من المعلوم أن الله عز وجل لمّا أسكن بني آدم الأرض ليبلو المحسنين والمسيئين فيها ،جعل من سننه الكونية التي اقتضاها الابتلاء صراع بين ثنائية الخير والشر، وهما نقيضان يستهوي كل واحد منها طائفة من البشر إلى قيام الساعة حيث يكون جزاء كل طائفة بما كسبت من خير أو من شر . ولهذا لا يستغرب وجود أشرار من البشر عبر تاريخ البشرية الطويل، لأن ذلك من سنن الله تعالى في خلقه ، وفي ملكوته .
ومعلوم أن مصدر الشر هو المخلوق الشرير إبليس اللعين الذي عصى ربه سبحانه وتعالى معصية كِبْر برفضه السجود لآدم عليه السلام . ولما طرد من رحمة الله عز وجل، طلب من ربه سبحانه وتعالى أن يُنْظِره إلى قيام الساعة ، فأنظره جل شأنه ، فأقسم بعزته أن يغوي يني آدم انتقاما منهم ، وجعل وسيلة إغوائهم تزيين الشر لهم ، وتسويقه بينهم ، ليكون سبب الصراع بينهم إلى قيام الساعة .
ومن رحمة الله تعالى بالبشر أنه اصطفى منهم رسلا وأنبياء كراما صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وأوحى إليهم بما يصونهم من كيد إبليس اللعين . وكان هؤلاء الرسل والأنبياء يشيعون الخير بين الناس لمواجهة الشر الذي يشيعه بينهم الشيطان الرجيم ، وهكذا صار الناس عبر التاريخ طائفتين ،طائفة خيّرة وأخرى شريرة ، وبينهما صراع لا ينتهي إلا بقيام الساعة .
ولقد قص علينا القرآن الكريم ، وهو آخر رسالة للعالمين ختمت بها الرسالات ، والمنزلة على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أخبار الأمم السابقة ، والتي منها أخبار الصراع بين خيار الناس وشرارهم .
ومن حكم الله تعالى أن خيار الناس كانت دائما أعدادهم قليلة عبر تاريخ البشرية الطويل، حين كان يبعث فيهم رسلا وأنبياء يدعونهم إلى الخير ، بينما كانت الكثرة الكاثرة منهم يستهويهم الشر الذي يزينه لهم إبليس اللعين، خصوصا عندما يطول عهدهم بأباطيل اعتادوا عليها ،وكانت هي سبب كفرهم وشركهم بالله تعالى حيث عبدوا بأهوائهم الأوثان والأصنام ، وترتبت عن ذلك شرور كثيرة في حياة البشر .
ولقد عانى رسل وأنبياء الله صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، هم ومن آمن بهم من شرور الكفار والمشركين في كل زمان ومكان ، وكانوا يتعرضون لشتى أنواع الأذى ، فيقتّلون ، ويهجّرون. وكانت الحروب تنشب بين الفريقين ، وكان وعد الله الناجز هو انتصار أهل الإيمان على أهل الكفر والشرك على ما كانوا عليه أحيانا من قلة وذلة بالمقارنة مع كثرة الكفار الكاثرة .
ولقد كان دأب الكافرين والمشركين أن يتخذوا لهم رؤساء من ذوي السلطان والطغيان ، والجاه ، والمال يأتمون بهم ، ويقتدون بهم ، ويتلقون منهم الأوامر من أجل إلحاق الأذى بالمؤمنين . وكان هؤلاء من الطغاة الجبابرة الذين ذكر الله تعالى في كتابه الكريم نماذج منهم مرت عبر التاريخ كالنمرود، وفرعون ،وهامان ، وقارون ... وغيرهم ، وكلهم انتقم منهم سبحانه وتعالى ، وجعلهم عبرة للعالمين ، ومما ورد في شأنهم قوله عز من قائل : (( وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون )) ، ففي هذه الآية الكريمة الثالثة والعشرين بعد المائة من سورة الأنعام ،أشار سبحان وتعالى إلى أن إصرار الكفار والمشركين عبر التاريخ على ضلالهم هو سبب مكر أكابرهم الذين كانوا يمكرون بالدهماء من أقواهم ، ويسوقونهم كما تساق قطعان الأنعام .
إن هؤلاء الطغاة صرفهم الله تعالى عن سبيل الهداية لعلمه المسبق بأنهم لن يهتدوا أبدا بالرغم من كثرة الأدلة على استقامة تلك السبيل، وانحراف سبل الضلال .وهذا الصرف هو جَعْلٌ من الله عز وجل جعله في كل القرى والحواضر في المعمور بحيث يسود فيها أكابر مجرمين ، وأشدهم إجراما ، ويكون شغلهم الشاغل هو المكر بأهل الإيمان رسلا وأنبياء ومؤمنين ، وينصب مكرهم على صرف العوام أو الدهماء من قومهم عن سبيل الهداية من خلال الافتراء على المهتدين ، والتحذير المغرض منهم ، وذلك من أجل ضمان السيادة للضلال الذي لهم فيه مصالح ، وعلى رأس تلك المصالح المادية منها ، فضلا عن الرغبة في الجاه والسلطان الذي بينه وبين المصالح المادية وشيجة، بل هما المطية إلى تحصيل تلك المصالح التي تكون غالبا مكشوفة وصارخة ، ولا غبار عليها . ومعلوم أنه يترسخ في اعتقاد أكابر المجرمين في بيئاتهم وفي كل زمان أنهم يتميزون عن غيرهم بقوة الذكاء والحذق ،لذلك يمررون مكائدهم على الدهماء ، ويحملونهم بذلك على الاقتداء بهم في ضلالهم كما أشار إلى ذلك رب العزة جل جلاله وهو يخبر عن استخفاف الطاغية فرعون بقومه الذين أطاعوه في ضلاله حيث قال : (( ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أمَ أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين )) . إن مكر فرعون بدهماء قومه كان عبارة عن استخفاف أو استهانة بهم ، واحتقارهم لجهلهم وغفلتهم ، وقصور عقولهم ،وضيق آفاق معرفتهم ، لهذا عمد إلى مقارنة لا يحكمها منطق سليم إذ رفع من قدره فوق قدر نبي الله موسى عليه السلام معتمدا على ما كان بحوزته من متاع الدنيا الزائل ، مع أنه لا مجال للمقارنة بين نبي بعث لهداية الناس في زمانه رحمة بهم ، و بين طاغية يدعوهم إلى الضلال المبين مستهينا بهم وبعقولهم . ولقد عزا الله تعالى سبب انصياع قوم فرعون لمكره إلى فسوقهم واستعداد هم للانصياع إلى صوت الضلال
ولقد جاء في كتب التفسير أن سبب نزول آية مكر أكابر مجرمي القرى التي منها مكة المكرمة زمن نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو تسليته عليه السلام عما كان يواجهه من مكر أكابر مجرمي قريش، لأنه لم يكن بدعا من الرسل إذ واجهه قومه بالتكذيب حين بعث فيهم كما كذب غيره من إخوانه المرسلين ، ومع هذه التسلية أيضا بشارة له بأن مكر الماكرين به إنما هو في حقيقة الأمر مكر بأنفسهم ولكنهم لا يشعرون، وذلك لركوبهم غرورهم ،ولاعتقادهم الذكاء، والدهاء ،والفطنة ،والشطارة بأنفسهم .
ولما كانت العبرة بعموم لفظ كتاب الله عز وجل، لا بأسباب نزوله ، فإن إخبار الله تعالى بجعله أكابر المجرمين في القرى ليكيدون فيها بالدهماء ويصرفونهم عن الهداية والحق ، و ذلك نكاية في المؤمنين ، إنما هو في الحقيقة كيد بأنفسهم دون شعور منهم بذلك ، فإن مضمون هذه الآية ينسحب على كل زمان، وعلى كل مكان إلى قيامة الساعة . وكما سلى الله تعالى رسوله صلى الله عليه بهذه الآية وبشرها فيها ، فإنه جعلها تسلبة لعموم المؤمنين في كل الأزمنة والأمنكة ، كما جعلها بشرى لهم تبشرهم بأن مكر أكابر المجرمين في بيئاتهم إنما هو حائق بهم لا محالة مهما بلغ مكرهم وعدوانهم، وظلمهم ، وطغيانهم ، واستبدادهم .
ولقد كانت لأكابر المجرمين السابقين فنون وأساليب متعددة من المكر السيء ، ومنها التهديد بقتل الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أو تهجيرهم من أوطانهم ، ونفس المكر كانوا يمكرونه بالمؤمنين ، وسيبقى هذا دأبهم ليحيق بهم مكرهم إلى يوم الدين . ولقد أخبر الله تعالى رسول الكريم صلى الله عليه وسلم بمكر أكابر مجرمي قريش فقال : (( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين )) .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بمكر أكابر المجرمين الذي يحاربون دين الله عز وجل ، ويحاربون عباده المؤمنين في كل زمان و في مكان إلى قيام الساعة . ولا يخلو زماننا هذا من مثل هؤلاء كما هو شأن الصهاينة وحلفائهم الصليبيين المتصهينين الذين يمكرون بالمؤمنين في كل أنحاء المعمور خصوصا المؤمنين المرابطين في أرض الإسراء والمعراج ، وأرض المسجد الأقصى وأكنافه ، وهم يركزون إما على تصفيتهم ظلما وعدوانا أوعلى تهجيرهم من موطنهم قسرا ، وهم يعبرون عن ذلك تصريحا لا تلميحا مموهين عن مكرهم الخبيث بذرائع واهية يستغفلون بها عوام المسلمين إلا أن وعد الله برد كيدهم في نحورهم ناجز لا محالة ، ولهذا يجب على المؤمنين أن يثبتوا على يقينهم بالله تعالى ، وبوعده الذي لا يخلف ، وأن يبذلوا كل ما في وسعهم لدعم إخوانهم في أرض الإسراء والمعراج دعما لرباطهم في سبيل الله ، وتفويتا لفرص كيد أكابر المجرمين الطغاة الذي يكيدونه لهم بما في ذلك تصفيتهم أو تهجيرهم من وطنهم التهجير القسري . ويجب أن يكون ذلك الدعم عن إيمان راسخ ،وعن يقين لا يتزعزع قيد أنملة بأن ذلك من الجهاد في سبيل الله ، ومن أجل المسجد الأقصى المبارك ، وعن ثقة كبيرة بما وعد الله تعالى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، وبما وعد به عباده المؤمنين الصادقين المرابطين والمجاهدين في سبيله .
اللهم إنا نسألك يا قوي يا عزيز كما جعلت كيد أكابر مجرمي قريش في نحورهم أن تجعل كيد أكابر مجرمي هذا الزمان الصهاينة والصليبيين في نحورهم ، وأن تعلي راية دينك في أرض الإسراء والمعراج كما وعدت بذلك في محكم كتابك، لأنك لا تخلف الميعاد، وإنك سبحانك فعّال لما تريد ، وإنك على كل شيء قدير ،وإنه لا يعجزك شيء في الأرض، ولا في السماء سبحانك جل جلالك وعظم ثناؤك لا إله سواك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1115