حمد اللسان أم حمد الكيان

حمد اللسان أم حمد الكيان

أحمد جمال الحموي

عضو مؤسس في رابطة أدباء الشام

اللهم لك الحمد من أعماق الأعماق، على ما أوليتنا من نعم، وغمرتنا به من جود وكرم، حمداً ممزوجاً بالإجلال والتعظيم، والحب الخالص من شوائب الدنيا وشهواتها الرخيصة الفانية.

حمداً تنطق به ذراتنا كلها في تتابع اللحظات التي يعز مع دقتها وصغرها الحساب، ويصعب الإحصاء والكتاب. وشتان شتان بين أن يكون الحمد كلمة يرددها اللسان، وبين أن يكون فيضاً غامراً يجتاح الكيان ولا يقف عند حدود الجَنان.

إن مِنَ الناس مَن يسبح بحمده أفراد أو مجموعة مهما كثرت فهي قليلة محدودة، يفعلون ذلك جهلاً أو نفاقاً، ثم لا يلبث الصنم ومن سبح له أن يمضوا إلى حيث لا رجعة ولا إياب، وبعد هذا لا يُذكر ولا يُذكرون إلا بالخزي والعار الذي يجللهم ويحيق بهم فلا يجدون منه مهرباً ولا عنه محيصاً.

لكن أنت وحدك يا ربنا يسبح لك كل شيء، يسبح لك من يعقل، ومن لا يعقل في عرفنا ومدى علمنا، فأية أعداد هذه؟ وهل يستطيع أحد أن يتخيل مقدارها وحجمها؟.

نعمْ يسبح لك كل شيء، ولا يشذّ عن ذلك شيء منذ أوجدت الأشياء –بعد أن لم يكن معك شيء- وعلى امتداد الآتي الذي تحيط بعلمه، وليس لنا نحن الضعفاء أن نحيط به بل ليس لنا أن نعلمه بظاهر من العلم أو أثارة منه.

فسبحانك في كل وقت وحين، وسبحانك ممسانا وصباحنا، وغدوتنا وعشينا!

سبحانك ما أكثر المسبحين لك والحامدين لفضلك ونعمائك، إنها الحقيقة الخالدة:

(وإنْ من شيء إلا يسبح بحمده).

ولكن لا نفقه تسبيحه، وأي ضيرٍ في ألا نفقه التسبيح، أليس التسبيح لك وأنت السميع العليم، تسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الملساء، في الليلة الظلماء، لا يغلّطك كثرة اللغات ولا تعدد الألسن واللهجات، ولا تنوع الأساليب وطرائق البلاغة والخطاب.

 رباه كيف يكون حال الناس لو كُشف عنهم الحجاب فرأوا هذا الكون بمجراته وذراته هائمة في الآفاق غير أنها لا تند عن قبضة قدرتك وهي تعزف أنشودة التسبيح والتمجيد، كل منها يعزف نشيده بلسانه، مختاراً إيقاعه وألحانه، وإذا بالكون كله تتجاوب أركانه بنشيد الخلود في نغم لا يُدانيه عناء الهزار في روض العرار، ولا تغريد البلابل على أيكة ملتفة الأغصان وارفة الظلال، فهل يا ترى يطيق القلب روعة هذه الأنغام العلوية، وعذوبة هذه الألحان الشجية القدسية، أم أنه يتصدع لجلال الموقف أو يذوب بفتنة الجمال وسحرها الحلال وروعتها الآسرة الحبيبة، فتتوقف الحياة مشدوهة وقد أذنت لهذا المزيج العجيب من لحن الخلود.

اللهم لك الحمد مترعاً يفيض كالنبع الزلال، ولك الحمد يسري في العروق مع الدماء، ويواكب الأنفاس أو يسبقها ويتجاوب مع دقات القلب أو يغلبها، ويتراقص مع دوران الكهارب حول النواة فإذا الجسد كله لسان ناطق، بل يتخطى التسبيح هذا إلى الروح، وهي من أمرك فتغشانا السكينة بفيضها المؤنس الغامر، وتلفتنا إلى أن الحمد نعمة من نعمائك توجب الحمد والشكر، فإذا ألهمناهما كان ذلك نعمة منك تستحق حمداً وشكراً، فإذا فعلنا نكون قد أكرمنا بنعم جديدة تستحق، كالتي قبلها، صافي الحمد وخالص الشكران.

وهكذا تتوالى حلقات هذه السلسلة المباركة دونما انقطاع، حمد يستوجب حمداً، وشكر يستوجب شكراً، فأنى للعباد المحدودين الضعفاء أن يدركوا حلقات هذه السلسلة المترامية العجيبة، التي تزيد الواجب كلما طالت وامتدت.

فيا ربنا لك الحمد –نقولها مقرين بالعجز والتقصير- لك الحمد على نعمك التي لا تحصى ولا تعد، يا من غمرتنا بإحسانك، وأحطتنا بلطفك، وكلأتنا بعين عنايتك وحفظك، ألم تقدّر لنا الإيمان قبل أن نوجد أو نكون، من غير قول قلناه، أو عمل صالح قدمناه، ثم حفظتنا ورعيتنا ونحن نرتقي مدارج التكوين في ظلمات الأرحام، ثم بعد أن برز الجسد من عالم الغيب، إلى عالم الشهادة ورحنا نقطع مراحل هذه الحياة، فما الذي أسديناه لك قبلاً؟ يا من لا تنفعك طاعات المطيعين، ولا تضرك معاصي الآثمين المجرمين.

كيف نفعل إذا كان الحمد نعمة تقتضي أن نحمدك، فكلما حمدناك تعاظمت النعم التي تستدعي الحمد، فلا غرو أن نعلن العجز عن توفية حقك فيما تلهمنا من نعمة الحمد وحدها، وما الحمد إلا نعمة من نعمك الكثيرة الوفيرة، وإنّ النعمة الواحدة لا نستطيع أن نعرف ما تنطوي عليه من نعم

(وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها)

فإذا كان عدّها في نعمة واحدة مجرد العد يُعيينا، أفنقدر على الشكر والحمد على النعم.

إلهنا وسيدنا ما العمل، يا ربنا ما السبيل، وما المخرج؟

نعوذ بك منك، أنت العليم الرحيم، رضيتَ منا وسعنا، وهو دون حقك لطفاً وكرماً، فلك الحمد على هذا وغيره من الألطاف والمنن والعطايا، يا عالماً بضعفنا.

وصلاتك ربي وسلامك على صفوة خلقك سيدنا محمد حيث قال:

(يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).

إلهنا لك الحمد أن وفقتنا لطاعتك، وأقمتنا في خدمتك فيما سلف من أيام.

ولك الحمد أن بلغتنا شهر رمضان، شهر الصبر والرحمة والمغفرة والعتق من النار، وشهر الجهاد ومعارك الظفر والنصر، ولعل الكريم يجود علينا بنصر من عنده:

(وما النصر إلا من عند الله).

معاملة منه سبحانه لعباده بلطفه وبما هو أهله، لا بما هم أهله.

إنه لشرف لنا أن يقبلنا الملك في عبيده، وأن يرتضينا في موكب السائرين في طاعته، وإنه لمن فضل الله علينا وعلى الناس أن يبلغنا موسماً للقرب من جنانه والزلفى إلى بابه وأعتابه، وأن يتيح لنا أن نشهد أسواق الإيمان عامرة، ينادى فيها على سلعة غالية لكنها زينت وبذلت للمحبين وفتحت أبوابها للمخبتين في موسم التوبة، قد قام على قدم وساق.

لله أيامك ولياليك أيها الشهر الكريم!

ما هي إلا دواء الأنفس.

ورياض القلوب.

ونزهة الأرواح.

إنها ليالي أفراح المؤمنين.

وأعراس التائبين الآيبين:

(قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).

يا ربنا أعنا على صيام هذا الشهر وقيامه.

واجعلنا من عتقائه.

وزدنا فيه قرباً منك.

ومحبة لك.

ولنبيك صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.