أحزان حفصة
حفصة بنت سيرين البصرية العراقية:
تابعية عالمة عاقلة عابدة بكاءة.
أبوها سيرين كان عبدا لأنس بن مالك، وقد افتدى نفسه بالمكاتبة.
وأمها صفية مولاة أبي بكر الصديق، وقد طيبها ثلاث من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وحضر إملاكها ثمانية عشر بدريا، فيهم أبي بن كعب يدعو وهم يؤمنون.
قرأت حفصة القرآن وهي ابنة اثنتي عشرة، وماتت وهي ابنة تسعين.
ومكثت في مسجد بيتها ثلاثين سنة لا تخرج إلا لحاجة، أو لقائلة(نومة الظهر).
وكان إذا أشكل على أخيها الإمام محمد بن سيرين شيء من القراءة قال: اذهبوا فاسألوا حفصة...
وكان لها ابن بار حنون حفي وفي، اسمه (الهذيل)...
ومن بره وحنانه هذه الصورة الجميلة:
كانت له ناقة حلوب غزيرة الحليب، فإذا كان الصباح حلبها وأرسل بالحليب إلى أمه فتقول له: يا بني إنك لتعلم أني لا أشربه، أنا صائمة.
فيقول لها:
يا أم الهذيل إن أطيب الحليب ما بات في ضروع الإبل... اسقيه من شئت.
وكانت حفصة تصوم الدهر، وتفطر العيدين، وأيام التشريق.
وكان من شأن الهذيل -فيما تحدثت عنه أمه- أنه كان يجمع الحطب في الصيف فيقشره، ويأخذ القصب فيفلقه.
وكانت حفصة تتأثر بالبرد، فإذا جاء الشتاء جاء بالكانون فيضعه خلفها وهي في مصلاها، ثم يقعد فيوقد بذلك الحطب المقشر والقصب المفلق وقودا يدفئها، و لا يؤذيها دخانه، وتقبل هي على صلاتها بخضوع وخشوع وسكينة...
ويمكثان على ذلك ما شاء الله...مع أن لديه خدما يكفونه ذلك لو أراد.
تقول أمه:
وربما أردت أن أنصرف إليه وأقول له: يا بني ارجع إلى بيتك وأهلك، ثم أذكر أنه يريد بذلك التقرب ببري إلى الله فأدعه قاعدا عندي...
وقدر الله أن يموت (الهذيل)، وكان فقد ابن مثله فاجعة تنهد لها قوة الأم مهما تماسكت وتجلدت وتصبرت،
ولكن الله أعان حفصة، ولطف بها...
وتقول هي في ذلك:
(لما مات الهذيل رزق الله عليه من الصبر ما شاء أن يرزق، غير أني كنت أجد غصة لا تذهب).
ولا بد أنها كلما جاء الشتاء، وطال ليله، واشتد برده، افتقدت الهذيل، وأنسه، ولطفه، وحنانه، وما كان يصنعه لها وهي مقبلة على صلاتها وتلاوتها وتسبيحها...
وشاء الله الرحمن الرحيم أن يكرمها بما كانت تتلوه من القرآن -وكانت تقرأ نصف القرآن كل ليلة-
تقول حفصة:
(كنت أجد على "الهذيل" غصة لا تذهب، فبينما أنا ذات ليلة أقرأ سورة النحل إذ أتيت على هذه الآية:
((ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إن ما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون
ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعلمون)).
فأعدتها، فأذهب الله ما كنت أجد).
وفي القرآن نور وشفاء، وتسلية وعزاء...
وقد يقرأ القارىء الآية ولا يحس بأبعادها، ورشادها، ثم ينقدح منها في قلبه فجأة ضياء، يذهب بعتمة الحزن والانكسار...
وهذا ما حصل لحفصة -فيما يبدو- تلك الليلة التي قرأت فيها هذه الآيات الكريمة التي ينبعث منها عطر حنان الرحمة الإلهية الواسعة بعباده المصابين الصابرين...
فيا قلوبا كسرها الحزن:
ويا أرواحا سكنها الشوق إلى فقيد:
ويا نفوسا لوعها الوجد براحل عزيز:
رددي قول أصدق القائلين:
((ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون))...
وكفى بذلك سلوة وعزاء...
رحم الله حفصة ورحم الهذيل
ولطف الله بكل ثاكلة وثاكل من المسلمين...
وما أكثرهم اليوم في العالمين...
وقالوا: (كانت حفصة تسرج سراجها من الليل، ثم تقوم في مصلاها فربما طفئء السراج فيضىء لها البيت حتى تصبح).
ولا ندري فلعل الله كان يؤنسها بهذا النور بعد رحيل ابنها وأنيسها "الهذيل"....
وسوم: العدد 627