المائق رواية للفتيات والفتيان
ملاحظة: الأسماء الواردة في هذه الرّواية خياليّة، وإن وُجد أحدها على أرض الواقع فهو محض صدفة.
ولد يا صفيّة
جلس شيخُ العشيرةِ ساعةَ حسابٍ مع الذّات، استعادَ خمسةً وعشرين عامًا من ذاكرتِه، عندما أنجبتْ زوجتُهُ ابنَهُما البكر ماجد، أقامَ الأفراحَ وحفلاتِ السّهر لِمُدَّةِ شهرٍ قمريٍّ كامل، ذبحَ فيها عشراتِ رؤوسِ الأغنامِ احتفاءً بالمولودِ الجديد، عدا عن حِوارٍ ذبحَهُ عقيقةً فورَ أنْ أطلقَ المولودُ صرختَهُ الأولى، عندما خرجَ من رحْمِ والدَتِهِ، خرجتِ الحاجّةُ معيوفةُ مسرعةً تقولُ لشيخِ القبيلةِ والزّغاريدُ تنطلقُ من بيتِهِ كزخّات المطر:
البشارة يا شيخُ، أنجبتْ صفيّةُ ولدًا ذكرًا، وجهُهُ يُشِعُّ نورا كالقمر البدرِ، ما شاء اللهُ نسخةٌ طِبْق الأصلِ عنكَ.
استندَ الشّيخُ مسعود في جلستِهِ، برمَ شاربيهِ وقالَ وبسمةٌ تعلو ثغرَهُ:
حيّاكِ اللهُ يا معيوفة، بِشارتُكِ "خِرْقَةٌ" بيضاءُ و"سَفَطُ حلاوة". والتفتَ الشّيخُ إلى مَنْ يسامرونَهُ من أبناءِ العشيرةِ في ديوانِه -كما هي العادةُ-، والتّهاني تنطلقُ من أفواهِهم للشّيخِ بوليّ عهدِه. وقالَ لِرُعاةِ ماشيتِهِ:
انحروا الحوارَ ابنَ النّاقةِ "الجَهماءَ" عقيقةً لماجد، واذبحوا عشرةَ كباشٍ قِرًى لأبناء العشيرةِ؛ الّذين يسكنونَ في مضاربِنا، وغدًا اذبحوا عشرةَ خرافٍ أمام مقامَ النبّيّ موسى -عليه السّلام-، واطبخوها قِرًى لِزُوّارِ المقام، فنحن جيرانٌ للمقامِ، وحقُّ الجارِ على الجار.
استمرّتِ الأفراح أسبوعًا كاملًا، تبدأُ النّساءُ الأغانيَ والرّقصَ في بيتِ الشّيخِ بعدَ غروبِ الشّمسِ مباشرةً، بينما يقيمُ الرّجالُ السّامِرَ بعدَ أنْ يؤدّوا صلاةَ العشاءِ في مسجدِ مَقامِ النّبيّ موسى -عليه السّلام-.
يجلسُ شيخُ العشيرةِ في صدرِ الدّيوانِ، تتدلّى على كتفيه عباءَتُهُ، الّتي أتى بها أحدُ شيوخِ بني حسن في محيطِ مدينةِ الزّرقاء في الأردنّ من المدينة المنوّرةِ قبل عامين، عندما أدّى فريضةَ الحجّ، وأهداها للشّيخ مسعود أبي ماجد. وقد كنّاهُ ربْعُهُ ومعارفُهُ بـ "أبي ماجد" منذ ولادتِه، فماجدُ اسمُ أبيه، وها هو ماجدُ الابن الذي يحملُ اسمَ جدّهِ لأبيه قد جاءَ. يجلسُ الشّيخُ واضِعًا سيفَهُ أمامَهُ على الفِراشِ، في حين يبقى سيفٌ آخرُ معلّقا على واسطِ بيتِ الشَّعَرِ، الذي هو ديوانُ ومضافةُ الشّيخِ. فالعباءةُ والسّيفُ من متطلّباتِ المشيخة! وتُضفي على الشّيخِ مهابةً تُضافُ إلى هيبةِ المشيخةِ المتوارَثَة.
توافدَ شيوخُ عشائر أخرى ووجهاءٌ من المدنِ والبلداتِ الأخرى؛ لِيُقدِّموا التّهانيَ للشّيخِ مسعود بمولودِهِ ووليِّ عهدهِ ماجد، وما أن يَصِلَ أحدُ المهنّئينَ مضاربَ الشّيخِ حتّى يقومُ أحدُ الخَدَمِ بذبحِ خروفٍ قِرًى للضّيف، وهكذا ضيوفٌ لا يُذبَحُ لهم جَدْيٌ، فالجديُ يُذبحُ عادةً للضّيوفِ العاديّين. وعندما يكونُ الضّيفُ مُمَيّزًا، كأن يكون شيَخَ حمولةٍ أو عشيرةٍ، أو رأسَ عائلةٍ مدينيّةٍ مشهورًا، فإنّ الشّيخَ أبا ماجد هو من يذبحُ الخروفَ بيدِهِ، ويتركُهُ لغيرهِ؛ كي يسلخَهُ ويُقَطِّعَهُ، ومن بابِ تكريمِ الضّيفِ؛ وكي يعرفَ أنّ ذبيحتَهُ خروفًا، فإنّ "الِّليّةَ" تُقطّعُ وتوضعُ فوقَ اللحمِ على المنسف.
صفيّة
عندما خرجَ المولودُ من رحمِ أمِّهِ مُطْلِقًّا صرختَهُ الأولى، لقفتْهُ زبيدةُ جدّتُهُ لأمّهِ، وقالتْ فَرِحَةً:
ولد يا صفيّة. وأطلقتْ زغرودةً أوحتْ للشّيخِ مسعود بأنَّ المولودَ ذكرٌ، فقد جرتِ العادةُ أنْ لا أحدَ يُزغردُ للبنات.
أمّا صفيّة ورغمَ آلامِ المخاضِ، فقد ارتسمتْ ابتسامةٌ عريضةٌ على شفتيها، حمدلتْ والنّساءُ يُمسكنَها من تحتِ إبطيها يساعدنها على التّمدّدِ على فرشةٍ من الصّوفِ، غفتْ وهي تُحمدِلُ شاكرةً اللهَ، الذي وهبَها هذا المولود، الّذي سينشأُ شيخًا ابنَ شيخِ، حفيدَ شيخَين، ما دام هو الابن البكرُ للشّيخ. كتمتْ ضحكةً عندما دار في رأسِها أنّها بنتُ شيخٍ وزوجةُ شيخٍ ووالدةُ شيخ، وهذا ما حلمتْ به أثناءَ نومِها، فاستيقظتْ ضاحكةً، ممّا دفعَ الحاجّةَ معيوفة؛ لِتَسألَها عن سببِ ضحكها. فالتفتتْ إليها ولم تُجبْها، واكتفتْ بجواب والدتِها التي قالتْ:
يحقُّ لها أن تضحكَ فهي الآنَ بنتُ شيخٍ- رحم الله أباها-، وزوجةُ شيخٍ وأمُّ شيخٍ.
فأكّدتْ الحاجّةُ معيوفة ذلك قائلةً:
نعم هذا صحيحٌ فهي شيخةٌ من سُلالةِ شيوخٍ، وها هي تنجبُ شيخًا وهو في مهدِه.
امتلأت صفيّةُ كبرياءً لم يخلُ من الغُرور، عندما سمعتْ كلامَ الحاجّةِ معيوفة، وقالتْ تجاملُها:
كلُّ النّساء يحملنَ ويَلِدْنَ يا خالة، وعقبى لبناتِكِ ولزوجات أبنائِك أن يلدنَ المزيدَ مِنَ الأبناءِ الذّكور.
ضحكتِ الحاجّةُ معيوفة وهي تقولُ:
الحمدُ لله فقد رزقنا اللهُ أبناءً أكثرَ ممّا نستحقّ.
لَمْ يَغِبْ عن بالِ زبيبة أنْ تقرأَ سورةَ الفلقِ في سرِّها؛ لِتَدفعَ عن سِبْطِها العينَ الحاسدة، وأضْمَرتْ أنْ تُعَلِّقَ على صدرِهِ مُجسّمَ اليدِ الفضّيّةِ المكتوب عليها آيةَ الكرسيِّ، مع خرزةٍ زرقاء.
أضمرتْ صفيّة أن تُربّيَ ابنَها تربيةَ الشّيوخِ، وأنْ تُعلِّمَهُ الفروسيّةَ، عندما يدرجُ ماشيًا بعد عامٍ تقريبًا، أمّا الكرمُ والأعرافُ والعاداتُ فسيتعلّمُها في مجلسِ أبيه، الذي يكادُ لا يخلو يومًا مِنْ رجالٍ يَؤمّون ديوانَهُ، لِيَحُلَّ لهم المشاكلَ التي تواجهُهم، والقضايا الخلافيّةَ بينهم. عندما توافدتِ النّساءُ لِيُقمنَ حفلات الرّقصِ والغناء احتفاءً بالمولود ابن الشّيخ، جلَسْنَ خَلْفَ البيتِ؛ كي لا يظهرنَ على الرّجالِ المجتمعين في ديوان الشّيخِ في البيتِ المجاورِ، همستْ زبيدةُ لابنتِها صفيّة:
ضعي الولدَ في حَدَقَتَيْ عينيكِ، تجهّزي لِتَحملي ولِتَلدي كلَّ عامٍ طفلًا أو توأمين، وكما تعلمين "الاولاد اوتاد"، والشّيوخُ يُحبّون العِزْوَةَ، فكوني للشّيخِ مسعود فراشًا؛ ليكون لك غطاءً، لا تظهري أمامَهُ إلّا وأنتِ كما يُحِبُّ، تجمّلي لهُ؛ لِتُقنعيهِ أنّكِ المرأةُ الوحيدةُ على الأرض؛ كي لا يأتيَكِ بِضُرّةٍ أو أكثر، فالرّجالُ وخصوصًا الشّيوخَ الأثرياءَ كالشّيخِ مسعود، يعتقدون أنّ زوجةً واحدةً لا تكفي، ويريدونَ أن يكونَ لهم أبناءٌ كثيرون، كَعِزْوٍةٍ يفرضون هيبتَهُم على أبناءِ العشيرةِ وعلى أبناءِ العشائرِ الأخرى. والشّيخُ مسعود سُمْعتُهُ الطّيّبةُ تسبقُهُ، كلُّ النّساءِ يتمنّينَهُ، والكلُّ يُحبُّ مصاهرتَهُ. ولا تنسي أنّكِ لم تحملي إلّا بعدَ زواجِكِ بعامٍ، فاحمدي اللهَ أنّ الشّيخَ مسعود لم يتزوّجْ عليك بأخرى.
ابتسمتْ صفيّةُ وقالتْ بدلال:
لو أرادَ أن يتزوّجَ امرأةَ أخرى، فلن يجدَ فتاةً بجمالي وطيبِ أصلي.
فردّت عليها والدتُها بنبرةِ عتابٍ:
لا تغترّي بجمالكِ، فكلُّ النّساءِ جميلات، و"النّساء أكثرُ من الْهَمِّ على القلب" والّتي تغترُّ بجمالِها ستجدُ مَنْ هي أجملُ منها، وإيّاكِ أنْ تقولي ما قُلتِهِ أمامَ الشّيخِ مسعود، أو أمامَ الآخرين، فإذا ما سمعَ الشّيخُ هكذا كلام، فسيعتبرُه تحدِّيًا له، وطعنًا بكرامتِه، وسيأتيكِ بضُرّتينِ لا ضُرّةً واحدة.
ردّتْ صفيّةُ بغنجٍ أنثويّ:
لستُ مغرورةً بجمالي يا أمّي، لكنّي واثقةٌ بحبِّ ووفاء الشّيخ مسعود، فهو ابن عمّي قبل أن يكون زوجي، وأبي -رحمه الله- كان يعتبره ابنَهُ.
زبيبة: لا تغتّرّي كثيرًا بصِلَةِ القُرْبى بينَكُما، فمنذُ زواجِكُما صارَ يعتبرُكُ زوجتَهُ، وأسقطَ صِلَةَ القربى من حساباته. فلا تُسقطي من حساباتِك يومًا أنّ الرّجالَ وخصوصًا الشّيوخَ يحبّون العزوةَ؛ لأنّهم سندُهُم.
قالت صفيّةُ متظاهرةً بأنّها لا تكترثُ بهكذا أمور:
إذا كانت سعادةُ الشّيخِ مسعود بالزّواج من امرأةٍ ثانية، فَلْيَخْتَرْ إحداهنّ وأنا سأطلبُها له!
غضبتْ الحاجّةُ زبيدة من كلامِ ابنتِها فهمست لها وهي تنصرفُ غاضبةً:
ماذا جرى لك يا صفيّة؟ هل جُنِنْتِ؟ دعيكِ من هذا الكلامِ الفارغِ، فـ " الضُّرَّه مُرَّه"، وانحنت على سِبْطِها ماجد، قبّلتْ جبينَهُ وقالت وهي تغادرُ المكان:
أرضِعي ولدَكِ وأدفئيهِ، فأنا لا أستطيعُ أنْ أتركَ النّساءَ، اللواتي يرقصنَ ويغنين احتفاءً بولادةِ الشّيخِ ماجد دون أن أكونَ في مقدّمتهنّ.
النّذر
بعدَ وِلادَةِ ماجد بأسبوع، وبتكليفٍ من ابنتها صفيّة، امتطتْ زبيدةُ بغْلًا وقصدتْ مدينةَ القدس؛ لِشِراءِ الحنّاء، لِتَفيَ صفيّة بنذرِها "بِتَحْنِيَةِ" الجدرانِ الدّاخليّةِ لمسجدِ مقامِ النّبيِّ موسى، ولِتَضعَ "مَطَرَةَ" زَيتٍ في المقام؛ فقد استجابَ اللهُ دُعاءَها، ودعاءَ والدتِها بأنْ حملتْ وأنجبتْ طفلًا ذكرًا.
رَبَطتْ زبيدة البغلَ في واد الجوزِ قُبالةَ باب الأسباطِ؛ لِيَرْعى ممّا تُنبتُ الأرضَ، ألقتِ الخُرْجَ على كتفِها الأيمنِ؛ لِتَضعَ فيه مُشترياتِها، وقصدَتِ المسجدَ الأقصى؛ لِتُصلّيَ ركعتين، فمن غير المعقولِ أنْ تصلَ المدينةَ المقدّسةَ ولا تُصلّي في مسجدِها الأقصى المبارك. توضّأتْ في الجزءِ المُخصّصِ للنّساءِ في "المطهرةِ"، واتّجهتْ إلى مسجدِ قُبّةِ الصّخرةِ المُشرّفةِ، صلّت ركعتيْ تحيّة المسجد، وركعتينِ أخرييْن كنافِلَة. قرّرتْ أنْ تذهبَ إلى سوقِ العطّارين؛ لِشِراء الحنّاءِ، وقماشًا وخِيطانَ الحريرِ؛ لِتُطَرِّزَ ثوبًا تُقدِّمُهُ هديّة لابنَتِها صفيّة بمنسابةِ إنجابِها لابنِها البكرِ ماجد، على أنْ تعودَ بعدها لآداءِ صلاةِ الظّهرِ في المسجدِ الأقصى، قبلَ أن تعودَ إلى بيتِها في منطقةِ "الطِّبِق"، قريبًا من مقام النّبيِّ موسى-عليه السّلام-.
اشترتْ مِنْ أحدِ العطّارينِ رِطْلَ حنّاءٍ، ومن مَحَلٍّ بجانبِهِ اشترتْ مجموعةً من الخيطانِ التي يغلبُ عليها اللونُ الأحمر. ومنْ سوقِ "الخواجات" اشترتْ ستّةَ أذرعٍ من قماشِ الحريرِ المخملّيّ؛ لِتخيطَهُ ثوبا لابنتِها صفيّة، كما اشترتْ اثني عشرَ ذراعا من قماشِ "الحَبَرِ"؛ لِتَخيطَه ثوبًا لها. عادتْ إلى بائعِ الخيطانِ؛ لِتَشتريَ خيطانًا زرقاءَ وخضراءَ اللون؛ لِتَخيطَ به ثوبَها، فمن غيرِ اللائقِ لامرأةٍ أرملةٍ بعمرِها -وقد تخطّتِ السّتّينَ من عمرِها- أنْ تخيط ثوبَها بغيرِ هذين اللونين.
عادتِ الحاجّةُ زبيدةُ مرّةً أخرى إلى بائع القماشِ؛ لِتَشتريَ قَماشًا تخيطُه ثوبًا وقُمبازًا لحفيدِها ماجد. قسَمتْ مشترياتها في عِدْلَي الخُرجِ، ووضعتْه على كَتِفِها، عادتْ إلى المسجِدِ الأقصى عَبْرَ سوقِ بابِ السِّلْسلةِ، وهناك مرّتْ بامرأةٍ قرويّةٍ تعرِضُ بضاعتَها مِنَ "القُطّينِ والزّبيب" للبيع. فاشترتْ منها حُمولَتَها كاملةً، وهي حوالي خمسةِ أرطالٍ من القُطّين، ورِطْلَ زبيب، وضعتْ القُطّينَ في عِدْلِ الخُرْجِ الذي ستحملُه على ظهرِها، في حين وضعتْ مُشترياتِها الأخرى في العِدْلِ الذي سيتدلّى على صدرِها الأيمن، وواصلتْ طريقَها برشاقةٍ غزالٍ يجوبُ البراري.
أسندتْ زبيدة ظهرَها على الحائطِ الغربيّ الدّاخليّ في قبّةِ الصّخرةِ المُشرّفةِ، اتّكأتْ على خُرْجِها، وبدأتِ التّسبيحَ في انتظار صلاةِ الظّهرِ. راودَها النّعاسُ لكنّها لم تَغْفُ. بعدَ الصّلاةِ حملتْ خُرجها، وخرجتْ وهي تحمدُ اللهُ على نعمةِ الصّلاةِ في المسجدِ الأقصى. عند باب الأسباطِ وجدتْ شُرطيّينِ عثمانيّين يراقبان الدّاخلين والخارجين، فوضعتْ خُرْجَها بجانبِهما وقالتْ لهما:
الله يرضى عليكم يا شبابُ، ضعوا هذا الخُرجَ لي عندكما، حتّى أُحضرَ بَغْليَ المربوطَ هناك، وأشارتْ إلى وادِ الجوز، وَكُلا ما شئتما من القُطّينِ والزّبيب.
فقال لها أحدُهما:
حيّاكِ اللهُ يا حاجّة.
غذّت الخطى مسرعةً؛ لِتُحْضِرَ البَغْلَ، وفي أقلِّ من ثلاثِ دقائق عادتْ إلى الشُّرطيّين وهي تمتطي البغلَ، نزلتْ عن ظهره، قسمتْ حمولَتَها بينَ عِدْلَيِ الخُرج، ورفعتْهُ بخفّةٍ على ظهرِه، قبلَ أن يصلَها الشّرطّيُّ الّذي همَّ بمساعدتِها. شكرتِ الشُّرطِيّينِ، وامتطتِ البغلَ، وسارتْ عائدةً إلى مضاربِ عشيرَتِها.
ابتسمَ الشُّرطيُّ وهو يقولُ لِزَميلِه:
ألا تُلاحظُ أنَّ نساءَ البوادي يتحلّينَ برشاقةِ الفُرسانِ، وجسارةِ المحاربين؟
ردَّ عليه زميلُهُ:
هذا ما تُمليهِ عليهنَّ طبيعةُ الظّروفِ الّتي يَعِشنَ فيها، ولو كنَّ عكسَ ذلك لهلكنَ في مرحلةِ الطّفولةِ، ويبدو أنّ هذه المرأةَ بنتُ شيوخٍ.
- كيف عرفتَ؟
- ألمْ تلاحظْ مشترياتِها وكيفَ امتطتِ البغلَ؟
- كيف؟
- مُشترياتُها ثمينةٌ، وهذا دليلٌ على الثّراءِ، الذي يحظى به شيوخُ البوادي دونَ غيرِهم من الأعراب، وامتطاؤها للبغلِ برشاقةٍ عندما وضعتْ يدَها على عُنُقِهِ، وارتكزت عليها؛ لِتَحملَ جسدها على ظهرِ البغلَ بشكلٍ شبه دائريّ، تشي بأنّها فارسةٌ متدرّبةٌ على ركوبِ الخيولِ الأصيلة، وهذه أيضًا من صفاتِ بناتِ الشّيوخ.
استعادَ الشُّرطيُّ السّائلُ تصرّفاتِ المرأةِ العفويّةِ وقال:
لاحظتُ أنّها تتصرّفُ بعفويّةٍ دون حَرَجٍ كما الرّجال وهي تتحدّث معنا، وهذا دليل آخرُ على أنّها بنتُ شيوخٍ.
ابتسمَ زميلُه وقال:
هذه الصّفةُ تتحلّى بها بناتُ الباديةِ كافّةً، وليستْ حِكْرًا على بنات الشّيوخِ، فبناتُ الباديةِ حرائرُ طليقاتٌ لا يعشنَ حياةَ الحريم!
عندما وصلَتِ الحاجّةُ زبيدة بيتَها، وضعتْ حمولَتَها في مخدَعِها، وقرّرتْ أنْ تخيطَ ثوبَ وقمبازَ حفيدِها ماجد أوّلًا، وبعده ثوبَ والدتِهِ؛ لِتُقدّمَهُ لها فجأةً ودون سابقِ معرفة.
الحنّاء
التزمتْ الحاجّةُ زبيدةُ بيتَها وشرعتْ تخيطُ ثوبَ حفيدِها ماجدٍ وقُمبازه، على أملِ أن تنتهيَ منه في اليوم التّالي، بعدَ مغيبِ الشّمسِ رفعتْ قنديلَ الزّيتِ على ظَهْرِ تنكةٍ صدئةٍ بعد أن قلبتْها، واصلتِ الخياطةَ فرحةً سعيدةً حتّى منتصفِ الليل. استيقظتْ مبكرا، صلّت فريضةَ الفجر، أشعلت السّراجَ؛ لِتُواصلَ خياطةَ القمبازِ والثّوبِ، طرّزتْ على أكمامِهما ومحيطِ الرّقبةِ خيوطًا حمراء، بعدَ بُزوغِ الشّمسِ رفعتِ الثّوبَ والقمبازَ بيديها أمامَها تنظرُهما بسعادةٍ، فهي حريصةٌ أن تكونَ ملابسَ الشّيخِ الصّغيرِ مُمَيّزةً عن ملابس أقرانِه.
قسمتْ خمسةَ أرطالِ القُطّينِ ورِطْلَ الزّبيبِ إلى نصفينِ مُتساويين، نصفٍ لابنتِها صفيّة، والنّصفِ الثّاني لابنتيها الأخرتين، وضعتْ حفنتينِ من الحنّاءِ لِتَعجنَهما لاحقًا؛ لِتَخضيبِ جُدْرانِ مسجدِ مقامِ نبيّ اللهِ موسى -عليه السّلام-.
راقبتْ بيتَ الشّيخِ مسعود؛ وعندما رأتْهُ يمتطي فرسَهُ الأصيلَةَ ويسيرُ شمالًا مغادرًا، حملتْ ما تبقّى من الحنّاء، وقُمبازَ وثوبَ حفيدِها ماجد ومخصّصاتِ صفيّة من القُطّينِ والزّبيبِ، واتّجهتْ إلى بيتِ صفيّة.
أخرجتْ ثوبَ وقمبازَ ماجد، بَسَطَتْهما أمامَ والدتِهِ وقالتْ بابتسامةٍ عريضة:
هذه كِسوةٌ للشّيخِ ماجد.
ضحكتْ صفيّةُ وقالتْ بسعادةٍ:
الشّيخُ ماجد لمْ يبلغْ أسبوعًا من عُمرِهِ، فكيف سيرتدي القمبازَ؟
أجابتْ جدّتُهُ زبيدةُ ابنتَها صفيّة تلومُها بِلَهجةٍ فيها دلالٌ:
يجبُ عليكِ أنْ تفهمي أنتِ وغيرُكِ أنّ ماجدًا شيخٌ منذُ وُلِدَ، وهو خليفةُ والدِهِ الشّيخِ مسعود -أطالَ اللهُ عمرَهُ-. وأشارتْ إلى القطّينِ والزّبيبِ وقالت:
أكثري من أكْلِهما فهما مُدرّان للحليب!
ثمَّ فتحتِ الحنّاءَ وقالتْ:
هذا الحنّاءُ سأعجنُهُ بعد العصر؛ لِتتخضّبَ النّساءُ والأطفالُ الّذين سيحضرون سهرةَ هذه الَليلة، طلبتْ من ابنتِها أن تُحْضِرَ صحنًا صغيرًا، عجنتْ فيهِ حفنةَ حِنّاءٍ وسطَ ذهول ابنتِها. قامتْ وأحكمتْ إغلاقَ رواقِ بيتِ الشَّعَرِ، وضعتْ بصمةً من الحِنّاء على جبينِ صفيّة وبصمةً أخرى على منتصفِ لِحْيَتِها، طلبتْ منها أن تتمدّدَ على الفراشِ، وترفعَ ثوبَها؛ لِيَظهرَ بطنُها وصدرُها! وضعتْ دائرةً مِنَ الحنّاءِ حولَ سُرّتِها، رسمتْ بالحنّاءِ وردتينِ على نهديْها، ووردتينِ على منتصفِ فخذيْها وهي تقول:
عندما يرى الرّجُلُ هذا على جسدِ زوجتِهِ، فإنّهُ يهيمُ بها غرامًا. ثمَّ رسمتْ ورودًا على ظاهرِ وباطنِ كفّيْها وذِراعيْها.
طلبتْ من ابنَتِها أنْ لا تتحرّكَ من مكانِها حتّى يجِفَّ الحِنّاءُ، تململتْ صفيّةُ وسألتْ والدتَها بدلالٍ:
لِمَ كلُّ هذا يا أمّي؟
غمزتْها أمُّها وهمستْ لها:
كي تبقي عروسًا بكاملِ جمالِها وزينتِها أمامَ زوجِكِ الشّيخِ مسعود؛ لِتُنجبي له كلَّ عامٍ طفلًا.
في ساعات الضّحى
عجنتِ الحاجّةُ زبيدةُ الحنّاءَ المُخصّصَ للنّذر، حملتْ "مطرةَ" زيتِ الزّيتونِ، وقصدت مقامَ النّبيّ موسى -عليه السّلام-؛ لِتُخَضِّبَ جدرانَ مسجدِه، ولِتَضعَ فيه "مَطَرَةَ" الزّيتِ"، وفاءً لِنَذْر ابنتِها صفيّة، التي نذرتْ لله إنْ حملتْ وأنجبتْ ولدًا ذكرا، أنْ تُخضِّبَ جُدرانَ مسجدِ المقام، وأنْ تُهديَهُ ما تيسّرَ من زيتِ الزّيتون، عندما مرّتْ مِنْ جانبِ بيتِ ابنتِها صفيّة، دخلتِ البيتَ دون استئذانٍ وهي تقول:
قلبي لا يطاوعُني أنّ أمرَّ من جانبِ هذا البيتِ دون أنْ أرى الشّيخَ ماجدًا، وأنْ أُقبّلَّ وجنتيهِ، وأشُمَّ رائحته التي تملأني نشوةً وقوّةً.
سمعتْها ابنتُها صفيّة فقالت بصوتٍ مرتفعٍ:
أهلًا وسهلًا يمّه... تفضّليِ.
وجدتْ حفيدَها ماجدًا في حضنِ والدتِه يرضعُ، أمسكتْ يدَهُ وقبّلتها وهي تقول:
نسألُ اللهَ أنْ يحفظَ لنا هذا الشّيخَ الصّغير. استأذنتْ من ابنتِها كيْ تُواصِلَ طريقَها لِتَفيَ بالنّذر، فسألتْها صفيّة:
ما رأيكُ يا أمّي أنْ نذهبَ أنا وماجد معك؟
التفتتْ إليها والدَتُها غاضبةً وتساءلت:
هل جُنِنْتِ يا صفيّة؟ فكيف ستدخلينَ المسجدَ وأنتِ نُفَساء؟
شعرتْ صفيّةُ بخطئها فقالت:
أستغفرُ الله العظيمَ، لقدْ غابَ هذا عنّي.
خرجتْ الحاجّةُ زبيدة مِن بيتِ صفيّة، عادت إلى بيتها؛ لِتُحضِرَ حوالي كيلو غرام قُطّينًا، كهديّةٍ لسادنِ المقام، واستدارتْ مُسرعةً لِتُنجزَ مهمّتَها:
عندما وصلتْ مدخلَ المقام بسملتْ ونادت:
يا شيخُ محمود! أينك؟
جاءها الشّيخُ محمود سادنُ المقامِ وإمامُ مسجدهِ حافيَ القدمينِ، وفي فمِهِ طعامٌ، أعطتْهُ القُطّينِ و" مَطَرَةَ" الزّيت وقالتْ لهُ:
هذا "حلو" ابن الشّيخ مسعود، القُطّيْنُ لك، والزّيتُ للمسجد.
أمسكَ منها الهديّةَ شكرها وهو يقول:
ألفُ مبروك، جعلَهُ اللهُ من أبناء السّلامة. وأضمرَ أن يكون الزّيتُ من نصيبِ أسْرَتِهِ.
في المسجدِ فتحتِ الحاجّةُ زبيدةُ كفَّ يدِها اليُمنى، فغمستْها وأصابُعها ممدودةٌ متباعدة، وطبعتْها ثلاثَ مرّاتٍ على كلِّ حائطٍ من حيطانِ المسجدِ الأربعة، وخرجتْ عائدَةً إلى بيتِها.
المائق
مضت عشرةُ أشهرٍ على ميلادِ ماجد، تنقلَّ فيه بين حِضْنَيْ والدتِه صفيّة وجدّتِه لأمِّه زبيدة، وأحيانًا بين حضني خالتيه الّلتين تحرصان أن تزورا شقيقتَهُنّ صفيّة مرّةً في الأسبوع على الأقلِّ، لِتُشاهدا ابنَ شقيقتِهما الشّيخَ ماجدًا. قليلًا ما كانتا تضعانه على الأرضِ وهو مُستيقظٌ، دخلَ الشّهرَ العاشرَ من عمرهِ مائقا، لا يستطيعُ الجلوس وحدَهُ أو يحبو، لمْ يُعجِبْ حالُه هذا الحاجّة معيوفة، فقالتْ ذاتَ يومٍ لجدّتِه الحاجّة زبيدة:
دون مُؤاخذة هل تعلمين يا زبيدة أنت وبنتك صفيّة، أنّ رعايتَكُما للشّيخِ ماجد غيرُ صحيحة؟
صُعِقَتِ الحاجّةُ زبيدة وابنتُها صفيّة من كلامِ الحاجّةِ معيوفة، فتساءلتْ وهي تلوي فمَها مستنكرةً كلامها:
خيرًا يا أختي معيوفة، ما الّذي لمْ يُعجبْك من رعايتِنا للشّيِخ ماجد؟
أجابتِ الحاجّةُ معيوفة بهدوء:
نسألُ اللهَ قبلَ كلِّ شيءٍ أنْ يحفظَ الشّيخَ ماجدًا، وأن يُطيلَ عُمرَه وعُمرَ والدِه الشّيخِ مسعود، وأنا والله أحبُّ ماجدًا كما أحبُّ أحفادي، لكن "كثرة الدّلال تُفسدُ الأطفال، وحتّى الكبار.
الحاجّة زبيدة: ماذا تقصدين؟
ألا تُلاحظان أنّ ماجدًا -رعاهُ اللهُ- مائقٌ قد تأخّرَ في الْحَبْوِ، ومن هم في جيلِه كلّهم يَحْبون، حتّى ابنة فاطمة اللثّغاء الّتي تصغرُه بأسبوع صارت تقفُ وتحاولُ المَشْيَ. والشّيخُ ماجد دائمُ البكاءِ لا يجلسُ إلّا وأنت تمدّين رِجْلَيْكِ وتُجلسينَه بين ساقيكِ؛ لِتَحْميه من الوقوع على أحدِ جانبيه.
غمزتْ صفيّةُ بعينِها لِأُمِّها وقالت:
لا مقارنةَ بين ماجد وبنتِ فاطمة اللثغاء، ولا غيرها من البنات، فالبناتُ مِثْلَ" خُبّيزة المزابلِ" يكبُرْنَ قبلَ الصِّبيان في الطّفولةِ المبكرة.
الحاجّة معيوفة: لا تفهما كلامي بطريقةٍ مغلوطةٍ، فما أردتُ من كلامي إلّا أن ألفتَ انتباهَكُما إلى أنّ الأطفالَ يَحْبون في الشّهر السّادس، إن لم يكن قبلَهُ، وأعتقدُ أنّ كثرةَ احتضانِكُنّ لماجدٍ يُعيقُ حركتَهُ!
بطحتْ صفيّةُ ماجدًا في صهوةِ البيتِ المفروشةِ بالبُسُطِ على بطنه وقالت:
أرِنا عضلاتَكَ يا ماجد... تحرَّكْ "يمّه".
تمدّدَ ماجدٌ كجسدٍ بلا روح، ووجهُهُ على كيسِ الخيش، لم يتحرّكْ فيه عضوٌ، بكى بصوت مخنوق، فاحتضنَتْه جدّتُه زبيدة، ووضعتْه في حضنِها وهي تقولُ:
أطفالُ الشّيوخِ لا يَحْبونَ إلّا على فرشاتِ الصّوفِ أو الحرير.
استأذنتِ الحاجّةُ معيوفة وغادرت المكانَ وهي تقول:
الله يخليلكم إيّاه".
عندما ابتعدتِ الحاجّةُ معيوفة قليلًا قالتِ الحاجّةُ زبيدة:
انْقَلِعي قلعَ اللهُ لِسانَكِ من مكانِهِ.
ابتلعتْ صفيّةُ ريقَها وهمستْ حزينةً ودموعُها تتساقطُ:
الحاجّةُ معيوفة ليستْ حاسدةً ولا عَدُوَّةً يَمَّه، فكلامُها صحيحٌ، ولم تَقُلْهُ إلّا من باب مَحَبَّتِها لنا وحِرْصِها علينا وعلى ماجد.
تنهّدتِ الحاجّةُ زبيدة وحمدلتْ وقالتْ:
" الحقيقه مُرّه" يا صفيّه"، و" يا كَشَل راسي" والله إنّي خائفةٌ ألّا يكونُ ماجدٌ ابنَ حياة، ولن يكون شيخًا ولا غيرَه، لكن دعينا نتستّرُ عليه حتّى يُفْرِجَها ربُّنا.
بكت صفيّةُ وهي تقول:
" حبل الكذب قصير" يَمّه! ويبدو أنّ الشّيخَ مسعودًا بدأَ يُلاحظُ أنّ ماجدًا ليسَ سليمًا معافًى كبقيّةِ الأطفال، وأخشى أن يتزوّجَ من امرأةٍ ثانيةٍ؛ لِتُنْجِبَ له أطفالًا أصحّاء!
صُعِقتِ الجدّةُ زبيدةُ من مخاوفِ ابنتِها وسألت:
كيف عرفتِ أنّ الشّيخَ مسعودًا بدأ يلاحظُ حالةَ ماجد؟
- قبل شهرٍ احتضنَهُ يداعبُه، لكنَّ ماجدًا لم ينتبهْ له مُطلقًا، وبدا رِخْوًا بشكلٍ لافتٍ، فقال مسعودٌ مُتأفِّفًا:
يبدو أنّ هذا الولدَ لنْ يكونَ ماجدًا ولا شيخًا، وتركَه وخرج.
حوقلتِ الجدّةُ وقالتْ:
دعينا نُداري الوضعَ حتّى تَلِدي جنينَكِ الثّاني بعد ثلاثةِ أشهرٍ، ولِنرى كيفَ سيكون حالُ المولودِ الثّاني، وعصرَ هذا اليومِ سآخُذُ ماجدًا لإمام مسجدِ مقامِ النّبيّ موسى-عليه السّلام-؛ لِيَرْقيَهُ بِآياتٍ من الذّكرِ الحكيمٍ، لعلّ وعسى ربّنا يُفرِّجُ الكربَ.
تناولتِ الجدّةُ زبيدة حفيدَها ماجدًا، مدّتْ رِجْلَيها، عرّتْهُ من ملابسِهِ وهي تضعُهُ على فخذيها، وبدأتْ تُدَلِّكُ يديهِ وساقَيْهِ بزيتِ الزّيتونِ مُرَكِّزَةً على المفاصلِ، وصراخُه يعلو، فقالتْ بِصوتٍ مسموعٍ:
حبّذا لو أنّ يديكَ ورِجليكَ ورقبتَكَ قويةٌ كصوتِ صُراخِك.
عند إمامِ المسجد
بعدَ التّدليكِ غفا ماجدٌ منهكًا، استيقظَ بعدَ ساعتينِ، حملتْهُ جدّتُهُ زبيدة، وانطلقتْ به إلى مقامِ النّبيّ موسى، وهناك شرحتْ حالتَهُ للشّيخِ محمود إمام مسجد المقام. استمع إليها الشّيخُ، وسألَها عن حركاتِ يديْهِ ورِجْلَيْهِ، وإذا ما كان يُحاولُ أنْ ينقلبَ على بطنِهِ؛ لِيَحْبُوَ، وعندما نفتْ قدُراتِهِ على ذلك حوقلَ وقال:
أعرفُ أنّ زوجةَ الشّيخِ مسعود بنتُ عمّه، أليسَ كذلك؟
الجدّة زبيدة: نعم صحيح.
ووالدُ الشّيخِ ووالدتُه أبناءُ عمومة؟
الحاجّة زبيدة: لا إنّها بنتُ خالِه، لكنّ جدَّهُ وجدّتَهُ ابنا عمومة.
عادَ الإمامُ يحوقلُ وقال:
لو اتّبعنا تعاليمَ دينِنا واستفدْنا من تجاربِ السّلَفِ الصّالحِ، لَحَمَيْنا أنفُسَنا من هكذا حالات.
استغربتِ الحاجّةُ زبيدة كلامَ الإمامِ فجفَّ ريقُها وسألتْه:
نحمي أنفسَنا مِمَّ يا مولانا؟
الإمام: تكرارُ زواجِ الأقاربِ عواقبُهُ وخيمةٌ، فمِمّا وردَ في الأثر أنّ عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- قالَ لبني السّائبِ وقد اعتادوا الزّواجَ بقريباتِهم:" مالي أراكم يا بني السّائبِ قد ضَوَيتم؟، غرّبوا النّكاح لا تَضْوَوْا" (أي: تزوّجوا الأباعد لئلّا يضعف نسلُكم!).
- ماذا يعني هذا يا مولانا؟
قال ابن قدامة -رحمه الله- في "المغني( 7/83):" يختارُ الأجنبيّةَ فإنَ وَلَدَها أنجبُ، ولهذا يقال: اغتربوا لا تضْوَوْا يعني: انكحوا الغرائبَ؛ كي لا يضعفَ أولادُكم ، وقال بعضهم: الغرائبُ أنجبُ، وبناتُ العمِّ أصبر؛ ولأنّه لا تؤمَنُ العداوةُ في النّكاح، وإفضاؤه إلى الطّلاق، فإذا كان في قرابته أفضى إلى قطيعةِ الرّحم المأمورِ بِصِلَتِها".
الحاجّة زبيدة: لَمْ أفهمْ ممّا تقولُه شيئًا يا مولانا.
الإمام: هذا الضّعفُ الذي يعانيه هذا الطّفلُ -والعلم عند الله- سببُهُ زواجُ القُربى المتكرّرُ، وأسألُ اللهَ العفوَ والعافيةَ لهذا الطّفل، وأنْ تكونَ معاناتُهُ خفيفةً. وأنا لا أستطيعُ مساعدتَه في شيء.
حملتِ الحاجّةُ زبيدة حفيدَها وعادتْ طريقَها خائبةً. وضعتِ الحفيدَ في حضنِ أمِّه وقالت:
" فرحنا للأقرع حتّى يؤنِسَنا، كشّف عن قرعته وخوّفنا."
صُعِقتْ صفيّةُ من كلامِ أمِّها وسألتْها:
خيرًا يا أمّي؟ ماذا قال الإمامُ؟
- لم يقُلْ شيئًا..."خلّيها على الله."
مشاورات
حبا ماجدٌ عندما أكمل الشّهرَ الثّالثَ عشرَ من عُمرِه، وفي اليومِ الّذي حبا فيه أنجبتْ والدتُهُ بنتًا، الفرحةُ كبيرةٌ عندما صار ماجدُ حبّاءً، أمّا مَوْلِدُ شقيقتِه فلَمْ يحظَ بقبولٍ من أحد، لكنّ أيّا منهم لَمْ يُفصِح عن مشاعرِه أمام الآخرين، حتّى الشّيخُ مسعود عندما قالَ له أحدُ الرّعاةِ:
مباركةٌ العروسُ الجديدةُ يا شيخُ. هلْ تريدُ أنْ تذبحَ عقيقةً لها؟
ردّ عليه الشّيخُ مسعود:
اذبحْ خروفًا عشاءً لِمَنْ يرتادون الدّيوان.
- ماذا سمّيتُها؟
- سمّيناها وضحا على اسم والدتي-رحمها الله-.
انصرفَ الرّاعي وهو يلومُ نفسَهُ، فقد شعرَ أنّه تدخّلَ في أمورٍ لا شأنَ له بها.
الختان
بعدَ صلاةِ العشاءِ تجمّعَ عددٌ من أبناء العشيرةِ في ديوانِ الشّيخِ مسعود، تناولوا طعامَ العشاء، وتداولوا الكلامَ عن أحداثٍ مرّتْ، وعن أخرى تتعلّقُ بقادم الأيّام، وفجأة تنحنحَ أبو ضُبيع وهو أكبرُهمْ عمْرًا، وله مكانتُه في العشيرة وسأل:
متى سَنَخْتِنُ أطفالَ العشيرةِ يا شيخُ مسعود، فعددُ غيرُ المختونين الآن يزيد على سبعة، تتراوحُ أعمارُهم ما بين شهر وسبعِ سنواتٍ، وكلُّهم ينتظرون حتّى يختِنوا أطفالَهم بمعيّةِ ماجد -أطالَ اللهُ عمرَك وعمرَه-؟
الشّيخُ مسعود: لَمْ يغبْ هذا الأمرُ عنّي، لكنّني انتظرتُ صفيّة حتّى تَلِدَ، على أملِ أنْ تُنجبَ ولدًا ذكرَا، وقد أنجبتْ هذا اليومَ بنتًا. وسأحدّدُ معَ "الشّلبيَ" بعدَ صلاةِ يومَ الجمعة القادم حتّى نختنَ الأطفالَ والحاضرُ يُبَلِّغُ الغائب.
أبو ضبيع: بارَكَ اللهُ بِكَ يا شيخَنا، فقد عهدناكَ لا تغفلُ عن شيءٍ في العشيرة.
في هذه الأثناء دخلتِ الحاجّة زبيدة ديوانَ الشّيخِ مسعود، وهي تحملُ حفيدَها ماجد، وضعتْهُ في حضنِ أبيه، وفي نيّتِها أنْ يراهُ رجالُ العشيرةِ وهو يحبو، وما خيّبَ الطّفلُ ظنّها، فعندما جلسَ في حِضنِ أبيه، أمعنَ النّظرَ بوجهِهِ مبتسمًا، ومدَّ يدهُ يتحسّسُ شاربي والدِه الذي قبّلَ وجنتيهِ، وما لبثَ الطّفلُ أن حَبا باتّجاهِ أبي ضُبيع، ومدّ يدَهُ يريدُ الإمساكَ بغليونِه. ضحكَ الجميعُ للطّفلِ وقال أحدُهم يُداعبُه:
لا تزال صغيرًا يا شيخ ماجد على التّدخين.
سأل أحدُ الآباءِ الشّبابِ:
هذا "الشّلبيّ" الذي يختنُ الأطفال، كيف وأينَ تعلّمَ خِتانَ الأطفالِ؟
أجابَهُ أبو ضُبيع وهو يعضُّ على "مصّاصةِ" غليونِه الّتي يزيد طولُها عنْ شِبْرٍ:
يوجدُ في كلِّ مدينةٍ "شلبيٌّ" تقريبًا، وهم حلّاقون يحلقونَ شُعورَ وذُقون رؤوس الرّجال، مُقابِلَ قِرْشٍ واحدٍ، ويختِنون الأطفالَ دون تحديدِ أُجرةٍ معيّنةٍ على أملِ أنْ يُكرِمَهم أهلُ الطّفلِ بمبلغِ لا يقلّ عن قرشين لكُلّ طفلٍ، ولا يزيد عن خمسةِ قروش في أحسن الأحوال. وقد توارثوا مهنةَ الحلاقةِ والختانِ أبًا عن جَدّ.
عادَ الأبُ الشّابُّ يسألُ مرّةً أخرى:
وإذا ما جرحَ هذا الشّلبيُّ طفلًا وألحقَ به أذًى قاتلًا، ماذا سنعملُ به؟
ضحك الحضورُ من هذا السّؤالِ، لكنّهم سكتوا عندما قال الشّيخُ مسعود:
الحامي هو الله.
وسأل أبو ضُبيع الأبَ الشّابَّ ساخرًا من سؤاله:
هل تحسبُ أنّه لم يختنْ طفلًا من قبلُ وينتظرُ خِتانَ ابنِك؟
تدخّل الشّيخُ مسعود قائلًا:
لا تعملوا من خِتانِ الأطفالٍ قصّةً، سأتّفقُ مع الشّلبيّ أبي مرزوق، صاحب صالون الحلاقةِ الذي يقعُ داخل باب العمود في القدس؛ كي يحضرَ لمضاربِنا بعد صلاة الجمعةِ القادمة مباشرة، ولا تقلقوا بخصوصِ أجرته، فختانُ أطفالنِا جميعهم على حسابي أنا وحدي دونَ غيري.
ردّوا جميعُهم عليه بصوتٍ واحد:
والله" قدها وقدود" يا أبا ماجد. وهذا ليس جديدًا عليك، فأبوك -رحمه الله- من قبلِكَ كان كريمًا.
في يومِ الجمعة عندما ذهبوا لِأَداءِ صلاةِ الجمعةِ في مسجدِ مقامِ النّبيِّ موسى، وجدوا الشّلبيّ يجلسُ غافيًا في زاويةِ المسجدِ.
طرحَ الشّيخ مسعودٌ السّلامَ، لكنّ أبا مرزوق لم يردْ، فقد نامَ وهو جالس. وضعَ الشّيخُ مسعود يدَهُ على رأسِ الشّلبيّ وقال مازحا:
يا نايم وَحّدِ الدّايم.
لكنَّ الشّلبي لم يتحرّكْ ولم يسمعْ.
جلسَ الشّيخُ مسعودٌ بجانبِ الشّلبي، وضعَ يدَهَ على طربوشه، ثمّ خلع الطّربوش، حسّسَ على رأسه، فجفلَ الشّلبيُّ وهو يُبسملُ.
فقال له الشّيخُ مسعود مازحًا:
حسبتُكَ ميّتًا يا أبا مرزوق...متى وصلتَ هنا؟
الشّلبي: في ساعات الضُّحى...استأجرتُ حمارًا وامتطيتُه مِنْ خانِ الدّواب في باب السّلسلة، وقصدْتُ هذا المكان.
الشّيخ مسعود: لِمَ لَمْ تصلْ مضاربَنا؟
ما أحببْتُ إزعاجَكم، وقرّرتُ أن أنتظرَكم هنا في هذا المسجد، نصلّي الجمعةَ ونقصدُ مضاربَكم بمعيّتِكم.
بعد انتهاءِ صلاةِ الجمعة، استدارَ الإمامُ في جلستِهِ، ظهرُهُ إلى المحراب ووجهُه إلى المُصلّين، وهو يُسَبّحُ بحمدِ اللهِ، فسألَهُ الأبُ الشّابُّ من جماعةِ الشّيخِ مسعود:
ما حُكْمُ ختان الذُّكورِ يا مولانا؟
استعاذ الإمامُ بالله من الشّيطانِ الرّجيمِ، وبسملَ وحمدلَ وقال:
" اتّفقَ أهلُ العلمِ على مشروعيّةِ الختانِ، واختلفوا - رحمهم الله- في حكمه، فقال بعضُهم بوجوبه، وقال البعضُ بسنيّتِهِ".
- هل وردَ ذِكْرُهُ في القرآن؟
- "لَمْ يَرِدْ ذِكْرُهُ في القرآن، لكن يجري تنفيذُه تقريبًا من جميع المسلمين، سنةً وشيعةً على السّواء، والبعضُ يعتبرُه لا غِنًى عنه؛ ليكون المرءُ مُسلمًا، باعتباره سُنّةً نبويّة. والمسلمون يفعلونه اتّباعًا للنّبيّ ابراهيم -عليه السّلام-."
فرح الأبُ السّائلُ عندما سمع كلامَ الإمامِ وقال ضاحكًا:
لنْ أسمحَ بختان ابني، ما دام الختانُ لَمْ يردْ في القرآنِ الكريم، وليس واجبًا.
سمعَ الشّيخُ مسعود ما قالَهُ الرّجلُ، فقال له:
اسمعْ يا سويلِم،" سألوا منذُ القِدَمِ: شو أمور دينك؟ فأجابوا: مثل رَبعك" ولا أعتقدُ أنّ حياةَ ابنِكَ أغلى وأعزُّ من حياةِ الآخرين.
سويلم:" كلُّ الأمّهاتِ يبكين ولا تبكي أمّي"، وما يدريني ماذا سيحصلُ لابني بعدَ الختان، وأنا لا أرى أنّ هذا الرَّجُلَ -وأشارَ إلى الشّلبي- مؤهّلٌ لِخَتْنِ الأطفال. امتعضَ أبو مرزوق "الشّلبي" من كلامِ سويلم وقال:
إذا كنتم غيرَ واثقين من قدراتي، فهذا شأنُكم، وهذا لا يُضيرُني، فلن أختنَ أطفالَكُم، وسأعودُ طريقي إلى بيتي.
التفتَ الشّيخُ مسعود إلى سويلم بنظرة عتابٍ وقال للشّلبي:
لا تسمع كلامَ سويلم، ستختنُ أبناءَنا، وإذا لَمْ يُرِدْ سويلم ختانَ ابنِه فهذا شأنُه.
عندما وصلوا مضاربَهم، علتْ زغاريدُ وأغاني النّساء احتفالًا بختانِ الأطفال، جلسَ الشّيخُ مسعود في صدرِ الديّوان، وجلسَ الشّلبي بجانبِه الأيمن، احتسوا القهوةَ السّادة "المُرّة"، فدلّةُ القهوةِ النُّحاسيّةُ لا تنزلُ عن الموقدِ، الذي يتوسّط ديوانَ الشّيخِ، ولا ينطفئُ جمرُها، فقالَ الشّيخُ مسعود:
لا تُحضروا الأطفال الّذين سيُختنون دُفعةً واحدةً؛ كي لا يخافوا عندما يرون أقرانَهم وهم يُختنون، وسنبدأُ بأصغرِهم عمرًا، فقال أبو ضُبيع:
حفيدي محمّد... ابن ابني زميتان عمرُهُ ثلاثةُ أسابيع، وأشار إلى ابنه زميتان؛ كي يُحضرَ طفلَه، وفي هذه الأثناء فتحَ الشّلبيُّ حقيبتَه، أخرجَ منها عِدّةَ الختان، وهي عبارةٌ عن " مُوسِ المزيان"، و "ٌ قِشاطٍ جِلّديٍّ يشحذُ المُوسَ" عليه، " كمشَة قُطن، ولفّافةِ شايش، ومقصّ. وضعَ طرفَ القشاطِ تحت قدمِه وأمسكَ طرفَه الثّاني بيدِه اليُسرى، في حين أمسكَ" الموسَ" بيده اليُمنى، بصقَ عليه وشرعَ يشحذُه على القشاط، وبينَ الفينةِ والأخرى يعيدُ البُصاقَ على الموس؛ كي يُسهّلَ حركتَه على القشاط، فضحكَ بعض الحضورِ من هذا العمل، أمّا سويلم فقد قالَ ساخرًا:
يبدو أنّ بُصاقَك مُباركٌ يساعدُ على شفاء مكانٍ الجُرح.
نظرَ الشّلبيُّ إلى سويلم نظرةَ غضبٍ ولم يقلْ شيئًا.
عندما أحضرَ زميتان طفلَه، جرى ختانُه بسرعة، صرخَ الطّفل صرخةً مُدوّيّةً، وسُرعانَ ما ضمّهُ والدُه إلى صدرِه، وخرجَ به؛ لِيُسَلّمه لوالدتِه التي كانت تنتظرُه خارج البيت. ودخلتِ الحاجّةُ زبيدة وهي تحملُ حفيدَها ماجدًا، الّذي ألبستْهُ القمبازَ دون ثوب، وضعتْه في حضنِ والدِه الشّيخ مسعود، استدار الشّيخُ مسعود إلى يمينِة باتّجاهِ الشّلبي، أجلسَ ابنَه ماجدًا في حضنِه، مدّ ساقيه وثبّتَهما بيديه، رفعَ ماجدٌ رأسَه ينظرُ وجهَ أبيهِ وهو يبتسم، وفي هذه اللحظةِ تمّ الختانُ، فَعَلَتْ تكشيرةٌ وجهَ ماجدٍ وبكى بهدوء، ضمّدَ الشّلبيَ مكانَ الجُرحِ وهو يقول مُجامِلًا الشّيخَ مسعود:
أبناءُ الشّيوخِ يصبرون على الأَلَمِ حتّى وهم صغار.
تمّ ختانُ ستّةِ أطفالٍ، وهرب سابعُهم ابنُ السّتِّ سنوات، عندما عرفَ ما يجري، فلحقَ به أبوه، وقبضَ عليهِ وهو يختبئُ في مقامِ النّبيّ موسى، حملَه الأبُ في حضنه وصراخُ الطّفلِ يتردّدُ صداه في الأوديةِ المجاورة، وتمَّ ختانُه.
تناولوا طعامَ الغداءِ في بيت الشّيخ، الذي نقدَ الشّلبيَّ رُبْعَ دينارٍ، وحمّلَه فخذَ خروفٍ مطبوخًا، غادرَ الشّلبيُّ مضاربَهم وهو يلهجُ بالشّكر للشّيخِ مسعود ولِرَبْعهِ.
زواج مسعود الأوّل
اهتمَّ الشّيخُ ماجد الكبيرُ بزواجِ ابنه مسعود عندما بلغَ العشرين من عُمرِه، فهو ابنُه الوحيدُ الذي بقيَ على قيدِ الحياةِ من زوجاتِه الثّلاث، فقد كنّ يُجهِضنَ في الحَمْل، وكلُّ واحدةٍ منهنَّ أنجبتْ أكثرَ من مرّةٍ، لكنَّ وليدَها يموتُ قبلَ أنْ يُنهيَ عامَهُ الأوّل، وقد ردّوا أسبابَ ذلك إلى الحسد! لكنّ زوجتَهُ الثّالثة وضحا بنت خالِهِ فالح وعمّتِه عائشة، أنجبتْ ابنَها مسعود وهي في السّادسة عشرةَ من عُمرِها، وماتتْ في المخاضِ دون أن ترى وليدَها، فربّتْهُ جدّتُه لأبيه، ووجدَ رعايةً من زوجتي والدِه، اللتين أشفقتا عليه، واعتبرَتْه كلُّ واحدةٍ منهما ابنًا لها، لكنّهُ لَمْ يقلْ كلمةَ "يَمَّه" إلّا لجدّته لأبيه.
اهتمَّ الشّيخُ ماجدٌ بتربيةِ ابنِه مسعود تربيةً سليمةً، تليقُ بأبناء الشّيوخ، فقد علّمَهُ الفروسيّةَ، وكانَ يُجلسُه في حضنِهِ في الدّيوان منذ بلغ الثّالثةَ من عمرِه، كما كان يصطحبُه معه في زياراتِه للآخرين؛ كي يكتسبَ العاداتِ والتّقاليدَ، " فالمراجل نقل"
و" اولاد المجالس غلبوا اولاد المدارس"، والشَيخُ ماجد حريصٌ على ابنِه الوحيد؛ ليُؤهّلَه للمشيخةِ ولقيادةِ العشيرة. عندما بلغَ مسعود العاشرةَ من عمره صارَ يُشاركُ في سباقاتِ الخيول، ويفوزُ بها، وعزا بعضُهمْ فوزَهُ لأنّه خفيفُ الوزنِ على ظهر الفرس، بينما قالَ العارفونَ أنّ فرسَ الشّيخِ ماجد أصيلةٌ، مفتولةُ العضلات، وهي من سلالةِ خيولِ سباقٍ متوارثة.
تزوّجَ مسعودٌ بناءً على رغبةِ أبيه وهو في العشرين من عمرِه، من بنتِ الشّيخِ محيلان أحدِ شيوخِ عشيرة بني خالد، الذي يسكنُ في باديةِ الشّام قريبًا من دِرْعا، في ذلك الوقتِ لم تكنْ هناكَ حدودٌ بين أقاليمِ الدّولةِ العُثمانيّة، مكثتْ معه عامين ونِصفَ العام، لم تُنجبْ فيهما، وعزوا ذلك بأنّها لا تزالُ صغيرةً في عمرها، ولمْ يُزوّجوه من غيرِها، لأنّها بنتُ شيخٍ لقبيلةٍ لها شأنُها، وحملتْ" صَبْحَه" ممّا أدخل الفرحةَ في قلبِ الشّيخِ ماجد، وفي قلوب أبناء وبناتِ العشيرة، لكنّ هذه الفرحةَ لم تكتملْ، فقد ماتتْ "صبحة" وهي تجمعُ الحطبَ بلدغةِ أفعى، فَعَمَّ الحزنُ مضاربَ العشيرة، وقد بدا الحُزنُ على الشّيخِ ماجد أكثرَ من غيرهِ، وردّد كثيرًا عبارةَ " يا سواد البَخت". خصوصًا أنّهم دفنوها بجانبِ مقامِ النّبيّ موسى دون عِلمِ أهلها؛ نظرًا لبُعدِ مضارِبِهم، وصعوبةِ إيصالِ الخبرِ إليهم، فـَ" إكرامُ الميت دفنه".
بعدَ مرورِ أربعينَ يومًا على وفاةِ "صبحه"، قالَ الشّيخُ ماجد لابنه مسعود:
ما رأيُكَ أنْ نذهبَ إلى ديارِ الشّيخِ محيلان، نُخبرُهم عن وفاةِ ابنتِهمْ صبحه، ونطلُبُ منهم يد فاطمة ابنتِهم الثّانية التي تصغُرُها عمرًا زوجةً لك؟
التفتَ مسعودٌ لأبيه وقال:
هل من اللائقِ أنْ نُخبرَهم بوفاة ابنتهم صبحة، ونطلبَ منهم يدَ شقيقتِها في الوقت نفسِه؟ هذا غيرُ معقولٍ، فخبرُ وفاةِ ابنتِهم صبحه سيكونُ صاعقًا عليهم، خصوصًا وأنّهم لمْ يحضروا جنازتَها.
ارتاح الشّيخُ ماجد من كلامِ ابنِه مسعود، ورأى فيه أنّ مسعودًا يُدركُ الأمورَ جيّدا، فقد انتبهَ لما لمْ ينتبهْ له أبوه، لكنّ الأبَ استصعبَ أنْ يبوحَ بذلك لابنِه. صمتَ الشّيخُ ماجدٌ قليلًا وقال:
إذنْ نذهب إليهم ونخبرهم عن وفاة صبحه، نبقى في ضيافتِهم ثلاثةَ أيّامِ ونعود إلى ديارنا، وبعدَ شهرٍ نسافرُ إليهم مرّةً أخرى، ونطلبُ منهمْ يدَ ابنتِهم فاطمة.
تنحنحَ مسعود وقال:
لا يمكنُ أنْ أتزوّجَ فاطمة شقيقةَ صبحه.
فسألَه أبوه: لِمَ يا ولدي؟
ردَّ مسعودُ ووجهُه عابس:
عندما كنت أزورُهم، تعاملتُ مع فاطمة وهي تعاملتْ معي وكأنّنا شقيقان، ونظرتي إليها يصعبُ تغييرُها.
وهنا تساءل أبوه:
لكنّ الشّرعَ حلّلها لك، وعندما تزوّجتَ صبحه كانت فاطمةُ محرّمةً عليك حُرمةً مؤقّتة؛ لأنّه لا يجوز الجمعُ بين أختين، وانتهت هذه الحُرمةُ بموت صبحه.
تنهّدَ مسعود تنهيدةً عميقةً وقال:
البناتُ كثيراتٌ "يابَه".
- إذن اختر بنتًا من بنات العشيرةِ؛ لِتّتزوّجَها.
- أعطني فرصةً يا أبي، كي يَخِفَّ حُزني على صبحه، وبعدها سأفكّرُ بالزّواج من أخرى.
- ماذا تقولُ يا ولد؟ لا حدادَ على النّساء.
- هذا ليس حِدادًا، فقدْ عشتُ "يابَه" مع صبحه عامين ونصف العام، كانت فيها -رحمها الله- الزّوجةَ الحبيبةَ الوفيّة، ووفاتُها كانتْ كارثةً عليّ، ويستحيلُ أنْ أتزوّجَ بعدها بهذه السّرعة.
- هِئ هِئ ما هذه العقليّةُ يا ولد؟ فأنتَ تعلمُ أنّكَ ابني الوحيدُ، ونُريدُ عزوةً تسندُكَ، فأنتَ شيخُ العشيرةِ بعدي.
- توكّل على الله "يابَه". لنْ أتزوّجَ قبل مرورِ عامٍ على وفاةِ صبحه.
- لا حول ولا قوّةَ إلَا بالله...فكّر بالموضوع، وستُغيّرُ رأيَكَ بعد أيّامٍ أو أسابيع قليلة.
الزّواجِ الثّاني
لم يُوافقْ مسعود على الزّواجِ مرّةً ثانيةً إلّا بعدَ عامٍ من وفاةِ زوجتِهِ صبحه. فخطبوا له صفيّة بنت عمِّه. وتزوّجها بعدَ أسبوعين من الخطوبة، وأقاموا له احتفالاتٍ امتدّتْ أسبوعًا كاملًا، وحضرَ الشّيخُ مليحان والدُ المرحومةِ زوجتِه صبحه هو وأولاده حفلَ الزّفاف.
لمْ تحملْ صفيّة في العامِ الأوّلِ من زواجها، ممّا أثارَ مخاوِفَ والدِهِ عليه من قِلّةِ الإنجاب، ولمّا حملتْ في بدايةِ العامِ الثّاني من زواجها، عمّتِ الأفراحُ مضاربَ العشيرة، وأوفى الشّيخُ ماجد" أبو مسعود" بنذرِه، فنحرَ خمسةَ خرافٍ ووزّعَها على فقراء العشيرة، وهو يدعو اللهَ ليلَ نهار أن تُنجبَ ولدًا ذكرًا؛ لِيَكونَ سندًا لأبيه، وفي اليومِ الّذي شاعَ فيه عن حَمْلِ صفيّة سألَ أبو ضبيع الشّيخَ أبا مسعود مازحًا:
يا شيخ ماجد، لقدْ ذبحتَ خمسةَ خرافٍ وفاءً لِنَذْرِكَ عندما علمتَ بأنّ صفيّة حامل، فكم خروفًا ستذبحُ عندما تلدُ؟
ابتسمَ الشّيخ أبو مسعود وأجاب:
إذا أنجبتْ ولدًا سأذبحُ عشرةَ خرافٍ عقيقةَ له، وإنْ أنجبتْ بنتًا سأذبحُ خمسةَ خراف.
فعاد أبو ضُبيع يمازحُه فقال:
يا رجُلُ من تُنجبُ البناتَ ستُنجبُ الأولاد، وهذا يعتمدُ على الزّوجِ فـ "مثلما يزرعُ يحصد"، وكلُّهُ حسبَ إرادة الله -سبحانه وتعالى- وهو القائل:" لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚيَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ."
وفرحتُنا كانت كبيرةً عندما حمَلتْ صفيّة، فلماذا الإجحافُ بحقّ البنات؟
التفتَ الشّيخُ أبو مسعود إلى "أبو ضُبيعٍ" وقال له:
نكايةً بكلامِكَ إذا أنجبتْ صفيّةُ بنتًا سأذبحُ اثني عشر خروفًا، سأوزّعُ لحومَ عشرةٍ منها على الفقراء، وخروفين سأُبقيهما عشاءً لمن يرتادون الدّيوان، وإذا أنجبتْ ولدًا سأذبحُ عشرةَ خراف.
ضحكَ أبو ضُبيعُ وقال:
أنا أُمازِحُكَ يا شيخُ، ولا أحدَ يُزاودُ عليكَ في الطّيبِ والكرم.
- أعرفُ أنَكَ تُمازِحُني، وأنت تعرف أنّ " مُزاحَ الرّجالِ جدّ". لكنّ أبا ضُبيع التفتَ إلى مسعود ابن الشّيخ ماجد وسأله:
ماذا تقولُ فيما قاله أبوكَ يا "أبو ماجد"؟
مسعود: لا كلامَ لي وأبي موجود، وأنا جاهزٌ لِتَنفيذِ ما يطلبُه.
ضحكَ أبو ضبيعُ مجاملًا مسعود وقال:
أشهدُ أنّكَ شيخٌ ابنُ شيخٍ.
مسعود: نعم أنا ابنُ شيخ، ولا شيوخَ لعشيرتِنا ما دام أبي -أطال اللهُ عمرَهُ- حيّا، وهو تاجٌ على رأسي.
غمزَ أبو ضُبيع الشّيخ ماجد وهو يبتسمُ وقال:
يا عمّي تربيةُ شيوخ- ما شاءَ الله عليك- فأبوك شيخُنا وتاجٌ على رؤوسنا جميعًا هو وأبوهُ وجدُّهُ من قبْلِه.
فرس الشّيخ:
عندما أدّى الشّيخُ ماجد فريضةَ الحجِّ قبلَ خمسِ سنوات، التقى الشّيخَ مِتعبًا، أحد شيوخِ قبيلة " اِعْنِزَة"، وحلَّ ضيفا عندَهُ لثلاثةِ أيّامٍ وثلثِ اليوم، أهداهُ الشّيخُ مِتعبٌ فرسًا عربيّةً أصيلةً عمرُها عامٌ واحد، قَبِلَ الشّيخُ ماجد هديّةَ الشّيخِ متعبٍ شاكرًا، نظرَ إلى الفرسِ فرآها عربيّةً أصيلةً من خلالِ صفاتِها، فحجمُها صغيرٌ نسبيًّا، رأسُها صغيٌر مُقعّرٌ، عيونُها كبيرةٌ داكنةٌ، فتحاتُ أنفِها واسعتان، ظهرُها قصير، شعرُها ناعم، بالإضافة إلى ذيلٍ مُرتفعٍ للأعلى، وأرجُلٍ وحوافرَ قويّة، لونُها رماديٌّ وفي جبينِها نجمةٌ بيضاء.
قالَ الشّيخُ متعب: هذه الفرسُ عربيّةٌ أصيلةٌ، عمرُها عامٌ، اسمُها " الحمامة" وهي سليلةُ فرسٍ أصيلةٍ توارثناها هي ونسلُها من مئاتِ السّنين، ونُهدي من نسلِها للشّيوخِ الأكارمِ مثلك يا شيخ ماجد ولا نبيعُها، ونُصدرُ شهاداتِ ميلادٍ لهذهِ الخيولِ، تُوَثِّقُ صِحّةَ نَسَبِها الأصيل، وسأعطيكَ شهادةَ ميلادِ "الحمامة"، وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". وأنتم في بلادِ المحشرِ والمنشر أصيلون وتليقُ بكم الخيولُ الأصيلةُ.
استمعَ الشّيخُ ماجد لحديث الشّيخِ متعب، فشكرَه على كرمِه النّابعِ من أصالتِه، وقال:
إن شاء اللهُ سنلتقي بكم عندما تشدّون الرّحالَ إلى المسجدِ الأقصى.
الشّيخُ متعب: خَيرُكَ السّابقُ يا شيخ ماجد، فعندما شددْنا الرّحالَ إلى المسجدِ الأقصى قبلَ خمسِ سنواتٍ أهديتني سيفًا من الفضّة،ِ أفاخرُ به أمام قبائل نجدٍ والحجاز، ووقتَها لم يكنْ معي شيءٌ يستحقُّ أنْ أُقَدِّمَهُ لك سوى فرسي الّتي أمتطيها، وهي والدَةُ "الحمامة"؛ لكن لِبُعدِ السّفر فإنّني لمْ أستغنِ عنها، فهي مطيّتي الّتي وصلتُ القدسَ وعُدْتُ منها إلى ديرتي على ظهرها، وهذه فُرصتي؛ كي أُقَدِّمَ لكَ هديّةً تليقُ بمقامِك، فـ "صاحبُ الأولى ما يِلْتَحق"، وأنتَ صاحبُ الأولى.
الشّيخُ ماجد: يعلَمُ اللهُ أنّ السّيفَ الّذي أهديتُكَ إيّاه، لمْ أتذكّرْهُ قبلَ حديثِكَ عنه، ولو كان في جُعْبَتي ما أُقدّمُهُ لكَ هديّةً جزاءً للفرس ما تردّدت في ذلك.
الشّيخ متعب: أدامَ اللهُ عليكَ منْ خيراتِه يا شيخ، فأنت السّابقُ وصيتُكَ في الكرمِ والشّهامةِ يسبقُ اسمَك.
غادرَ الشّيخُ أبو مسعود ورفيقُهُ أبو ضُبيع مضاربَ الشّيخِ متعب بالحفاوةِ الّتي استُقْبِلا بها.
اضطرَّ الشّيخُ ماجد أنْ يُلغيَ رحلةَ العودةِ من الحجيجِ في الباخرةِ الّتي استقلّها من ميناءِ العقبةِ في شرقِ نهرِ الأردنّ إلى مدينة جدّة؛ لِيَعودَ ممتطيًا الفرس، وعندما عرضَ عليه رفيقُهُ أبو ضُبيع أن يعودَ هو بالفرس؛ كي يرتاحَ الشّيخُ في السّفينة أجابه:
" صاحبُ الحاجةِ أحَقُّ بِحَملِها" وهذه الفرسُ هديّةٌ ثمينةٌ جدًّا، ولا تُقدّرُ بثمن، وأنا لا أتعبُ مِنَ الفروسيّةِ، ولن أسَلِّمَ "الحمامةَ" لأحد، وطريقُ العودةِ فرصةٌ لا تتكرّرُ؛ لأتعرّفَ على الحمامة وفرصةٌ لها؛ لِتَتعرّفَ هي الأخرى عليّ.
وصلَ الشّيخُ ماجد مضاربَ عشيرتِه بعدَ أسبوعينِ من مغادرتِه للدّيارِ الحجازيّة، فاستقبلوهُ استقبالَ الفاتحين، وصلَ قبلَ أبي ضُبيع الذي عادَ في السّفينة. سلّم الفرسَ لابنِه مسعود؛ كي يربطَها بجانبِ فرسِهِ، وأن يعلِفَها، وفي الدّيوانِ طلبَ منه أنْ يُمرِّنَها يوميّا بأن يمتطيَها ويُطارِدَ عليها لمدّةٍ لا تقلُّ عن نصفِ ساعةٍ؛ كي تتعرّفَ عليه، وَلِيُشاركَ بها في سباقات الخيولِ الأسبوعيّةِ التي يقيمُها أبناء العشائر.
في اليومِ التّالي خرَجَ أبناءُ العشيرةِ ونساؤها وأطفالُها وشيوخُها؛ لِيَنظروا الفرسَ الجديدةَ، وكأنّها عروسٌ غريبةٌ تزوّجَها أحدُ فرسانهم، مع أنّ الخيولَ الأصيلةَ ليستْ غريبةً عليهم، فالبعضُ منهم يملكونَ خيولًا أصيلة، لكنّ هذه الفرسَ تبدو رشيقةً أكثرَ من غيرها، فعندما تمشي فإنّها تتبخترُ كما العروس ليلةَ زفافِها، حتّى إنَّ مسعود ابنَ الشّيخِ امتطاها وسارَ بها إلى مقامِ النّبيِّ موسى؛ لِيَسقيَها، وما أنْ حرّكَ ساقيهِ على بطنِها، حتّى طارتْ به تسابقُ الرّياحَ في يومٍ ماطر، وعندما عادَ بها إلى مضاربِ العشيرة، أرخى لها اللجامَ قليلًا، فسارت به خبَبًا، ربطَها في المذودِ وعلفَها شعيرًا، وفي الدّيوانِ سألَهُ أبوه:
كيفَ وجدتَ الحمامةَ يا مسعود؟
أجابَ مسعود بحماسٍ بائن:
الحمامةُ اسمٌ على مُسمّى، فعندما تعدو يشعرُ فارسُها كأنّه يطيرُ في الفضاء، وعندما تمشي خبَبًا، فإنّها ترقصُ مثلَ الصّبايا.
بعد عودةِ الشّيخ مسعود من الحجِّ جاءَ حاكم دار القدس ولفيفٌ من أعيانِ المدينةِ؛ لِتَهنِئَتِه بسلامةِ العودة، استقبَلَهم الشّيخُ ماجد وأعيانُ العشيرةِ بالتّرحاب الذي يليق بمنصبِهم، كانَ الحاكمُ دار يمتطي فرسًا هرمةً، يبدو أنّها ليست أصيلة، فأذُناها مُرْتخيتان وكذلكَ رقبتُها، ذيلُها غيرُ مرتفع، بطنُها منفوخٌ، أمّا صحبُه فقد كانوا يمتطونَ البِغالَ والحمير.
في أثناء جلوسِهم في ديوان الشّيخِ ورواقُ البيتِ مرفوع، وقعتْ عينُ الحاكم دار
على فرَسَيِّ الشّيخ ماجد، فأُعْجِبَ بالحمامة فأشار إليها وسأل:
مِنْ أين اشتريتَ تلكَ الفرس يا شيخ؟
التقطَ الشّيخُ ماجدٌ نوايا الحاكم دار فقال وهو يُشيرُ إلى فرسِهِ القديمةِ الشّهباء:
تلكَ الفرسُ الشّهباء هديّةٌ منّي إليكَ يا طويلَ العمر.
أمّا تلكَ وأشارَ إلى الحمامة، فهي ليستْ عزيزةً عليك يا باشا، لكنّها هديّةٌ من الشّيخ متعب النّجديّ، وكما تعلم" الهديّةُ لا تُهدى ولا تباع" لكنّي أعِدُكَ أنّ بِكرَها سيكون من نصيبك سواء كان مُهْرًا أو مُهرة.
قَبِلَ الحاكمُ دار هديّةَ الشّيخِ ماجد شاكرًا وأضاف:
وأنا سأُبقي فرسي عندكَم؛ لِتَأكُلَ ممّا تُنبتُ الأرضَ، ولِيَتَعلّمَ صِبْيانُكم التّخييلَ عليها، فهي هَرِمةٌ، لِذا لم أقُلْ أنّها هديّةٌ منّي إليكم.
الشّيخ ماجد: كمْ عمرُ فرسِكَ؟
– خمسةٌ وثلاثونَ عامًا.
- هذا يعني أنّها في نهاية نِهايات عمرها.
- الأعمارُ بِيَدِ الله.
امتطى الحاكمُ دار الشّهباءَ وغادرَ وصَحْبُهُ بعدَ أنْ تناولوا طعامَ العشاء،
بعدَ أسبوع شاركَ مسعود بسباقِ الخيول على ظهرِ الحمامة، التي تقدّمتْ بِسهولةٍ على الخيولِ والأحصنةِ الأخرى، فأقسمَ الشّيخُ أبو مسعود أن يكونَ عشاءُ المتسابقين في بيتِهِ، مُخالِفًا بذلكَ العادةَ التي تقضي بأنّ العشاءَ يكونُ في بيتِ صاحبِ الفرسِ الأخيرةِ في السّباق.
بعدَ أنْ غادروا ضحكَ سويلمُ وعددٌ من الحضورِ قهقهةً فقال سويلم:
لولا نباهةُ الشّيخِ ماجد، لراحتِ الحمامة، لكنّه بنباهتِه التقطَ نوايا الحاكمِ دار سريعًا.
فعقّبَ أبو ضُبيع وهو يعضُّ على ماسورةِ غليونه:
كلّنا نُدْرُكُ نباهةَ شيخِنا، فهو لمّاحٌ لا تفوتُه فائتة.
مات الشّيخ عاش الشّيخ
عندما دخلتْ صفيّة شَهرَها السّابع في حمْلِها بابنِها ماجد، جدّدتْ بعدَ صلاةِ الفجرِ مباشرةً القهوةَ المُرّةَ "السّادة" لديوان عمّها الشّيخ ماجد- كما تفعلُ كلَّ يومٍ- وعندما وصلتِ الدّيوانَ أضافتْ بعضَ الفحمِ على الموقد ووضعت دلّةَ القهوةِ عليه، صَبّتْ فنجانَ قهوةٍ لِتُقَدِّمَهُ لعمِّها، وهي تقول:
تفضّلْ يا عمّ.
لكِنَّ العمَّ لم يتحرّك، وضعتْ يدَها على جبينِه فوجدتْه باردًا، انتبهتْ أنّهُ لا يتنفّس، وتأكّدتْ من وفاتهِ، فأطلقتْ صرخةَ حُزْنٍ مُدَوّيةً، فهرع إليها زوجُها مسعود شاهرًا سيفَه، دخلَ الدّيوان فَزِعًا وسألَها:
ماذا جرى لكِ يا امرأة؟ ولِمَ صرختِ؟
ردّتْ عليه باكيةً:
عمّي ميّتٌ يا مسعود.
اقتربَ مسعود من جثمانِ أبيِهِ يتحسّسُه؛ ولمّا تأكّدَ من وفاتِه، ربطَ رأسَه بكوفيّتِهِ من تحتِ لِحْيَتِه، عقدَها فوقَ مُقدّمةِ رأسِه؛ لِيُغلِقَ فمَهُ، كما ربط يديه على صدرِه، وربطَ إبهامَي قدمية بخيط؛ لتبقى قدماه مضمومتان بجانب بعضِهما، فعلَ ذلك وهو يحوقلُ ودموعُه تنسابُ من عينيه.
هُرِعَ رجالُ القبيلةِ عندما سمعوا صرخةَ صفيّة، وأوّل من وصلَ منهم أبو ضبيع الذي تساءل:
يا دافعَ البلاءِ ماذا حصلَ يا مسعود؟
اختنق مسعودُ بدموعهِ وهو يشيرُ إلى جثمان والده وقال:
كما ترى الوالدُ أعطاكَ عمرَهُ.
طلبَ أبو ضبيعُ من مسعود فرشةً نظيفةً؛ ليمدّدوا عليها الجثمان، في وسطِ الدّيوان، وطلبَ من شابّينِ من شبابِ العشيرة أنْ يذهبا؛ لِيَحفِرا قبرًا للشّيخ الرّاحل، في مقبرةٍ مقامِ النّبيّ موسى-عليه السّلام-. وقال لِمنْ تواجدَ من الرّجال، هذه سُنَّةُ الحياةِ، و" كلّ نفسٍ ذائقةٌ الموت"، رَحمَ الله شيخَنا ماجدًا، ونبايعُ من هذه الّلحظةِ نجْلَهُ مسعود؛ لِيَخْلِفَهُ في المشيخة ابتداءً من هذه الّلحظةِ وقبلَ مواراةِ الشّيخ ماجد التّراب، وردّد الرّجال خلفَه:
نترحّمُ على الشّيخِ ماجد، ونُبايِعُ ابنَهُ الشّيخَ مسعود، ونُباركُ له بالمشيخة.
في مذودِ الخيلِ صارتِ الحمامةُ تحفرُ الأرضَ بحافر قدمِها الأماميّةِ اليُمنى و" تُوَهْوِهُ"، فتأكّد من رأوها أنّها قدْ أدركتْ من خلالِ عويلِ النّساء وهرولةِ الرّجالِ إلى الدّيوان أنّ فارسَها الشّيخَ ماجد قد مات، فقالَ أبو ضُبيع وهو أكبرُهم عمرًا، وأكثرهم درايةً:
أطلقوا الحمامةَ من مربطِها؛ لِتُشارِكَ في جنازةِ فارسِها.
أطلقوا الحمامةَ فهُرِعت إلى الدّيوانِ، وقفتْ أمامه وكأنّها تطلبُ الإذنَ لِرُؤيةِ فارسها، فطلَبَ أبو ضُبيع من شابّين أن يحملا الجثمانَ، وأنْ يَمُرّا به أمامَ الحمامةِ وهو يقولُ:
الفرسُ الأصيلةُ تعرفُ فارِسَها وتُصادقُهُ، وعندَ موتِهِ تحزنُ عليه كما تحزنُ المرأةُ على ابنِها أو زوجها المُتَوَفّى.
لَمْ يستغربْ أحدٌ ما قالَهُ أبو ضُبيع، فأبناء الباديةِ يقتنون الخيولَ الأصيلةَ ويعرفون طِباعَها.
عندما مرّروا جُثمانُ الشّيخِ أمامَ الحمامةِ اقتربتْ منه، وضعتْ رأسَها قريبًا من وجهِهِ، ودموعُها تنسابُ بغزارة، شمّتْ رائحتَهُ، شَخرتْ وكأنّ أنفاسَها قد انقطعتْ، وهْوَهَتْ وابتعدتْ قليلًا وهي تديرُ رأسَها إلى الجِهَةِ الأخرى، وكأنّها تُواري دموعَها عن الآخرين.
هلّلَ الحضورُ وكبّروا وهم يُراقبون حالَ الحمامةِ. فقالَ أبو ضُبيع:
الخيولُ الأصيلةُ أكثرُ وفاءً لِصاحبِها من البشر، فالبشرُ يُنافقون والخيولُ لا تعرفُ النّفاق.
أمّا فرسُ الحاكمِ دار فقد وجدوها نافقةً في مربضِها.
عندما حملوا جُثمانَ الشّيخِ إلى المقبرةِ رافقتْهمُ اليمامةُ وسارتْ بجانبِ الجثمانِ وهي تُوَهْوِهُ، صلّوا عليه في مسجدِ مقامِ النّبيّ موسى، ولمّا وضعوه في القبرِ اقتربتِ اليمامةُ وألقتْ عليه النّظرةَ الأخيرة، ثمّ انصرفتْ تعدو غاضبةً تبتعدُ عِدّةَ مئاتٍ من الأمتارِ ثمّ تعود. ولمّا أتمّوا الدّفنَ وانصرفوا عائدين إلى مضاربهم، انتبهَ لها الشّيخُ مسعود، فناداها، ولبّتِ النّداءَ وركضتْ خببًا حتّى وصلتْ إليه، حسّس على جبينِها وعلى رقبتِها يواسيها، ومشتْ بجانبِه.
لمّا رأوا فرسَ الحاكم دار نافقةً، طلبَ أبو ضُبيع من الشّبابِ أنْ يجرّوها بعيدًا عن حظيرةِ اليمامةِ؛ لتكونَ طعامًا لكلابِهم.
وضحا
بدأ ماجدٌ الصّغيرُ يَدْرُجُ على الأرضِ للمرّة لأولى بعد أنْ صار في الشّهر الثّامن عشر من عمره، فكانتْ فرحةُ والديه وجدّته زبيدة لا توصفُ وهم يرونه ماشيًا.
بعدَ وفاةِ الشّيخِ أبي مسعود بخمسة عشر شهرًا أنجبتْ صفيّةُ وليدَها الثّاني، وكانت طفلةً سمّاها أبوها وضحا على اسمِ والدتِهِ، التّي لمْ يرَها؛ لأنّها تُوفّيت في المخاضِ عندما أنجبتْهُ. لَمْ تفرحْ صفيّةُ ووالدتُها زبيدة بالمولودة الجديدةِ، فقد كانتا تتمنّيان لو أنّها ولدٌ.
ذبحَ الشّيخُ مسعود اثني عشر خروفًا عقيقةً للمولودة الجديدةِ، وزّعَ لُحومَ عشرةٍ منها على المحتاجين، وأبقى لُحومَ خروفين اثنينِ عشاءً لمن يرتادون ديوانَه. ولمّا قال أبو ضُبيع ناصحًا:
لا داعيَ لهذا الإسرافِ يا شيخ؟
ردّ عليه الشّيخُ مسعودُ متسائلًا:
ألا تذكرُ ما قاله والدي -رحمَهُ اللهُ-؟
– ماذا قال؟
– قال: عندما حملت صفيّة بماجد ردًّا على مُزاحكَ معه: إذا أنجبتْ صفيّةُ ولدا سأذبحُ عشرةَ خرافٍ، وإذا أنجبتْ بنتًا سأذبحُ اثني عشرَ خروفًا.
ضحك أبو ضبيع وقال:
يا رجلُ كنتُ أُمازحُ الشّيخَ ماجدًا- رحمه الله-.
– أعرفُ أنّكَ كنتَ تُمازحُهُ، وعرفَ هو أيضًا أنّكَ تُمازحُه، وأعلمُ أنّهُ لو طالَ به العمرُ حتّى يومنا هذا لذبحَ اثني عشرَ خروفًا -كما قال- وأنا لا أخونُ عهدًا لأبي، وأعتبرُ ما قاله وصيّةً يجبُ تنفيذُها.
– "الجودُ من الموجود" وأدام اللهُ عليكَ من خيراته.
عندما وصلَ سويلم الدّيوان قال:
مبروكةٌ العروسَ الجديدةَ يا شيخُ مسعود، ماذا سمّيتَها؟
الشّيخُ ماجد: بوركتَ يا سويلم، سمّيتُها وضحا على اسمِ المرحومةِ والدتي.
أبو ضُبيع: لقد أعدتَ اسمَ أبيكَ عندما سمّيْتَ ابنَك "ماجد"، وها أنت تُعيدُ اسمَ أمِّكَ بتسمية ابنتِك على اسمِها.
استغربَ الشّيخُ مسعود كلامَ أبي ضُبيع وسأل:
هل هناك خطأٌ في ذلك؟
أبو ضُبيع: بل هذا هو الصّوابُ بعينِه، وكان أبوك -رحمه الله- رجلًا بكلّ ما يعنيه الكلام، وأمثاله قليلون. وبِرُّكَ لوالديك واجبُ تُحْتَرَمُ عليه في الدُّنيا وتُثابُ عليه في الآخرة.
ماجد الصّغير وشقيقته
لفظتْ وضحا" يابَه ويمّه" ونبتتْ نواجذُها وهي في بداية الشّهر الرّابع من عمرِها، وحَبَتْ وهي في بداية الشّهر السّادس، ودرَجتْ وهي في نهاية الشّهر الحادي عشرَ من عُمرِها، وصارتْ تُطاردُ شقيقَها ماجد عندما يبتعدُ عنها، واستقوتْ عليه وصارتْ تضربُه، فيعودُ إلى حضنِ والدتِه باكيًا شاكيًا، فصارتْ أمُّهُ تُحرّضُه؛ لِيَضْربَها دفاعًا عن نفسه، لكنّه لم يستجبْ لها.
تمنّتْ والدتُهما وجدّتُهما لو أنَّ ماجدًا بحذاقةِ شقيقتِه.
بعدَ العامِ الأوّلِ من عمرِ وضحا، قالَ رجالُ العشيرةِ ونساؤها المُسنّون أنّ وضحا تُشبِهُ جدّتَها لأبيها وضحا، ولمّا سمع الشّيخُ مسعود ذلك زادَ حبُّه لابنتِه، وصارَ يتمعّنُ بملامحِها في محاولةِ منه لرَسْمِ صورةٍ خياليّة لوالدتِه الّتي لمْ يرَها.
لاحظَ الشّيخُ مسعود أنّ ابنتَهُ وضحا تنتبِهُ لكلِّ شيءٍ تراهُ أو تسمعُه، كما أنّها تُكْثِرُ من الأسئلةِ، وكأنّها تريدُ معرفةَ كلِّ شيءٍ دُفعةً واحدةً، على عكسِ شقيقِها ماجد، الذي كان بطيءَ الحركةِ ونادرًا ما ينتبهُ للأشياءِ الَلافتةِ لمثلِ من هم في سنّهِ، وهذا ما جعلَ الأبَ يتعلّقُ بوضحا أكثرَ من ماجد.
حرصَ الشّيخُ مسعودعلى تعليمِ ولدَيْه الفروسيّةَ منذُ الصّغر، لاحظَ أنّ ماجدًا يخافُ الاقترابَ من الفرسِ، ورغمَ تكرارِ التّجربةِ معه إلّا أنّه لم يكسرْ حاجزَ الخوفِ عندَهُ إلّا بعدَ سنِّ العاشرة، في حين كانت وضحا تعشقُ الخيولَ، حتّى أنّهم انتبهوا إلى أنّها تذهبُ وهي في الثّالثةِ من عُمرِها إلى الحمامَةِ وتُحاولُ الّلعبَ معها، تقتربُ منها، تتحسّسُ قائمتيْها الأماميّتين، والحمامةُ بدورِها تُنْزِلُ رأسَها وتشمُّ رائحتَها، فتضعُ وضحا يدها على وجهِ الحمامةِ تتحسَّسُهُ، فغدَتا صديقتين، وعندما ترى الحمامةُ وضحا تصهلُ صهيلًا ناعمًا وكأنّها تدعوها إليها، امتطتْ وضحا اليمامةَ -بمساعدةِ أبيها- وهي في الخامسة من عمرِها، وأجادتِ العدوَ على ظهرِ الحمامةِ وهي في السّابعة، فصارتِ الفروسيّةُ رياضتَها المُحبّبةَ، التي تُمارسُها بشكلٍ شِبْه يوميّ، على عكسِ شقيقِها ماجد الّذي لا يمتطي الحمامةَ، ولا يُحِبُّ مُجالسةَ الرّجالِ في الدّيوان إلّا تحت إلحاحِ أبيه.
الزّواج الثّالث
لَمْ يتذمّر الشّيخُ مسعود، ولم يبدِ عدمَ رضاه عن حالةِ ابنِه ماجد، تمامًا مثلما لمِ يُعبِّرْ يوما عن سعادتِه بابنتِه وضحا، فشيوخُ العشائرِ صناديقٌ مقفلةٌ، لا أحدَ يَعرفُ ما فيها، وممّا أوصاهُ به والدُهُ -رحمه الله-، الّتي ترسّختْ في ذاكرتِه، أن يُقِلَّ من الكلام، وأن لا يتكلّمَ إلى في مواضِعِ الكلام، فكان يقولُ له:
"لا تكثّرْ الْهفّ تِنْهفّ تِرْخَصْ لو كنت غالي".
لكنّه لمْ يَغِبْ عن بالِهِ يومًا أنّ ابنَهُ ماجدًا لن يكونَ مؤهّلًا للمشيخةِ من بعدِه، ولا أحدَ يضمنُ أن تُنجبَ زوجتُه صفيّة ولدًا آخرَ حاذقًا مثل شقيقتِه وضحا، لِيَخْلِفَهُ ويستلِمَ المشيخةَ من بعده، مع أنّ صفيّةَ أنجبتْ ولدًا ثانيًا بعد عام من ولادتِها لوضحا.
بعدَ وفاة أبيه بعامٍ لمْ يتردّدِ الشّيخُ مسعود في هذه القضيّة، وحسمَ أمرَهُ بٍسُرْعةٍ وقرّرَ الزّواجَ من أخرى، دون أن يستشير أحدًا، فتعدُّدِ الزّوجاتِ أمرٌ عاديٌّ عند أبناء البادية، وكثيرًا ما يُردّدون "الخَيِّر معه ثنتين وثلاثة"، والشّيخُ مسعودٌ على يقينٍ بأنّ كثيرين يتمنّون مصاهرتَه، ولا يُمكنُ أن يردّوا له طلبًا، فاستعادَ بذاكرتِه شيوخَ القبائلِ والعشائرِ الذين يعرِفُهم ويعرفونَه، وسبقَ وأنْ زارهم رفقةَ المرحوم أبيه أكثرَ من مرّة وبمناسباتٍ مختلفةٍ، كما أنّهم حلّوا مرّاتٍ عديدةً ضُيوفّا على أبيه، ومنْ سمع منهم عن وفاة والدِه الشّيخ ماجد جاء مُعزّيًّا، حتّى إنّ أحدَ شيوخِ مدينة حلب جاءَ يُعزّي بعد الوفاة بعشرةِ أشهرٍ، عندما سمع بخبر الوفاة.
ذاتَ مساءٍ وفي أثناءِ التّعليلةِ في الدّيوان قالَ الشّيخ مسعود لأبي ضُبيع أمام جميعِ المُتواجدين:
جهّزْ نفسكَ غدًا؛ كي نُسافرَ إلى الشّامِ في تجارةٍ مُربحة.
تفاجأ أبو ضُبيع بالخبرِ وسأل:
تِجارةُ ماذا؟
قال الشّيخُ مسعود وهو يكتُمُ مُبْتغاه:
سمعتُ أنّ أحدَهم يعرضُ قطيعَ غَنَمٍ حلوبٍ مُكَوّنٍ من خمسمائة نعجة.
أبو ضُبيع: الغنمُ الشّاميّةُ معروفةٌ بأنّها حلوبةٌ.
سويلم: هذا كلامٌ سليمٌ، وقدِ التقيتُ بِمُرَبّي أغنامٍ في باديةِ شرقِ الأردنّ، ولفتَ انتباهي أنّ أغنامَه لها أليَةٌ كبيرةٌ يتوسّطُها عُصعُصٌ بحجمِ أليَةِ أغنامنا، فسألتُه عن مكانِ تواجُدِ هكذا أغنامٍ، فأخبرني أنّها من باديةِ سوريّة، وأكّد أنّها حلوبةٌ، لكنّه نوّهَ أنّها تعيش في السّهولِ، ويصعبُ عليها العيشُ في الجبالِ لِثِقَلِ ألياتها.
لم يُصدّقْ زميتانُ كلامَ سويلم فقال:
وَحِّدْ ربَّك يا سويلم...هذا كلامٌ غير معقولٍ.
استاءَ سويلم من تعقيبِ زميتان فقال:
لا إلهَ إلّا الله...هلْ كفرتُ أنا يا رجلُ؟
فتحَ زميتانُ فمَهُ؛ لِيقولَ شيئًا ما، لكنّ أبا ضبيع سبقَهَ قائلًا:
كلامُ سويلم صحيحٌ، وقد رأيتُ أغنامًا كثيرةً كالّتي تحدّثَ عنها.
ارتاح سويلم لِشهادةِ أبي ضُبيع، ولمْ يَعُدْ بحاجةٍ إلى الكلامِ، لكنّهُ نظرَ إلى زميتان نظرَةً فيها عتابٌ.
سادتْ لحظةُ صمتٍ قطعَها أبو ضُبيع عندما قال للشّيخِ مسعود:
طلبُكَ مُستجابٌ يا شيخ، وتُسعدُني رِفقتُك.
الشّيخُ مسعود: هذا شرفٌ لي يا عمّ، وسنغادرُ بعد صلاةِ الفجرِ مباشرة.
– كما تُريدُ يا طويلَ العمر.
استأذنَ أبو ضُبيعٍ وغادرَ الجلسةَ وهو يقول:
مِشوارُنا غدًا طويل... ولا بُدَّ من الرّاحة.
تَبِعَهُ مَنْ تواجدوا في الدّيوان جميعُهم وسويلم يقول:
دعونا نترك الشّيخَ أبا ماجدٍ يستريحُ استعدادًا للسّفر.
بعدَ صلاةِ الفجرِ أخبرَ الشّيخ مسعود صفيّة زوجتَه أنّه سيغيبُ بضعةَ أيّامٍ.
فقالتْ لهُ: رافقتكَ السّلامةُ، دون أنْ تسألَه عن سبب غيابِه، فممنوعٌ على النّساء أنْ يسألنَ رجالَهُنّ عمّا يفعلون، وإلى أينَ يذهبون.
خرجَ الشّيخُ وأسرجَ فرسَه اليمامة، وأسرجَ أبو ضُبيع فرسَهُ الشّهباء، امتطى كلٌّ منهما فرسَه، وغادرا المكان، مِنْ أريحا اتّجها شمالًا، وعندما وصلا بيسان اتّجها شرقًا؛ لِيَعْبُرا نهرَ الأردنّ مِنْ مخاضةٍ يعرفانها، فلمْ تكنْ جسورٌ على النّهر، ومِنْ شرقِ النّهر اتّجها شمالًا باتّجاهِ: أمِّ قيس"، فقالَ أبو ضُبيع:
إلى أينَ المسيرُ يا شيخ؟ فكلامُكَ عن تجارةِ الأغنامِ كان تمويهًا مقصودًا منك؟
ابتسمَ الشّيخُ مسعود وسأل:
كيفَ عرفتَ؟
أبو ضُبيع: من ملامحِ وجهِكَ! وأنتَ لستَ بحاجةٍ إلى الأغنام، فعندَكَ منها الكثيرُ، وأنت لا تُتاجرُ بها.
الشّيخُ مسعود: أنتَ رجُلٌ نبيهٌ ولمّاحٌ. كنتُ سأخبرُكَ الصّحيحَ عندما نصلُ "أمّ قيس"، لكنْ بما أنّكَ سألتَ الآنَ فسأصدُقُكَ القولَ، فَمِثْلُكَ لا يُخفى عنه شيءٌ، أنا ذاهبٌ إلى باديةِ دِرْعا، لأطلُبَ يدَ بنتِ الشّيخِ همّام شقيق شيخِ بني خالد الشّيخ مليحان.
- على بركةِ الله. هذا خبرٌ يُفرُحني. فالخيّرون أمثالكَ عندهم ثلاثُ زوجاتٍ أو أربعُ.
تناولوا فُطورَهُم في اربد، وواصلوا طريقَهم إلى درعا، تارةً يتركان فرسَيهما تعدُوان وكأنّهما في سباق، وتارةً يتركانها تسير خبَبًا. وصلا مضاربَ الشّيخ مليحان عندَ صلاةِ العصر، تَفاجأَ الشّيخُ مليحان عندما رآهم، فوقف هو وشقيقُهُ همّام أمامَ الدّيوان وقال:
أهلًا وسهلًا بالغاليين.. مفاجأةٌ حلوةٌ انتظرناها طويلًا.
ردّ عليه الشّيخُ مسعود وأبو ضُبيع بصوتٍ واحدٍ:
أهلًا بكم، ونحن سعداءُ بضيافتِكم.
تصافحوا عناقًا، وعندما دخلوا الدّيوان وقفَ مَنْ يتواجدون فيه لاستقبالِهم، فعرّفَ الشّيخ مليحان عليهما، كما عرّفهما على الحضور، وفي مُقّدمتهم فالح وهو يقول:
هذا فالح زوجُ ابنتي فاطمة، وأشارَ إلى الشّيخ مسعود وقال:
وهذا يا فالح الشّيخ مسعود زوجُ المرحومة بنتي صبحه، فتعانقا.
شعرَ الشّيخُ مسعود براحةٍ تامّةٍ عندما تعرّفَ على فالح، فزواجُ فاطمة شقيقةُ المرحومةِ صبحه أزاحَ عن كاهلِه حرَجا كبيرًا؛ لأنّه يعتبرُها مثل أختِه، وسيطلُبُ الزّواجَ من بنتِ عمِّها، مكثا في ديوانِ الشّيخِ مليحان ضيوفًا مُعَزّزين مُكَرّمين ثلاثة أيامٍ وثُلثَ اليوم، كما تقتضي العادات، لَمْ يسألُهما أحدٌ عن سَبَبِ زيارتِهما، وهما لَمْ يبوحا بشيءٍ. بعدها قالَ الشّيخُ مسعود مُخاطِبًا الشّيخَ مليحان، وشقيقَهُ الشّيخَ همّامًا:
لنا عندَكما طلبٌ يا وجوهَ الخير.
ردّ عليهِ الشّيخُ مليحان باسمًا:
طَلبُكُما مُجابٌ إنِ استطعناه.
فقالَ أبو ضُبيع:
إن شاءَ اللهُ أنّكم تستطيعونه، نُريدُ شيماءَ بنتَ الشّيخِ همّام عروسًا للشّيخِ مسعود على سنّةِ اللهِ وسُنّة رسولِه:
الشّيخُ مليحان: هذا شرفٌ لنا يا وجوهَ الخير.
والتفتَ إلى أخيِهِ همّام وقالَ لهُ:
ردّ على الطّلبِ يا همّام.
همّام: لا كلامَ لي وأنت موجود يا شيخَنا، وما ترضاهُ أنت أرضاهُ أنا وابنتي.
ضحك الشّيخُ مليحان وقال:
مبروكةٌ عليكَ شيماء يا شيخ مسعود، "هديّه ما مِنْ وراها جَزِيّه"، فأنتَ صهرُنا أوَّلًا وأخيرًا، ونعتبرُكَ واحدًا منّا.
ابتسم الشّيخُ مسعود وقالَ:
باركَ الله بكم، ومصاهرتكم شرفٌ لنا، ومهرُ شيماءَ مئةٌ مِنَ الأغنامِ، ومصاغٌ ذهبيٌّ وكِسوةٌ يليقان ببناتِ الشّيوخِ.
ضحكَ الشّيخ مليحان وقال:
يا ولدي قلتُ لك" هديّة ما مِنْ وراها جزيّه"، ومصاغُ شيماءَ وكِسوتُها على أبيها، وكي يُغلِقَ النّقاشَ بهذا الخصوص أضاف:
ومِنْ خوفِ الوقوعِ في الحرامِ فإنّ مهرَها ليرةَ ذَهَبٍ عثمانيّة. ومُصاهرتُكم أغلى مِنَ الذّهب ومِنَ الأغنام، وزواجِ البناتِ للسّترِ وليسَ للتّجارة، وَلْنَقْرأ الفاتحةَ على هذهِ النّيّة.
شكرهما الشّيخُ مسعود قائلًا:
غمرتمونا بكرمِكم الزّائدِ، وهذا ليس جديدًا عليكم.
باركوا للشّيخِ مسعود بعروسِه الجديدة. وهنا سألَ الشّيخُ مليحان:
متى تنوي الزّواجَ يا مسعود؟
- "خيرُ البرِّ عاجلُه يا عمّ"، متى تسمحون لي سأتزوّج.
التفتَ الشّيخُ مليحان إلى شقيقِه همّام وأمرَهُ:
اذهبْ إلى زوجتِكَ وابنتِكَ أخبرْهما أنّ شيماء صارتْ عروسًا للشيّخ مسعود ابن الشّيخ ماجد، وأنّ إشهارَ الزّواجِ يبدأُ مِنْ هذا اللحظةِ، وحفل الزّواجِ سيكونُ خلالَ هذا الأسبوع.
عندما أخبرَ همّامُ زوجتَهُ هاجر والدةَ شيماء بالموضوع أطلَقتْ زغرودةَ فَرَح، فقالَ لها زوجُها:
تعالي أنت وابنتُكِ وسَلِّما على العريسِ وقريبِه الذي يُرافقُهُ؛ لِتَتَعَرّفا عليه، ولِيَتَعَرّفَ هو عليكما، فلا يوجدُ غرباءُ في الدّيوان، و" التّعارفُ مِنَ السُّنَّةِ."
فتساءلتْ زوجتُهُ:
أليس العريسُ هو الشّيخُ مسعود ابنُ الشّيخ ماجد؟ الذي تزوّجَ المرحومةَ صبحه بنت الشّيخِ مليحان؟
همّام: نعم هو؟
ابتسمتْ شيماءُ ووالدتُها تقول:
إنّنا نعرفُه منذُ تزوّجَ المرحومة.
لكنَّ شيماء تحايلتْ حتّى ترى عريسها فقالت:
أنا لا أعرفُهُ.
في الدّيوانِ صافحتْ هاجرُ الشّيخَ مسعود فقبّلَ يدها، وقبّلتْ هي وجنتيهِ، فالحماةُ مثل الأمّ. في حينِ قبّلتْ شيماءُ يدَ عريسِها ويدَ قريبِه المُسِنِّ" أبو ضُبيع. وقالَ الشّيخُ مليحان لِشيماء:
اجلسي بجانب خطيبكِ يا شيماء.
صبَّ خادمُ الدّيوانِ القهوةَ لِهاجرَ ولابنتِها شيماء. طلبَ الشّيخُ مليحان منه أنْ يدورَ بالقهوةِ على الجميع. وعندما مدّ الخادمُ فنجانَ القهوة لأبي ضُبيع أشارَ إليهِ الأخيرُ، كي يمُدَّها أوّلًا للشّيخِ مليحان، فقالَ مليحان:
" لا يُكرَمُ الرّجلُ في بيتِهِ" يا أبا ضُبيع.
أبو ضُبيع: نحنُ "نعرفُ مقاديرَ الرّجال" يا شيخ.
الشّيخُ مليحان: مقاديرُ الرّجال في بيوتهم بإكرامِ ضيوفِهم.
احتسى أبو ضبيع القهوةَ، وبعدها تناولَ الشّيخُ مسعودٍ الدّلّةَ منه، صبّ القهوةَ واقفًا وقدّمَ الفنجانَ للشّيخِ مليحان ولشقيقِه همّام وهو يقول:
أنا صِهرُكم وواحدٌ منكم ومثل أبنائكم، والمثلُ يقول:" كون نَسيب ولا تكون قريب".
احتسى الشّيخ مليحان ومن بعدِه شقيقُه همّام القهوةَ وكلّ واحد منهما يقول:
الله يِرضى عليك.
في حين ابتسمتْ هاجرُ سعيدةً بِصهرِها الجديدِ.
بعدَ حوالي نصفِ ساعةٍ استأذنَ الشّيخُ مسعود للانصراف وهو يقول:
لدينا مهمّةٌ بسيطةٌ في دمشق، سنُنجزُها هذه الليلة وسنعودُ إليكم غدًا.
فقالَ الشّيخُ مليحان:
سنُقيمُ الأفراحَ اعتبارًا مِنْ هذه الليلة، وسنزفُّ شيماءَ إليكَ يوم الجمعةِ القادم، فأنتَ مثلُ أبنائِنا يا شيخُ مسعود.
فقالَ أبو ضُبيع وهو ينظرُ إلى الشّيخِ مسعود نظرَةَ استشارةٍ:
على بركةِ الله....وسنُقيمُ حفلًا آخرَ في مضاربِنا عندما نعودُ إليها، ويُشرّفُنا أن تكونوا معنا أنتم ومَن تُحبّون من رَبعِكُم. وبعدَ حفلِ الزّفاف بإمكان الشّيخِ مسعود أن يعود إلى ربعِه بصُحبةِ زوجتِه متى شاء، وأن يحتفلَ بزواجِه متى وكيفما يشاء.
الشّيخ مليحان: سنقيمُ حفلنَا؛ لِنُشهرَ زواجَ ابنتِنا شيماء وابننا الشّيخ مسعود، ولا نستغني عن زيارتِكُم بشكلٍ دائمٍ، فنحنُ وإيّاكم أهلٌ ولا فرقَ بيننا.
**************
في دمشق اشترى الشّيخُ مسعود من أحدِ محلّاتِ الصّياغةِ عشرين ليرةً ذهبيّة وضعها في قلادةٍ، سيُعلّقُها على رقبةِ عروسِه شيماء، واشترى خاتَمًا وإسوارَ ذهبٍ لها، واشترى إسوارًا آخرَ سيُهديها لحماته هاجر والدةِ شيماء، كما اشترى لنفسِه خاتمَ فضّةٍ.
عندما ذهبَ الشّيخ مسعود وبرفقتِهِ أبو ضُبيع للصّلاةِ في المسجدِ الأمويّ، مرورًا بسوقِ الحميديّةِ الشّهير لفتَ انتباهَه عباءاتٌ فاخرةٌ معلّقةٌ ومعروضةٌ للبيعِ أمامَ أحدِ المحلّات، بعدَ أن أدّيا صلاةَ الظّهرِ في المسجد عادا طريقَهُما، فوقف الشّيخُ مسعودُ أمامَ محلِّ بيعِ العباءات، تحسّسَ إحداها، وسألَ رفيقَهُ أبا ضُبيع:
ما رأيُكَ بهذه العباءات؟
– إنّها فاخرةٌ لا يرتديها إلّا الشّيوخُ، وهي لا تخفى عليكَ يا طويلَ العمر.
ابتسمَ الشّيخُ مسعود وطلبَ من التّاجرِ أنْ يَلُفَّ له أربع عباءات كلَّ واحدةٍ على حِدَةٍ، لَمْ يتفاجأ أبو ضُبيع بشراءِ الشّيخِ مسعود أربعَ عباءاتٍ لوْنُها جميعُها بُنّيٌّ. فنوايا الشّيخِ لا تخفى عليه.
عندما غادرا متجرَ العباءات ناولَ الشّيخُ إحدى العباءاتِ لأبي ضُبيع وهو يقول:
هذه لكَ يا عمّ.
تناولَها أبو ضُبيعٍ دون نقاش، فهو يعلمُ أنّ الشّيخَ لا يتراجعُ عن عطاياه، ولا يقبلُ كثرةَ الكلام في هكذا أمور، تناولا طعامَ الغداءِ في أحدِ مطاعمِ دمشق، وامتطى كلُّ واحدٍ منهما فرسَه وعادا إلى مضاربِ الشّيخ مليحان، وصلا في ساعاتِ المساء، فوجدا حفلَ السّامرِ عامرًا، والحاشي امرأتان مُنقّبتان تحملُ كلُّ واحدةٍ منهما سيفًا تُلَوّحُ به، وهي ترقصُ بعنفوانٍ وتنتقلُ منْ طَرَفِ السّامر إلى طرفِهِ الآخر، لِتَمُرَّ بجانبِ زميلتِها عندَ منتصفِ السّامرِ، وشبابُ السّامرِ هائجين بحركاتِهم، وكلُّ واحدٍ منهم يحاولُ استعراضَ مهاراتِه أمامَ الحاشي، بينما النّساءُ يغنّينَ ويرقُصنَ أمامَ بيتِ والدِ العروس.
تسامرَ الشّيخُ مسعود وأبو ضُبيع مع من تواجدوا في الدّيوانِ، وفي مقدّمتهم الشّيخُ مليحان وشقيقُه همّام.
عندما انفضّ السّمارُ عندَ منتصفِ الّليلِ، وقفَ الشّيخُ مسعودُ وقدّمَ عباءةً للشّيخ مليحان وهو يقولُ:
هذه العباءةُ هديّةٌ لك يا شيخ، أرجو أن تنالَ إعجابكَ، ثمّ انتقلَ إلى همّام والدِ العروسِ شيماء، وقدّم له عباءةً، وقلادةَ الذّهبِ وإسوارًا وخاتَمًا لشيماء، أمّا هذا الإسوارُ الثّاني فهو للعمّة هاجر.
وهنا قال الشّيخُ مليحان:
لِمَ هذه الغلبةُ يا مسعود؟ ألَمْ نتّفقْ أنّ مهرَ شيماءَ خاتمٌ فقط؟
أجابَهُ الشّيخُ مسعود:
نحنُ نتعلّمُ منكَ يا شيخنا، و" إذا كان صاحبك عسل لا تلحسه كلّه"، وهذا ليسَ مهرًا لشيماء، بل هديّة، ومِنْ حقّي أنْ أهدي عروسي، وأهدي أمَّها التي هي مثلُ أمّي شيئًا يُدخلُ الفرحَ إلى قلبَيْهِما.
عضّ الشّيخُ مليحان على غليونِه وقال:
ما قصّرتَ يا ابنَ أخي.
في الصّباحِ وبعدَ أن تناولوا طعامَ الفطورِ في ديوان الشّيخِ مليحان، وبينما هم يحتسونَ القهوةَ قالَ الشّيخُ مليحان للشّيخِ مسعود:
صباحَ غدٍ الإثنين سنُرسلُ أغراضَ شيماءَ مُحمّلةً على ناقتينِ إلى مضاربكم، معَ فارسينِ مِنْ فُرساننا، وِمنْ ضمنِها بيتُ شَعَرٍ: فأينَ تريدُ أنْ يبنيا البيتَ؛ كي يضَعَا الأغراض فيه؟
قالَ الشّيخُ مسعود:
لا داعيَ لبيتِ الشّعَرِ يا طويلَ العمر، فلدينا ما يكفي من البيوت.
- أعرف أنّ لديكم بيوتًا، وأدام الله الخيرَ عليكم، لكنّ هذا واجبُ ابنتِنا علينا، ومِنْ حقِّها علينا أنْ تَجِدَ بيتَ عِزِّها جاهزًا عندما تنتقِلُ إليه.
التفتَ الشّيخُ مسعود إلى رفيقِهِ أبي ضُبيع وسألَهُ:
ما رأيُكَ يا أبا ضُبيع؟
صمتَ أبو ضُبيعِ هُنيهةً وقال:
لن أناقشَ أحدًا بخصوصِ البيتِ، فالشّيخُ مليحان أبو العادات والتّقاليد، والمكانُ المناسبُ لِبِناءِ البيتِ هو بينَ بيتِ صفيّة والدّيوان.
الشّيخ مليحان: أنتم أدرى منّا بالمكان، فـ "أهل مكة أدرى بِشِعابِها"، وبخصوص البيتِ فهذا تأكيدٌ على أنّنا عشيرةٌ واحدةٌ، والمصاهرةُ بيننا ليستْ جديدةً.
قال الشّيخُ مليحان لخادم الدّيوان:
اذهبْ ونادِ زيد المحمود وشعيلان الفارس.
لمْ تمضِ سوى دقائق معدودةٍ حتّى وصلَ زيدٌ وشعيلان إلى الدّيوان، فقالَ لهما الشّيخُ مليحان:
غدًا مع ساعات الصّباحِ الأولى، ستُحَمّلانِ من بيتِ همّام أغراضَ ابنتِه شيماء على ناقتين، وستوصلانها إلى مضاربِ الشّيخِ مسعود قُربَ مقامِ النّبيّ موسى، في الطّريق بين أريحا والقدس، ابنِيا بيتَ الشَّعَرِ بينَ الدّيوان وبينَ البيتِ المجاورِ له مِنَ الجِهَةِ الشّرقيّةِ، ورَتَّباهُ كما يجبْ. احرصا أن تكونَ أرضيّةَ البيت مُستويّة، لا تفتحا الصندوقّ الخشبيِّ فهوَ مقفلٌ وفيه خصوصيّات شيماءَ النّسائيّة، ومفتاحُ القفلِ سيبقى معها.
قالَ زيدٌ: لا تهتمّ يا شيخُ، سنبني البيتَ وسنُرَتّبُه كما يجب، لكن إذ سألونا من أنتم؟ وّلِمَنْ هذا البيت الذي تبنونه فَماذا نقولُ لهم؟
وهنا أجابَ أبو ضُبيع:
عندما تصلون ستجدون شابًّا اسمُه سويلم، فهو يجلسُ عادةً في الدّيوان عندما يغيبُ الشّيخ، فاستعينوا به وعرّفوه على أنفسِكم هو ومن يسألونكم، أنّكم من جماعة الشّيخِ مليحان، وأنّ هذا البيتَ للشّيخِ مسعود، وأخبروهم أنّ الشّيخَ مسعود سيعودُ بعدَ أيّامٍ قليلةٍ هو وزوجتُه الجديدة.
زيد: " توكّلنا على الله."
قالَها وانصرفَ هو وزميلُهُ شعيلان.
بعدَها قال الشّيخُ مليحان:
سنزُفّكَ يا شيخ مسعود على عروسكَ مساءَ الجمعة القادم، وقد بنينا بيتا خاصّا لكَ ولِعروسِك بجانبِ بيتِ همّام، ستقيمُ عندنا المُدّةَ الّتي تراها مناسبة، وبعدها تعودُ وعروسكَ إلى مضاربِكُم معزّزين مُكرّمين.
الشّيخُ مسعود: سيكون يومُ السّبت لشيماءَ؛ كي تستقبِلَ المُهنّئاتِ بزفافِها، ولِتُوَدّع قريباتِها ورفيقاتها، وسنُغادِرُكُم يومَ الأحدِ بإذن الله.
ابتلعَ أبو ضُبيعُ ريقَهُ وقال للشّيخِ مسعود:
ما رأيُكَ يا شيخُ أنْ أعودَ غدًا مع زيدٍ وشعيلان؟
التفتَ إليه الشّيخُ مسعودُ وعلاماتُ الغضبِ بادية على وجهِهِ وسأل:
ماذا تقولُ يا رجل؟ جئتُ بِرفقتِكَ ولا يليقُ بي ولا بكَ أنْ نفترق.
الصّدمة
عندما أطلّ زيدٌ وشعيلان على مضاربِ الشّيخ مسعود، رأتْهما صفيّة ووالدتُها، انتبهتْ زبيدةُ للصّندوق وهو يعلو سنامَ النّاقة، وهي تعلمُ أنّ هذا الصّندوقُ معروفٌ للجميعِ أنّه مخصّصٌ للعرايس، فقالت وقد راودتْها الشّكوك:
يا دافعَ البلاءِ يا الله!
سألتها ابنتُها صفيّة:
ماذا جرى لك "يمّه".
قالتِ الأمُّ وهي تُشيرُ إلى النّاقتين:
لقد وقعَ ما كنتُ أخشاه.
– ماذا تقصدين؟
– لقد جاءتكِ ضُرّةٌ يا صفيّة.
– لا تخافي "يمّه" فمسعود يُحبُّني، وهذان غريبان عابرا طريق.
ضاق صدرُ زبيدةَ مِن سذاجة ابنتِها فتساءلتْ غاضبةً:
عن أيِّ طريقٍ تتحدّثين؟ وإلى أين توصل؟
عندما أناخَ زيدٌ وشعيلان ناقتيهما أمام ديوانِ الشّيخِ مسعود، ضاق صدرُ صفيّة واختنقتْ بدموعِها، استلقتْ على ظهرِها، لمْ تعدْ قادرةً على الكلام. تركتْها أمُّها وسارتْ إلى الدّيوان، وقفتْ أمامهما وهي تضعُ كفّيْ يديها على خاصِرَتَيْها وسألتْهما بنبرةٍ قويّة، دون أن تطرحَ عليهما السّلام:
من أنتما؟ وماذا تُريدان؟
استيقظَ سويلم من غفوتِه على صوتِها، قفزَ مِنْ فراشِه، حيّا الرّجلينِ وهو يفرُكُ عينيه، سمعَهما وهما يقولان لزبيدة:
نحن من بني خالدٍ عشيرةِ الشّيخِ مليحان، وهذه الأغراضُ للشّيخِ مسعود بعثَها معنا؛ لِنوصلَها إلى مضاربِه.
سألتْهما زبيدة:
أين الشّيخُ مسعود؟
شعيلان: سيعودُ إليكم يومَ الأحدِ أو الإثنين القادم، معَ زوجتِه شيماء بنت الشّيخ همّام، شقيقُ الشّيخِ مليحان.
رحّبَ بهما سويلم، دعاهما لِدخولِ الدّيوان، بينما عادتْ زبيدةُ إلى بيتِ ابنتِها صفيّة ودموعُها تنسابُ على وجنتيها.
دخل زيدٌ وشعيلان الدّيوان بعدَ أنْ أنزلا حُمولةَ النّاقتين، صبّ لهما سويلم القهوة، فاحتسياها، فقال زيد:
سنبني البيتَ الآن بجانب الدّيوان كما أوصانا الشّيخُ مسعود.
سويلم: استريحا فأنتما ضيفانا، والآن سيأتي الشّبابُ لبناء البيتِ تحتَ إشرافِكُما.
ذبحَ سويلم خروفًا قِرًى لضيفيه، استفسرَ منهما عن زواجِ الشّيخِ مسعود، فأعلموه أنّ زفافَه على شيماء بنت همّام شقيق الشّيخ مليحان سيُقامُ مساء الجمعة القادم.
في بيتِ صفيّة حاولتْ والدتُها طمأنتَها؛ كي تُمضيَ بقيّةَ حياتِها مع زوجِها الشّيخِ مسعود دون مشاكل، فقالت لها:
اسمعي يا صفيّة؛ لن ينفعَ البكاءُ شيئًا، وما عليكِ إلّا استعمالَ العقلِ؛ لِتَستُري نفسَك.
صفيّة: كيف يَمّه، وأنا مجروحةُ القلبِ؟
الأمّ: إذا صدقتُكِ القولَ فإنّي لَمْ أتفاجأْ بزواجْ مسعود، فتعدّد الزّوجات شائعٌ عندنا، فرجالُ القبيلةِ كافّة متزوّجون من اثنتين أو ثلاثة، وهم أقلّ شأنًا ومنزِلَةً ومكانةً ومالًا من مسعود، وأنا أعرفُ هذا وأتوقّعُهُ حتّى قبلَ زواجكِ من مسعود، وإنْ كنتُ أتمنّى ألّا يحصلَ، والآنَ ما لكِ إلَّا الصبرُ والحيلة.
تساءلتْ صفيّةُ وهي تكاد تختنقُ بِدُموعِها:
كيف يمّه؟
الأمّ: تظاهري أمامَ الآخرينَ وأمام مسعود أنّك سعيدةٌ بزواجِه من ثانية، تجمّلي أمامَه، راقبي الطّريقَ وعندما يعودُ هو وعروسُه أطلِقي الزّغاريد، استقبليِهما بالأحضان، باركي لهما، لا تُعاتبيه، واظهري أمامَه كما يحبُّ دائمًا، ولا تُسمعيه إلّا الكلامَ الطّيّب.
******
بعد عصر يومِ الأحد، أطلّ موكبُ الشّيخِ مسعود على مضاربهِ، كانوا ثلاثةً، الشّيخ مسعود على اليمين يمتطي الحمامة، شيماءُ في الوسط تمتطي فرسَها، وعلى يسارها أبو ضُبيع على ظهر فرسه. ما أنْ رأتهُما زبيدة وابنتُها صفيّة حتّى انتقلتا ووقفتا أمامَ بيتِ شيماء،- كما خطّطت زبيدة-، وهناك أطلقت صفيّةُ زغاريدَها وممّا قالته:
آويها" يا شيخ بيتك مشرّع بفتيخه
آويها شِقْ بيتك مقعد للشيخه
آويها " يا شيخ " بيتك مشرّع بالخاتم
آويها شِقْ بيتك مقعد للحاكم
وأطلقت والدتُها زغرودة، فخرجت نساءُ العشيرة من بُيوتِهنّ، وركض العديدُ منهنّ إلى حيث تقفُ صفيّة ووالدتُها، لِيُشاركن في استقبالِ الشّيخِ مسعود وعروسه، وواصلتْ صفيّةُ زغاريدَها:
آويها ثلاث حمامات في الواد العتيق رداس
آويها مكحلات العين ومعنقرات الرّاس
آويها يا بيّ ماجد بلاد النّاس ما تنداس
آه وروّح ع بلادك يْهَلّي فيك كلّ النّاس
وانطلقت عشراتُ الزّغاريد من أفواهِ النّساء.
*******
هاي ويا بَيّ ماجد ويا عامود رجالنا
هاي ويا صاحب الهيبه وامشِ قدّامنا
هاي ويا بَيّ ماجد يا عامود أهالينا
هاي ويا صاحب الهيبه وامشي على هوانا
**********
هاي يا مسعود يا اسمراني عيّروني فيك
هاي ويا كلّ ما عيّروني زاد حبّي فيك
هاي ولاركب جواد الخيل واسرى فيك
هاي ويا ع ضوّ قمرَه وما خللي الجار يدرى فيك
واصلتِ النّساءُ الأغاني، وعندما وصلَ موكبُ الشّيخِ مسعود ديوانَه، تقدّمَ الموكبَ، وما أن ترجّلَ عن فرسِه حتّى ضمّتْهُ صفيّةُ إلى صدرِها بعد أن قبّلتْ يدَه اليُمنى، وقبّلتْ وجنتيهِ وهي وتقول:
ألف مبروكٍ يا ابنَ العمّ.
وانتقلتْ صفيّةُ إلى شيماء تحتضنُها وتُقبّلُها، وتبارِكُ لها، في حين أعقبتْها والدتُها تصافح الشّيخَ مسعود وتقبّلُ وجنتيه وتقول:
مباركةٌ عروسَك يا ولدي.
وانتقلتْ إلى شيماءَ تحتضنُها وتُقبّلُها وتُباركُ لها، ثمّ اقتادتْها إلى بيتِها وهي تقولُ:
هذا بيتُ عزِّكِ يا شيماء، وأشارتْ إلى ابنتِها صفيّة وقالت:
وهذه ضُرّتُكِ صفيّة، وأنا زبيدة والدةُ صفيّة، وكلّما صافحتْها امرأةٌ كانتْ زبيدةُ تُعَرّفُها عليها.
أجلسنَها في صدرِ البيتِ على فرشتي صوفٍ، وأجلسنَ صفيّة على يمينِها، وتحلّقْنَ حولَهما يغنّين، فقالت الحاجّةُ معيوفة على مسمعِ جميع النّساء المتواجدات:
ما شاء الله! زوجتا الشّيخِ مسعود كلتاهما جميلتان، يصعبُ على من لا يعرفُهما أنْ يُفرِّقَ بينَ العروسِ الجديدة وسابقَتِها.
انتشتْ صفيّةُ عندما سمعتْ كلامَ الحاجّة معيوفة بينما كتمت شيماءُ مشاعرَها.
تركَ استقبالُ صفيّة ووالدتُها للشّيخِ مسعود وعروسه أثرًا عميقًا في نفسِهِ، مع أنّه على يقينٍ بأنّ هذا من تخطيطِ حماتِه زبيدة، فهو يعلمُ أنّها ذكيّةٌ وتعرفُ تدبيرَ الأمور وتجييرِها لِصالحِها.
في ساعات المساءِ أقامَ الرّجالُ السّامرَ احتفاء بزفافِ الشّيخِ مسعود، مع أنّ أبا ضُبيع أخبرهم أنّ حفلَ زفافِ الشّيخ مسعود أقيمَ عندَ أهلِ العروس، في حين لَمْ ينقطِعْ غِناءُ النّساء.
عندما انتهتْ زوجةُ الخادمِ من إعداد طعامِ العشاء حسبَ تعليمات صفيّة ووالدتِها، همستْ بذلكَ لصفيّة، وهمستْ صفيّةُ بدورِها لشيماء:
سيُحضرون الآن عشاءَ النّساء، فما رأيُكِ أن تذهبي معي إلى بيتي؛ لِنتناولَ طعامَنا وهو شواء على الصّاج.
التفتتْ إليها شيماء وقالت:
أنا لستُ جائعةً، لكن لا يليقُ بنا أنْ نتناولَ عشاءً خاصًا، نُميّزُ فيه أنفسَنا عن بقيّةِ النّساء، وهنّ في بيتِنا، يُغنّين فرحاتٍ بِفَرَحِنا، ويجب أن نشاركَهُنّ العشاء.
سمعتْها الحاجّة معيوفة فهمستْ لزبيدة الّتي تجلسُ بجانبِها:
هلْ سمعتِ ما قالتْه شيماء؟ فكلامُها كلامُ شيوخ.
اغتاظتْ زبيدة من تعقيبِ معيوفة وتساءلت مستنكرةً:
وهل صفيّةُ بنتُ رُعاةٍ؟ فهي أيضًا شيخةٌ بنتُ شيوخ، وهلْ أخطأتْ عندما أرادتْ أنّ تَخُصَّ ضُرّتَها بعشاءٍ مُمَيّزٍ كونها غريبة تدخلُ ديارَنا للمرّة الأولى.
الحاجّة معيوفة:
وهل أسأتُ أنا -لا سمحَ الله- لصفيّة حتّى تنفجري بوجهي بهذه الطّريقة، وإذا كنتِ غاضبةً من زواجِ الشّيخِ على ابنتِكِ، فما ذنبي أنا؟
قالتْها وانصرفتْ غاضبةً.
عندما انفضّ السّامرُ ومجلسُ غناء النّساء، وعاد المهنّئون إلى بيوتهم، دخلتْ صفيّةُ الديّوانَ على الشّيخِ مسعود وهي تبتسم، فقالت له:
قُمْ يا ابنَ العمِّ؛ لِتَستريحَ على فِراشكَ في بيتي.
التفتَ إليها وسألَها:
أينَ الأولاد؟
- إنّهم نيامٌ في البيت.
- كيف تتركينهم وحدَهم في هكذا ساعة؟
- ليسوا وحدَهم...فوالدتي بجانبهم. وجئتُكَ لأنّي أشتاقُكَ بعد هذه الغيبة.
- عودي إلى بيتِكِ، فأنا لا أستطيعُ أنْ أتركَ شيماء وحدَها، وهي لم تألفِ المكان بعد.
استدارتْ صفيّةُ خارجةً من الدّيوان وقالتْ حزينة:
ليلتُكَ سعيدة يا ابنَ العمَ.
بين حانا ومانا
عندما ذهبَ الشّيخُ مسعود إلى مخدعِ عروسِهِ شيماءَ في بيتِها، سألها عن مشاعرِها تجاهَ النّساء الّلواتي كنّ عندها، فأجابتْهُ:
الله يُستُر عليهنّ، لكنّي رأيتُ الكراهيّةَ والغيرة في عينييّ زبيدة، مع أنّها تتظاهرُ بالطّيبة.
- دعيكِ من زبيدة، فهي قلقةٌ على ابنتها صفيّة.
- لم أفهمْ كيف وَلِمَ جلستْ صفيّةُ بجانبي، وكأنّها عروس هي الأخرى.
- أمرٌ طبيعيٌ فهي ضُرّتُكِ، أريدكُ أن تعيشي حياتَكِ بهدوء، وأن تتعالي على توافِهِ الأمور، وأؤكّد لكِ أن لا أحدَ يجرؤُ أن يتطاولَ عليك.
- توكّل على الله، فما دمتَ معي فأنا بخير.
عندما ذهبَ مسعودُ لِيَنامَ في بيتِ صفيّة بعد أسبوعٍ، قالت له فورَ دخولِه بيتَها تعاتبُه:
الحمد للهِ على سلامتكَ، حسبتُ أنّك نسيتَ زوجتَكَ وأبناءَك.
- ما الدّاعي لهذا الكلام يا امرأة؟
فعادتْ صفيّةُ تقول:
"مين شاف احبابه نسي اصحابه"، و"يبدو أن الدّم على بعضه مَيّه".
غضبَ الشّيخُ مسعود، وحاول الخروجَ من البيت، إلّا أنّ ابنتَه وضحا استيقظتْ من نومِها فركضتّ نحوَه فرحةً، أمسكتْ بِساقهِ ببراءةٍ وهي تقول:
يابَه.
حملَ الشّيخُ مسعود ابنتَه وضمَّها إلى صدرهِ، قبّلَ وجنتيها وهي تضحكُ فرِحةً برؤيتِه، فعادَ وجلسَ على الفراشِ يداعبُ طفلتَه حتّى غفتْ، فتمدّد بجانِبِها ونام حتّى الفجر، بينما كانتْ زوجتُه صفيّة تتقلّبُ في فراشِها.
عندَ صلاةِ الفجرِ خرجَ من بيتِ زوجتِه صفيّة، واتّجه إلى الدّيوان، راقبتْه صفيّة من وراء رواق البيتِ؛ لِترى إن كانَ ذاهبًا إلى بيت ضُرّتِها شيماء.
عند ساعات الضّحى قصدَ أبو ضُبيعٍ الدّيوان، احتسى القهوةَ، أشعلَ غليونَهُ وهو متّكئٌ على جانبِه الأيمن، مازحَ الشّيخَ مسعود قائلًا:
كيفَ ترى العيشَ مع زوجتين يا شيخَنا؟
- أنت أدرى منّي بهذا الموضوعِ يا عمّ، فقد مررتَ بهذه التّجربةِ قبلَ أن أولدَ أنا.
قهقه أبو ضُبيعٍ وقال للشّيخ:
من يتزوّجُ اثنتين يصير معه مثل ذلك الزّوج الذي قال:" بين حانه ومانه ضاعت لحانا."
ضحكَ الشيّخُ مسعودُ وقال:
لكنّ الشّيبَ لم يَغْزُ لِحْيَتي حتّى الآن.
الأولاد:
واظبَ الشّيخُ مسعود على تعليم ابنِه ماجد الفروسيّةَ، مجالسةَ الرّجالِ، العادات والتّقاليد، في محاولةٍ منه لإعدادِه؛ كي يخلفَهُ في المشيخة، لكنّ قدراتِ ماجد لم تكن حسبَ أمنياتِ أبيه، فكتمَ الشّيخُ غيظَهُ وهمومَهُ، وصار تركيزُه على أبنائهِ الآخرين. عندما بلغَ الشّيخُ مسعود الأربعينَ من عمره، كان أبًا لأربعةَ عشرَ، ثمانيةٌ منهم من صفيّة" خمسُ بناتٍ وثلاثة أولاد، جميعهم أصحّاءُ خصوصّا سلطان الذي وُلِدَ بعد ماجد ووضحا، بينما أنجبتْ زوجتُهُ الثّانيةُ شيماء ثلاثةَ أبناءٍ وثلاثَ بنات، تميّزوا بأنّهم أكثرُ ذكاءً من إخوتهم أبناء صفيّة.
أعطى الشّيخُ مسعود اهتمامًا خاصًّا لسلطان؛ كي يخلفَهُ في المشّيخة، وأعلنّ ذلك للجميع.
عندما بلغَ ماجدُ العشرينَ من عمره، سألتْ والدتُه زوجَها الشّيخ مسعود:
متى سنفرحُ بزواج ماجد؟
تفاجأ الشّيخُ بسُؤالِها لكنّه أجابها:
عندما يُدركُ الأمورَ ويتصرّفُ كما الرّجال سنزوّجُهُ.
صفيّة: ماجد رجلٌ كما الآخرين، لكنّه لقيَ دلالًا أكثرَ من غيرِه، وإذا تزوّج وأنجبَ سيُخلّفُ أبناءً، وسيعتمدُ على نفسِهِ، وسيصيرُ كما تشاء.
الشيخ مسعود: ماجد عقلُه أصغرُ مِن عمرِه.
استغفرتْ صفيّةُ ربّها وقالت:
ماجد أعقلُ مِنْ غيرِهِ، وتساءلتْ:
هل عملَ ماجدُ مشكلةً في حياتِه؟ وهل أوقعكَ في حَرَجٍ ما؟
حوقل الشّيخُ وقال وهو يغادرُ الجلسةَ:
ليتَهُ فعلَ ذلك! فمشكلتُه أنّه يبتعدُ عن النّاس.
لَمْ يخلُ الشّيخُ من هَمِّ ماجد، فقد خابَ ظنُّه به، وعندما اختلى ليلًا بزوجتِهِ الثّانية شيماء، سألتْهُ:
ما بِكَ يا أبا ماجد؟ هل أغضبَك أحدٌ ما؟
- يُثْقِلُني همُّ ماجد، والأنكى من ذلك أنّ والدتَه صفيّة تُلِحُّ عليّ لِتَزويجِه.
- ما الخطأ في ذلك؟ فالزّواجُ لا بُدَّ منه، وكثيرون تزوّجوا مع أنّهم أقلُّ فصاحةً ودرايةً من ماجد.
تنهّدَ الشّيخُ ونفخَ زفيرًا وتساءل:
من سيُعطي ابنتَهُ لماجد؟
شيماء: البنات" أكثر مِنَ الهمّ على القلب"، وماجد شابٌ وسيمٌ، وسمعةُ أبيه الطّيّبةُ تجعلُ الآخرين يتمنّون مصاهرتَهُ، ماجدُ ضحيّةٌ لزواجِ القربى، وأنصحُ ألّا تُزَوِّجَهُ من بنات العشيرة.
فكّر الشّيخُ مسعود بكلامِ زوجتِه شيماء، استعادَ بِذاكرتِه رجالَ العشائرِ الأخرى الذين لديهم بناتٌ في سِنِّ الزّواج، قرّر أنْ يُزَوِج ولديه ماجدَا وسلطانَ معًا، بعدَ أن تذكّرَ أنّ أحدَ وجاهاتِ منطقةِ النّقب له بنتان، فقرّرَ أن يطلبَ الكُبرى لماجد والصُّغرى لسلطان.
في اليومِ التّالي أمرَ الشّيخُ مسعود ولديه ماجد وسلطان أن يُسرِجا الخيولَ، وأنْ يستعدّا للسّفرِ معه إلى بئر السّبع، وعندما سأله ابنُه سلطان:
خيرٌ يا أبي؟ هل هناك سببٌ لِهذا السّفر؟
الشّيخُ مسعود: سنذهبُ معًا؛ لأطلُبَ لكما عروسين، لكن إيّاكما أن تُخبِرا أحدًا بالموضوع؟
التفتَ إليه سُلطان وسأل:
لِمَ يا أبي؟ هل الزّواجُ سرٌّ.
غمزَهُ أبوهُ وهمسَ له:
أخشى أنْ لا يُوافقَ والدَ البنتين.
أدركَ سلطانُ ما يرمي إليه والدُه فقال:
على بركةِ الله.
ذهبا إلى البيتِ؛ لِيَرتديا ملابسَ جديدةً نظيفة، وهناك سألتْهما والدتهما
إلى أينَ أنتما ذاهبان؟
أجابَها سلطان دون أن يلتفتَ إليها:
سنذهبُ مع الوالد لقضاءِ مصلحةٍ ما لا نعرِفُها.
بينما رفعَ ماجد صوتَهُ قائلًا:
لا تُصدّقيه يمّه، الوالد سيطلُبُ لي عروسًا.
ابتسمتْ والدتُهما وقالت:
نسألُ اللهَ أن يُيَسّرَ الأمور.
********
قبلَ أنْ يصلوا منطقةَ كسيفة في النّقب، حيثُ يسكنُ الرّجلُ الّذي يقصدون بيتَه، أوصاهما أبوهما وهو يقصدُ ماجد تحديدًا:
لا تحتسيا القهوةَ قبلَ أنْ يستجيبوا لِطَلبِنا.
استقبلوهم في كسيفة استقبالًا يليقُ بالشّيوخ، دخلوا ديوانَ أبي عُقاب، وضع الشّيخُ مسعود وابنُهُ سلطان فنجاني قهوتهما أمامهما، بينما احتسى ماجد فنجانَه، عرّفَ الشّيخ مسعود على ولديه وهو يشيرُ إليهما:
هذا ولدي ماجد وذاك ولدي سلطان.
فقالَ الشّيخُ أبو عُقاب وقد خمّنَ سببَ زيارتهم له:
تشرّفنا بكَ وبولديك.
الشّيخ مسعود: جئناك يا أبا عقاب نطلبُ القُربَ منك، نريد ابنتيك سلمى لابني ماجد واسليمة لابني سلطان؟
أبو عُقاب: اشربوا قهوتَكم فطلبُكم مُستجاب، ونحن نتشرّف بمصاهرتِك يا أبا ماجد، وارخصوا لي هنيهةً؛ كي أخبرَهما وأمَّهما.
- رُخصتُكَ معك.
- وما أن خرجَ أبو عقاب، حتّى قهقهَ ماجد وهو يردّد:
الحمدُ لله صرتُ عروسًا.
فنهرَه أبوه قائلًا:
اخرسْ ولا تفتحْ فمَك.
عندما أخبر أبو عُقاب ابنتيه وزوجتَه بالطّلب قالتِ الأمُّ:
الحمدُ لله، لن نجدَ أحسن منهما، فصيتُ الشّيخِ ماجد يسبقُ اسمَهُ، وأبناء الشّيوخ شيوخ.
عادَ أبو عقاب إلى ديوانه وقال:
مبروك يا أبا ماجد، البنتان وأمُّهما موافقتان.
وهنا ضحك ماجد وقال:
الآن أنا عروس، أريدُ أن أجلسَ مع عروسي.
نظرَ إليه أبوهُ نظرةَ غضبٍ، بينما همسَ له أخوه سلطان قائلًا:
اسكتْ ولا تقُلْ شيئًا.
لكنّ أبو عُقاب وقف وقال:
لَمْ يُخطئْ ماجد، مِنْ حقِّهِ أن يرى عروسَهُ، فالتّعارفُ مِنَ السُّنّة، "ولّلي أوّله أهونه" فقد لا تُعجبُهُ العروس، والآن سأحضِرُ البنتين؛ لِتَرى كُلٌّ منهما طالبَ يدِها.
عندما خرج أبو عُقاب لإحضار ابنتيه قال الشّيخُ مسعود لابنِه ماجد:
اخرس ولا تتلفّظْ بأيّ كلمة، وإن فتحتَ فمَكَ، سأعتذرُ للرّجل، وسُنغادرُ بيتَهم؛ لِتَبقى عازِبًا حتّى تموت.
عندما حضرتِ العروسان برفقة والديهما، جلستْ سلْمى على يمين أبيها، وجلست سليمة ووالدتُها على يساره، وقامَ بالتّعريف عليهنَّ وعليهم.
بعدَها قالَ الشّيخُ مسعود:
ما شاءَ الله، جمالٌ وأصلٌ وفصلٌ، نحنُ نتشرّفُ بمُصاهرتِكَ يا أبا عقاب.
ابتسم أبو عقاب وهو يقولُ:
أريدُ أنْ أسمعَ رأيَ ماجد وسلطان:
فقالَ سُلطان: لا مُزاودةَ على كلامِ الوالدِ يا عمّ، ونتشرّفُ بمُصاهرتِكَ.
وقالَ ماجد: وأنا موافق.
التفت أبو عُقاب إلى ابنتيهِ وسألهما عن رأيهما، فطأطأتْ كلٌّ منهما رأسَها حياءً، ولم تقولا شيئا، فقالت أمُّهما:
ما تقبلُ به يا أبا عُقاب مقبولٌ عليهما، و"السّكوتُ علامَةُ الرّضا". وغادرتِ المجلسَ هي وابنتاها.
وهنا قالَ الشّيخُ مسعود:
لِنَقرأ الفاتحةَ على نيّةِ القُبول.
قرأوا الفاتحةَ وعادَ الشّيخ مسعود يقول:
نحنُ جاهزون لتلبيةِ طلباتِكَ كافّة يا أبا عُقاب:
أبو عُقاب: مهرُ البنات كمهور بناتِكم، واعتبر نفسَكَ يا أبا ماجد أبًا للشّابّين وللفتاتينِ، وما تقبلُهُ مقبولٌ علينا.
أبو ماجد: ما قصّرتَ يا أبا عُقاب، سنشتري لكُلٍّ منهما مصاغًا مِنَ الذّهبِ وكسوةً أفضلَ من مصاغ وكسوة بناتنا.
أبو عُقاب: متى تنوون الزّواج؟
أبو ماجد: سنشتري المصاغَ والكسوةَ خلالَ هذا الأسبوعِ، وسنُحدِّدُ الزّفاف في يومِ الجمعة آخر الأسبوعِ القادم، وسنبقى على تواصل.
أبو عُقاب: توكّلنا على الله.
صمتَ أبو ماجد هنيهةً وقال:
نحنُ يا أبا عُقاب مهرُ بناتِنا عشرون ليرةَ ذهبٍ عُثمانيّة، وبما أنّكَ وضعتَ أمرَ ابنتيكَ في رقبتي، فمهرُ كلُّ واحدةٍ منهما خمس وعشرون ليرة، وكِسوتُها بما قيمتُه خمس ليرات، وبإذنِ الله سأرسلُ إليكَ ستّين ليرة؛ لِتَشتريَ مصاغًا وكِسوةً لابنتيك.
ردّ عليه أبو عُقاب:
لكنّي لا أقبلَ تمييزَ بناتي على بناتكم، فيكفيهنّ! مهرٌ كمهرِ بناتِكم.
أبو ماجد: أنتَ أوكلتَ الأمرَ لي، وبناتُكَ مثل بناتي، وهذا ما أرتضيه لنفسي ولهنّ، ولا جِدالَ بهذا الموضوع.
ارتاحَ ضميرُ الشّيخ مسعود قليلًا؛ لأنّه أحضرَ ابنَهُ ماجدًا معه، فقد رأته العروسُ ووالداها، ووافقوا عليه، وإذا ما اكتشفوا حالَه مستقبلًا فسيجدُ مبرّرًا لنفسه، بأنّهم رأوه ووافقوا عليه، وفكّرَ بحيلَةٍ يُعيدُ فيها ماجدًا إلى مضاربِهِ؛ كي لا يكتشفوه، وبعدَ أن تناولوا طعامَ الغداء، خاطبَ ولديه قائلًا:
عودا إلى بيتِنا، وخُذا مِنْ والدَتيكما ستّين ليرة عثمانيّة مهرًا لعروسيكما، وعودا إليّ.
فقال أبو عُقاب:
لا داعي للعجلَةِ يا أبا ماجد، دعِ الشّابّين؛ لِنَتسامرَ معهما.
أبو ماجد: "خيرُ البرِّ عاجلُه"، وسيعودان مساء.
عندما خرجَ ماجد وسلطان من بيتِ أبي عقاب، لحق بهما والدُهما، وهمسَ لسلطان:
اركبِ الحمامةَ، فهي تُسابقُ الرّيحَ، وأحضرْ معها ابنتَها المُحَجّلة" فقد صار عمرُها أربعةَ أشهرٍ؛ لِنُهديَها لأبي عُقاب، وارجعْ وحدكَ دون ماجد، وأنا في انتظارِك.
عندما وصلا مضاربَهما قال ماجد لوالدتِه وهو يضحك كما الأطفال:
عروسي سلمى مثل القمر"يمّه".
تفاجأت أمُّه بما قاله، وتساءلت وهي تحتضنُه وتُقَبِّلُه ضاحكةً:
مِنْ أينَ هي؟ ما اسمُ والدِها؟ ألف مبروك "يمّه"
لَمْ تسمعْ صفيّة جوابًا من ماجد، فقد نسي اسمَ المكان، واسمَ والدِ العروس.
فقال لها سلطان:
لا تستعجلي الأمورَ "يمّه"، لقدْ طلبَ الوالدُ لنا ابنتيّ الشّيخ أبي عُقاب من النّقب، وتمّت الموافقة، وأرسلني الوالدُ؛ لآخذَ منكِ ستّين ليرةً ذهبيّةً مهرًا وكسوةً لهما، وسأعود بها الآن إلى الوالد.
هاجتْ صفيّةُ مِنْ شدّةِ الفرحِ، وأرادتْ أنْ تطلقَ زغرودةَ الفرح، غيرَ أنّ ابنها سلطان وضع يدَهُ على فمِها، وكتمَ صوتَها وهو يقول:
لا داعيَ لهذه العجلة يمّه، واكتُمي الخبرَ حتّى نعود أنا والوالد يومَ غدٍ، وإيّاكِ أن يخرجَ ماجد مِنَ البيت.
استلمَ سلطانُ مبلغَ المهرِ من والدتِه، وامتطى الحمامةَ بعد أنْ فكَّ رِباطَ ابنتها "المحجّلة" لِتَلحقَ بوالدتِها.
وما أنْ غادرَ سلطان المكان، حتّى هرعتْ صفيّةُ إلى والدتِها؛ لتُخبِرَها بطلب عروسين لولديها ماجد وسلطان.
حمدلتْ زبيدة ثلاث مرّات متتالية، ولسانُها يخرجُ مِن فمِها الأدردِ، كأفعى تُطِلُّ برأسها مِن جُحرِها وقالت:
مبروك يا بنتي، هل الخطبةُ لماجد وسلطان، أم لسلطان وحده؟
- لكليهما يا أمّي.
- مِنْ أين العروسين؟
- العروسان شقيقتان من النّقب، وأبوهما الشّيخُ أبو عُقاب.
- أبو عُقاب يا ابنتي ليس شيخَ قبيلتِه، بل هو أحدُ وُجهائها، ويطيبُ له أنْ يُلقَّبَ بالشّيخ.
- لِيكن كما يريد، المهمّ أنّه أعطانا ابنتيه لولدينا، خصوصًا ماجد، فَهَمُّه يُؤرّقني، أمّا سُلطان فكلُّ الفتياتِ يتمنّينه.
- لا تنسي يا صفيّةُ فضلَ مسعود، فسمعتُه الطّيّبةُ – أطالَ اللهُ عمرَه- تجعلُ الآخرين لا يرفضون له طلبًا.
- لكنّي أخشى أن يكتشفوا حالةَ ماجد، ويتراجعوا عن موافقتِهم على زواجِه من ابنتهم.
- لقد اصطحبه أبوه هو وسلطان معه، ورأتْه العروس ووالدُها ووالدتُها، ووافقوا عليه.
- مسعود إنسانٌ ذكيٌّ، يعرفُ ما يُريد، مع أنّه قليلُ الكلام، واصطحابُه لماجد معه لم يكنْ عفويّا ولا عبثيّا.
أوصتْ صفيّةُ والدتَها بعدمِ نشرِ الخبر قبلَ عودة مسعود.
وصلَ سلطانُ بيتَ أبي عُقاب بعدَ صلاةِ العشاء، ولمّا دخلَ الديّوانَ وفي مُناورةٍ من أبيه سألَهُ:
أينَ ماجد؟
التقطَ سلطان ما يقصدُهُ أبوه فأجاب:
وجدنا في الدّيوان ضيوفًا مِنْ شيوخِ بني خالد، ورغمَ أنّ رجالَ العشيرةِ قاموا بواجب الضّيافة، إلّا أنّه لا يليقُ بنا أنْ لا يتواجد أحدٌ منّا معهم، فبقيَ ماجدُ في الديّوان مع الضّيوف.
فقالَ أبو عُقاب وقد أُعجبَ بما سمع:
بقاءُ ماجد مع الضّيوفِ واجب، وباركَ الله بِكما.
سُرَّ الشّيخُ ماجد من جواب ابنه سلطان، أخذَ منه مهرَ العروسين، ونقدَه لوالدهما، وقالَ:
يا أبا عُقاب تعالَ انْظرِ "المُحجّلة"، وهي بنتُ الحمامة الأصيلة من سلالة أصايل، عُمرُها أربعةُ أشهرٍ، وهي "هديّةٌ لك منّي ما مِنْ وراها جزيّه"، اربطْها مع فرسِكَ، وارخصْ لنا، فقد سمعتَ ما قالَه سلطان، شيوخُ بني خالد في ديارنا، ولا يليقُ بنا ألّا نكونَ في استقبالهم، وطلبَ مِنْ سلطان أنْ يأتيَ بالحمامةِ وابنتِها لباب الدّيوان.
عندما وقف الشّيخان أمام الدّيوان، اقتربتِ الحمامةُ وابنتُها المحجّلةُ من الشّيخِ مسعود، وكأنّهما تُصافحانه وتشمّان رائحتَه، بينما هو يُمسّدُ بيديه على وجهيهما.
تقدّمَ أبو عقاب من المُحجّلة، تحسّسَ وجهَها ورقبتَها، وقالَ:
هذه فرسٌ عربيّةٌ أصيلة، شكر الشّيخَ مسعودًا على الهديّة، والتفتَ لابنه وقال:
هاتِ يا عُقاب رسَنا للمُحجّلة وامسكْها حتّى تُغادرَ أمُّها، واربطْها بمربطِ خيولِنا، فهذه هديّةٌ لا تُقدّرُ بثمنٍ قبلناها مِنَ الشّيخ مسعود. والتفتَ إلى الشّيخ مسعود يشكرُه وهو يقول:
لولا أنّ عُذرَكم مقبولٌ لما سمحنا لكم بمغادرتِنا بهذه السّرعة.
الشّيخُ مسعود: نعرفُ طيبتَكم وأصالتَكم، لكن " للضّرورة أحكام."
تصافحوا وتعانقوا، امتطى الشّيخُ مسعود الحمامة، وركضَ سلطان إلى فرسِه وامتطاها، غادرا المكانَ بحفاوةٍ بالغة، وسلمى واسليمة وأمُّهما تنظرانهما من وراء رِواقِ البيت. عندما قفزَ سلطان على ظهرِ فرسِه، قالتْ أمُّ عُقاب:
باسم الله ما شاء الله! قفزَ على ظهر الفرس كما الفهد، فارتسمتْ على شفتي خطيبتِه اسليمة ابتسامةُ فَرَحٍ عريضة.
في طريقِ العودةِ إلى مضاربِهِ وبيتِه امتدحَ الشّيخُ مسعود نباهةَ ابنِه سلطان، مع أّنها ليستْ غريبةً عليه، وتمنّى في سرِّه لو أنّ ماجدًا نبيهٌ مثلُ شقيقِه سلطان، أو قريب منْ نباهتِه.
عند منتصف الليل وصل الشّيخُ مسعود وابنُه سلطان مضاربَ العشيرةِ، قفزتْ صفيّةُ -التي لم يغفُ لها جفنٌ من شدَّة الفرح- كغزالٍ شارد، صافحتْ زوجَها مسعود، قبّلت يدَه اليُمنى ووجنتيه فرحةً وهي تقول:
أدامكَ اللهُ تاجًا فوقَ رؤوسِنا.
******
في مساءِ اليومِ التّالي توافدَ – كما هي العادةُ-غالبيّةُ رجالِ العشيرةِ إلى ديوان الشّيخِ مسعود، بينما سبقَهم أبو ضُبيع وسويلم وزميتان بحضورِهم بعد صلاةِ العصرِ مباشرةً، احتسوا القهوة الّتي صبّها لهم الخادمُ، فمن عاداتِ أهل البوادي أنْ يستقبِلوا وأن يُوَدّعوا من يدخلُ بيوتَهُم بالقهوة، تحدّث أبو ضُبيع، كونه أكبرَهم عمرًا وحكمةً فقال مُخاطبًا الشّيخَ مسعود:
لعلّك تعلمُ يا أبا ماجد أنّ يومَ غدٍ الخميس هو افتتاحُ موسمِ النّبيّ موسى.
الشّيخ مسعود: طبعًا أعلمُ ذلك، وسنشاركُ في هذا الحفل.
أبو ضُبيع: بالأمسِ التقيتُ حاجبَ الحاكم دار عندَ صلاة الظّهر في مسجدِ المقامِ، وقالَ لي بأنّه يحملُ لكَ دعوةً لحضور حفلِ الافتتاح، فاستلمتُها منه.
الشّيخُ مسعود: سنحضرُ بدعوة ودون دعوة، فنحنُ أولى النّاس بالمقام.
أبو ضُبيع: لقد افتقدتُكم أنت وماجد وسلطان يوم أمس.
الشّيخُ مسعود:" لو صبر القاتل على المقتول مات لحاله"، هذا ما نويتُ أن أقولَه لكم.
- كفانا الله الشّرّ، ما الأمر يا شيخ؟
- بالأمس اصطحبتُ ماجدًا وسلطانَ إلى النّقب، وطلبتُ لهما ابنتي الشّيخ أبي عُقاب، وسهّلَ اللهُ الأمر، وخطبتُهما لهما، وإن شاء اللهُ سيكونُ الزّفافُ يوم الجمعة نهاية الأسبوع القادم، وسنبدأ احتفالَنا اعتبارًا من مساء بعد غدٍ السّبت.
أبو ضُبيع: لو أخبرتنا يا رجلُ لرافقناك.
الشّيخ مسعود: لا غِنًى لي عنكم، وأنتم ذُخري وسندي في يومِ العوزِ، وما اعتقدتُ أنّ الأمرَ سيتمُّ بهذه السّرعة.
أبو ضُبيع والحضور: مبارك يا شيخُ، والتّمامُ على خير.
الشّيخُ مسعود: فليستعدّ الشّباب في موسم النّبيّ موسى لاستقبال زُوّارِ المقامِ على ظهورِ الخيول، وأنا وأنت سنكون في استقبال الحاكم دار، وسنقف بجانبِه لاستقبال الشّخصيّاتِ الرّسميّةِ والهامّة.
زفاف ماجد وسلطان:
باحَ الشّيخُ مسعود لشيماء زوجتِه الثّانية عن مخاوفه من عواقب زواجِ ماجد، فقالتْ له:
لا داعيَ لكلِّ هذه المخاوف، فما دامت العروسُ ووالداها قد رأوا ماجدًا وجالسوهُ ووافقوا عليه، فهذا يعني أنّهم يريدون القُربَ منكم، ولم يعُدْ لهم عذرٌ يقولونه، وهناكَ من هم أسوأ حالًا من ماجد وتزوّجوا وانستروا.
- لكنّ ماجدًا-كما تعرفينه- غيرُ قادرٍ على العيشِ في بيتٍ مُستقلّ.
- هذه ليستْ مُشكلة، بإمكانِكَ أن تقسِمَ بيتَ والدتِه إلى قسمين، قِسم لها ولبقيّة أبنائها، والجانب الآخر لماجد وزوجته. وابنِ بيتًا مُنفصلًا لسلطان وزوجته.
- هذا ما أفكّرُ به.
في احتفالاتِ موسم النّبيّ موسى، دعا الشّيخُ مسعود معارفَه من الأعيان الّذينَ شاركوا في الاحتفالات لحضور زفافِ ولديه. وأرسلَ مبعوثيه من الشّبابِ الأشدّاءِ لدعوةِ شيوخِ العشائرِ؛ الّذين لم يحضروا احتفالات الموسم، وهم من شمال ووسط فلسطين ومن جنوبِها، ومن شرق الأردنّ وشمال جزيرةِ العرب، ومن بادية سوريّة. وأرسلَ أبا ضُبيع إلى الشّيخِ أبي عُقاب، لِيُرَتِّبَ وإيّاه كيفيّة إحضار العروسين.
عندما طَرَحَ أبو ضُبيع على أبي عُقاب كيفيّة إحضار العروسين، صمتَ الأخيرُ هُنيهةً وقال:
هذه بسيطة، في صباحِ الجمعة القادم، سنتوجّه أنا وزوجتي وأبنائي بمن فيهم العروسان إليكم، وانتظرونا أنتم عندَ "السّنام" بالقرب من مسال وادي النّار، ومن هناكَ تبدأ الفاردةُ، وخلال ساعةٍ سنصلُ مضاربَكم.
أبو ضُبيع: ما قصّرتَ يا أبا عُقاب، هذا اقتراحٌ جيّدٌ، لكنّني سأطرحُ عليك تعديلًا بسيطًا.
- تفضّل.
- سنبني لكم بيتًا عندَ السّنام في البقيعة قريبًا من مضاربنا، وسنجّهّزُه لكم بكلّ احتياجاته، وتأتونَ أنتم إليهِ وتسكنونه قبلَ الزّفافِ بليلةٍ أو ليلتين، وسنأتيكم بفاردةٍ تليقُ بكم يومَ الجمعة، ونأخذ العروسين.
فكّرَ أبو عُقاب قليلًا وقال:
اقتراحُكَ أصوبُ من اقتراحي، سنقيمُ حفلًا للنّساء مساءَ الثّلاثاء؛ كي تُوَدّعَ العروسان قريباتِهما وصديقاتِهما، وسنتوجّه إليكم صباحَ الأربعاء.
******
عندما عاد أبو ضُبيع إلى مضاربِ عشيرتِه، أثنى الشّيخُ مسعود على اتّفاقِه مع أبي عقاب، واقترحَ أن يفرشوا عددًا من غُرَفِ الطّابقِ الثّاني في خانِ مقامِ النّبيّ موسى؛ لِينامَ فيه المدعوّون القادمون من مناطق بعيدةٍ لحضورِ حفل الزّفاف.
فوافقَ أبو ضُبيع على اقتراحِ الشّيخِ مسعود دون نقاش.
أسبوع الفرح والزّفاف
بدأت الاحتفالاتُ بزواج ماجد وسلطان مساء السّبت، يصطفُّ الرّجالُ في السّامرِ بعدَ صلاةِ المغرب مباشرةً، يتنقّلون بين السّامر المعروف والدّحّيّة، امرأتان منقّبتان -كي لا يعرفهما الرّجال- تقفان أمام الرّجال في السّامر، وفي يد كلّ واحدة منهما سيف، تقومان بدور "الحاشي"، ترقصان رقصةَ السّيفِ، وهما تقودان رجالَ السّامرِ في خطوات منتظمةٍ ومحدّدةٍ إلى الأمام، ولا يلبثون أن يعودوا إلى الخلف تحتَ اهتزاز سَيْفَيّ "الحاشيتين"، أبدعت شيماءُ زوجةُ الشّيخِ مسعود الثّانيةُ بحركاتها الفنّيّةِ، التي اكتسبتها في مسقطِ رأسهِا في البادية السّوريّة، في إحدى فقرات الدّحّيّة التي شاركَ فيها الشّيخُ مسعود، كانت "الحاشيتان" زوجتيه صفيّة والدة العروسين ماجد وسلطان، وشيماء زوجة أبيهما، لم تخفَ "الحاشيتان" على زوجهما، الذي انتبه لرقصة زوجته شيماء، التي كانت تتلوّى بسيفها كعروس البحر، فاهتزّ شاربُه طربًا، لم تستطعْ صفيّةُ مجاراة شيماء في رقصات "الحاشي"، ولجمال رقصات شيماء ودهشتِها الّتي لم يعهدْها الرّجالُ من قبل، فإنّهم لم يحتاجوا إلى كثيرٍ من الذّكاء لمعرفةِ صاحبة الرّقصة.
أمّا النّساءُ فقد تجمّعنَ في بيت صفيّة والدة العروسين ماجد وسلطان، وعندَ غروبِ الشّمسِ خرجنَ إلى السّاحة خلفَ البيتِ؛ كي لا يظهرنَ مباشرةً أمام الرّجال، وباشرنَ الرّقصَ والغناء، معَ أنّهنَ كنّ يتلصّصنَ بنظرهنَّ على سامرِ الرّجال، والعكسُ أيضًا فعلَهُ الرّجال. بعضُ الفتياتِ العازباتِ بمبادرةٍ ذاتيّةٍ منهنّ أو بتوجيهاتٍ من أمّهاتهنّ، ارتدتْ كلٌّ منهنّ أجملَ ثيابِها، وكحّلتْ عينيها، ودهنتْ وجهها بزيتِ الزّيتونِ المعطّر ببعض الأعشابِ الخاصّة؛ لِتَبدوَ في أبهى جمالِها أمامَ من يراها من الرّجال، وأمامَ النّساء الأخريات، خصوصًا من لهنّ أبناءٌ عازبون؛ لعلَّ وعسى أنْ تنتبه لها أمُّ العازبِ فتخطبها لاحقًا لابنِها، فحفلاتُ الزّواج في البدايةِ بمثابةِ حفلِ تعارفٍ بقصد زواجِ الشّباب.
*********
وصلَ أبو عقاب وزوجتُه وبنتاه العروسان سلمى واسليمة، وأبناؤه إلى "السّنام" ظُهرَ يوم الأربعاء، قبلَ حفلِ الزّفافِ بليلتين، وجدوا بيتَ الشّعَرِ مبنيّا ومُجَهّزًا بالفراش وبمُختلفِ أنواعِ الخُضار والفواكه، والقهوةِ والشّاي لهم -كما اتّفقوا مع أبي ضُبيع-، ووجدوا الشّيخَ مسعودًا وأبا ضُبيعٍ وشابّين لخدمة الضّيوف في استقبالِهم، ذبحوا لهم خروفًا، وعندَ العصرِ استأذنَ الشّيخُ مسعود وأبو ضُبيع وانصرفا لاستقبال الضّيوفِ، الّذين يشاركون في إحياء حفلِ السّامر.
وما أن غادرَا المكان حتّى قالَ أبو عُقاب لأهلِ بيتِه:
استعدّوا جميعُكم؛ لِنذهبَ كي نشارِكَ في حفلِ السّهرة.
استغرب عُقابُ ووالدتُهُ ما سمعاه، نظرَ كلٌّ منهما إلى وجهِ الآخر، فتساءلتْ أمُّ عقاب:
كيفَ سنذهبُ إليهم مع ابنتينا العروسين. لِمَ هذه العجلةُ؟ هل سنهديهم ابنتينا قبلَ الزّفاف؟
انزوت العروسانِ في طرفِ البيتِ حياءً، وإنْ كانت اسليمة على شوقٍ؛ لترى سلطان فارسَ أحلامِها، بينما أثنى عُقابُ على كلامِ والدتِهِ، وانتظر الجوابَ من أبيه على تساؤلاتِها.
تنحنحَ أبو عُقاب وقال:
" الطّيب ما بلتحق"، لِمَ هذا الحياءُ الزّائف؟ وقد تمّ عقدُ زواجهما، أيّ أنّهما بحكم المُتزوّجات، سلمى زوجةٌ لماجد واسليمة زوجةٌ لسلطان، ومشاركتُنا بسهرةِ العرسان بمثابةِ رسالةٍ للشّيخ مسعود ولربعِه، بأنّنا أهلٌ، وهذا سيكونُ في صالحِ ابنتينا.
لم يجدْ عُقابُ ووالدتُهُ ما يُعقّبانه على هذا الكلام. قبلَ غروبِ الشّمسِ بقليل، امتطوا خيولَهم واتّجهوا إلى مضاربِ الشّيخِ مسعود، فوصلوها بعدَ الغروبِ بقليل، وهناك استُقبِلوا استقبالًا فوقَ العادة. عندما دخلتِ العروسانِ تتقدّمُهما أمُّهما ساحةَ النّساء، لم يعرفْهُنَّ أحدٌ، ولمْ يعرفن أحدًا، فقالت أمُّ عقاب بعدَ أن طرحتْ تحيّة المساء:
جئناكم يا عربَ الشّيخ مسعود بعروسيكُما، فانطلقتْ زغاريدُ النّساء اللواتي تزاحمنَ على احتضانِ العروسين ووالدتِهما.
لمّا دخلَ أبو عقاب وابنُه ديوانَ الشّيخِ مسعود، هبّ الشّيخُ واقفًا ووقفَ كلّ من في الدّيوان وهو يقول:
هلا بالغانمين، هلا بأبي عقاب وبولده عقاب، وبعد المصافحةِ الحميمةِ أقسمَ الشّيخُ مسعود أنْ يجلسَ أبو عُقاب في مكانِه، وجلسَ هو على يمينِهِ، وابنُهُ عقاب على يساره، وهذه هي المرّة الأولى الّتي يُخلي فيها الشّيخ مسعودٌ مكانَه لشخصٍ آخر.
*********
بعد قليل وصلَ شاعرُ ربابةٍ غريبُ الدّيارِ إلى ديوانِ الشّيخ مسعود؛ لِيَتكسّبَ بعد أن سمعَ في مقامِ النّبيّ موسى عن كَرَمِ الشّيخ وجودِه، جلسَ الشّاعر بجانبِ أبي ضُبيع قُبالة الشّيخ مسعود، ودلالُ القهوةِ النّحاسيةُ على الموقدِ في منتصفِ البيت.
امتشقَ الشّاعرُ ربابتَهُ وعزف عليها عزفَا اشرأبّتْ له أعناقُ الرّجال، حتّى إنّ بعضَهم تركَ السّامرَ ووقف أمامَ الدّيوان يرى ويسمعُ، فأطلقَ الشّاعرُ صوتَه متناغمًا مع عزف الرّبابة وقال:
باسم الله واسم الرّسول مَدّيت
باب كريم وباب داركم قصدنا
فقال الشّيخُ مسعود وآخرون:
حيّاكَ الله.
كرّر الشّاعرُ ما قاله مرّةً أخرى وهو يتفحّصُ وجوهَ الحاضرين، فرأى جمرةً تطيرُ من الموقد، وتحُطّ على ذيلِ عباءةِ أبي عُقاب، فقطع الشّاعرُ قصيدتَه وواصل العزفَ والغناءَ قائلًا:
يا شيخ النّار هبّت بْعَباتَكْ
فقالوا طربين: إييييي
وعاد وكرّرَ قائلًا:
يا شيخ النّار هبّت بْعَباتَكْ
فازدادوا طربًا وعادوا يقولون:
إيييييي
فقال الشّاعر:
يا شيخ النّار هبّت بْعَباتَكْ
يا شيخ أقول الصّدق ما هو هزار
فواصلوا ترديد إييييي طربين
وما انتبهوا إلّا والنّار تهبُّ بملابسِ أبي عُقاب، فانقسم الحضور إلى قسمين، قسم يضحك وقسم يُطفئ النّيرانَ الّتي هبّت بملابس أبي عُقاب.
وبعدها عاتب أبو عُقاب الشّاعرَ؛ لأنّه لم يُطفئِ الجمرةَ التي حطّت على عباءته، فردّ عليه الشّاعر غاضبًا:
وهل تريدُني أن أُفسدَ عزفي وقصيدتي من أجل عباءتك؟
فانفرطَ الحضورُ ضاحكين باستثناءِ الشّيخ مسعود، الّذي طلبَ من ابنه سلطان أن يُحضرَ عباءةَ وقمبازًا وثوبًا لأبي عُقاب. تمنّعَ أبو عُقاب بقبولِ الملابسَ البديلةِ قائلًا:
النّارُ لم تنلْ من ملابسي كثيرًا، ولم تأكلُ منها سوى دوائرَ صغيرةٍ في ذيل كلٍّ منها.
لكنّه استبدلَها بعد أن أقسم الشّيخُ مسعود على ذلك، وبعد أن قال:
الملابسُ التي هبّت بها النّارُ ستكونُ من نصيبِ الشّاعر، وهذا الحريقُ البسيطُ فألُ خيرٍ، يُنبئُ بنهايةِ مرحلةٍ وبدايةِ أخرى.
تقبّلها الشّاعرُ بصدرٍ رحبٍ وواصل غناءَهُ المتناغمُ مع عزفِه على الرّبابة:
سمّيت باسم الله والصّبح مدّيت....باب الكريم وباب خيّر قصدناه
يا الله يا خالق العرش والبيت....وغافر ذنوب العبد لكل من جاه
هات الحبر والقلم على القول نويت....وحسّيت في قلبي علومًا تبراه
يا عيد يومِنّك على الخيل شدّيت... من نجد جيتوا على الرّكايب مباراه
مِبداكو جبه يا عزّ ما جيت... وماهي زلال مثل عين الأصبراه
وزرتوا رسول الله وجيتوا على البيت...وطلعتوا على عرفات جبل المناجاه
وعقب الفريضة شدّت النّاس وشدّيت ....من فوق شقر زاهيات مزهاه
هات القلم يا عيد على القول نويت...البارحة كثرت همومي وجظّيت
من كثرة شيلي للمثاقيل تحرّيت.....ولّلي انكتب على العبد لا بدّ يراه
خابر دروب البرّ ما يوم زلّيت ....من كثره ما قاسيت منها مْقاساه
وجيت العريش من شرقاه مدّيت....أوصلتوا بلاد الشّام عقب المعاناه
وأختم كلامي بالنّبّي صفوة البيت ....طه رسول الله للحقّ ناداه
بعد أن شكا الشّاعرُ بأنّه لا يملكُ ركوبة، أنعم الشّيخ مسعود عليه بأن أعطاه ناقةً، وقال له:
هذه النّاقة ركوبةٌ صبورة، تركبُها وتشربُ حليبَها.
انتهى زفاف "العرسان" مساء الجمعةِ على ما يُرام. وأُخليَ لماجد وسلمى في الجزء المخصّصِ لهما في بيتِ والدتِه صفيّة، الّتي أخلتِ البيتَ هي وأطفالُها للعروسين، بينما أُخْلِيَ لسلطان واسليمة في بيتهما المستقلّ. أنهى ماجد وسلطان مهمّتيهما مع عروسيهما خلال دقائق معدودة، وخرجا إلى الدّيوانِ -كما هي العادة-، فهرعتْ والدتا "العرسان" لِتَتفقّدا سلمى واسليمة، وزغردت كلّ منهما، صفيّةُ فرحة بفحولةِ ابنيها، وأمُّ عقاب فرحةٌ بثبوتِ عذريّةِ ابنتيها.
نفاد الصّبر
في صباحِ اليومِ التّالي غادرَ أبو عقاب وزوجتُه وابنُه مضاربَ الشّيخِ مسعود عائدين إلى مضاربهم في النّقب، لم يسستطيعوا توديعَ ابنتِهم سلمى؛ لأنّ ماجدًا لم يسمحْ لها بالخروج.
اعتصمَ ماجد مع عروسِه في البيتِ أسبوعًا كاملًا، لم يخرُجْ ولم يسمحْ لسلمى عروسه بالخروج، كانَ يتناولُ الطّعامَ من والدتِه من وراء رواقِ البيت، أمّا سلطان فقد استقبلَ المهنّئين مع والدِه في الدّيوان، بينما اسليمة تستقبلُ المُهنّئاتِ مع حماتِها صفيّة، وعندما تسألُ إحداهنّ عن سلمى، فإنّ صفيّة تجيبُها ضاحكة:
سلمى وماجد عروسان يسهران الّليلَ وينامان النّهار.
وإذا ما سألَ أحدٌ من غير أبناءِ العشيرة عن ماجد؛ لِيُباركَ له بالزّواج، فإنّ شقيقَه سلطان يجيب:
لقد أرسلَهُ الوالدُ في مهمّةٍ.
بعدَ مرورِ أسبوع على زواج ماجد وسلطان، قال أبو ماجد لزوجته صفيّة:
أينَ ماجد يا صفيّة؟ لِمَ لا يخرجُ من البيت؟
ارتبكتْ صفيّةُ من سؤال زوجِها وقالت متلعثمةً:
ماجد مع عروسِه يا ابنَ العمّ.
- أعرفُ أنّه مع عروسِه، لِمَ يختبئْ عن النّاس؟ ولِمَ لا يسمحُ لسلمى بالخروج؟
- لا أعلمُ شيئًا، وأنا أطلبُ منه كلّ يومٍ أن يخرجَ إلى الدّيوان، لكنّه يلتزمُ الصّمت، وكأنّه لا يسمعُني.
- لقد مرّ على زواج ابنيكِ يا صفيّة أسبوعٌ كامل، وعليهما أن يذهبا مع عروسيهما لزيارةِ أهلِهما،- كما هي العادات-.
لَمْ تجدْ صفيّة كلامًا تقولُه، فالتزمتِ الصّمت، لكنّ الشّيخَ مسعود خرجَ ووقفَ أمامَ بيتِ صفيّة حيث ماجد وعروسه ونادى:
يا ولدُ يا ماجد!
ارتعب ماجدٌ عندما سمعَ صوتَ أبيه، ولمْ يستطِعِ الكلام، فتداركت سلمى الأمرَ وقالت:
نعم يا عمُّ.
- الحقي بي أنت وماجد إلى بيت شيماء.
- حيّاك اللهُ يا عمّ.
لم تنتظرْ سلمى إذْنًا من ماجد؛ كي تلحقَ بحميها الشّيخ مسعود، وقالتْ:
هيّا بنا يا ماجد، فلا أحدَ يستطيعُ عصيانَ طلبِ الشّيخ. وخرجتْ لِتَلحَق بحميها في بيتِ زوجتِه شيماء. فلحق بها ماجدٌ كطفلٍ يركضُ خلف والدتِه.
وهنا دخلَ سلطانُ وزوجتُه اسليمة وقال:
سنذهبُ هذا اليومِ لزيارةِ صهرنا أبي عُقاب، وسنبيتُ عندهم هذه الّليلة، فهيّا بنا يا ماجد أنت وسلمى.
فقالَ ماجد: أنا لن أذهبَ معكم، لأنّني مريضٌ!
فقال أبو ماجد: اذهب يا سلطانُ أنت واسليمة وخذا معكما سلمى، واعتذرْ عن ماجد، وقلْ لهما أنّه سيزورُهم عندما يتعافى من مرضه.
عبستْ سلمى وحوقلت وهي تنظرُ إلى ماجد نظرةَ حسرةٍ ولوعة، وكأنّها تبكي حظَّها، ولم تنبسْ ببنت شفةٍ.
التفتَ الشّيخُ مسعود إلى سلطان وقال:
اذهبوا الآن واشتروا من مدينةِ الخليلِ هديّةً ثمينة.
*********
بعدَ أن امتطى سلطان واسليمة وسلمى أفراسَهُم وغادروا في طريقِهم إلى النّقب، قال الشّيخُ مسعود جَزِعًا لماجد:
سَوّدَ الله وجهكَ ووجوهَ من زوّجوك.
فقالت شيماءُ: وحّدِ اللهَ يا أبا ماجد.
في حين انصرفت صفيّة " أمُّ ماجد" من الجلسةِ حزينةً، ودموعُها تنهمرُ على خدّيها، بينما قالَ ماجد بسذاجة:
أريدُ عروسي سلمى! أينَ هيَ؟
قال الشّيخ مسعود غاضبًا:
انصرفْ من هنا، اذهبْ لأمِّكَ لِتَدُلَّكَ عليها.
ما أن وصلَ ماجد بيتَ أمّهِ في الجوارِ، حتّى علا صوتُه كخوارِ ثورٍ تُهاجمُهُ لبؤةٌ وتُطبقُ على حُنجرتِه بأنيابِها ويصرخ:
أينَ حبيبتي زوجتي سلمى؟ لِمَ أخذتموها منّي؟
خرجَ الشّيخُ مسعود من بيتِ شيماءَ حافيَ القدمين، وضعَ يدَهُ على فمِ ابنِه ماجد وهو يقول:
فضحتَنا أماتَكَ اللهُ.
قالتْ صفيّة باكيةً:
اتركْهُ يا ابنَ العمّ، لقد خنقتَه.
بلغَ غضبُ الشّيخ مسعود مداه، فأشهر سيفَهُ وهو يقول:
اخرسي أنت وهذا المعتوه، وإلّا سأقطعُ رأسيكُما.
توقّفَ ماجدُ عن الصّراخِ وهو يرتجفُ خوفًا، وسكتتْ والدتُه ودموعُها تسيلُ على وجنتيها، بينما واصلَ الشّيخُ مسعود كلامَه قائلًا:
ما عدتُ قادرًا على احتمالِ حماقاتِ هذا الولد، ولن يبقى في ديرتي، فلينصرفْ إلى حيث يشاء، وإلّا سأقتلُه، والتفتَ إلى أمِّ ماجد وقالَ لها:
لكِ الخيارُ في أن تذهبي معه أو أن تبقي هنا.
سألتْ صفيّة وهي تبكي حزينةً:
إلى أينَ سيذهبُ؟ استعذ بالله يا ابنَ العمِّ، لعلّ الله يُصلحُ أمرَه.
- أقسمتُ أن لا يبقى في ديرتي، لِيَنصرف، فبلادُ اللهِ واسعةٌ، جهزّي له ما ترينه من طعامٍ وشرابٍ وملابس، وأعطِهِ خمسَ ليرات، و" طريق تأخذ ما تردّ"، وحمّليه على حمارٍ، وقالَ لماجد:
انتحلْ اسمًا آخرَ، ولا تقلْ لأيّ إنسانٍ عن اسمِ أبيكَ أو اسم عشيرتك.
حاولتْ شيماء أنْ تُهدّئَ الشّيخَ مسعود، واستعانتْ بأبي ضُبيعٍ؛ كي يعفوَ عن ماجد، لكنّه لمْ يتراجعْ عن قرارِه.
من شدّةِ خوفِه غادرَ ماجدٌ مضاربَ عشيرتِه وحمارُه أمامه، وهو يبكي كما الأطفال ويصرخ قائلًا:
لماذا تُريدون قتلي؟ ماذا فعلتُ بكم؟ أين عروسي؟ لماذا أخذتموها منّي؟
شيّعّتْهُ أمُّه وهي تبكي، وتُهدّئُ من روعه قائلةً:
أبوك غاضبٌ هذا اليوم يا ماجد، اذهبْ إلى أريحا ونمْ في مسجدِها يومين أو ثلاثة حتّى يهدأ أبوك، وَارجعْ إلي بيتك، وستكون زوجتُكَ في انتظارِك.
واصلَ ماجدٌ طريقَهُ على غيرِ هدى، يتبعُ الحمارَ الّذي اتّجه شرقًا. عندَ نهرِ الأردنِّ التقى رجُلًا مُسنّا يتوكّأُ على عصا، عندما رآهُ الرّجلُ يبكي سأله:
ما شأنُكَ يا فتى؟ لِمَ تبكي؟ إلى أين أنت ذاهبٌ؟
- يريدون قتلي يا عمّ.
- من يريدُ قتلكَ؟
- أبي.
- أعوذ بالله...هذا غيرُ معقول، هل أنت مخبولٌ؟ ما اسمُ أبيك؟
لَمْ يُجِبْ ماجد على أسئلةِ الرّجل، لكنّه واصلَ البُكاءَ، فعادَ الرّجلُ يسألُه:
إلى أين أنت ذاهبٌ؟ وما اسمُكَ؟
- اسمي ماجد، ولا أعرفُ إلى أين أنا ذاهب، لكنّي أريدُ أن أذهبَ إلى منطقةٍ لا يعرفُني فيها أحد.
- ما اسمُ أبيك؟
- لا أعرف.
فكّرَ الرّجلُ قليلًا وقال:
تعالَ معي...هل تسمحُ لي بامتطاء حمارك؟
- تفضّل يا عمّ.
امتطى الرّجلُ الحمارَ وقال:
اتبعني إلى مخاضةٍ عريضَةٍ لِنَعْبُرَ النّهرَ.
بعدَ أن عبروا النّهرَ باتّجاه الشّرق، ومن خلال الحديثِ بينهما عرف الرّجلُ المسنُّ أنّ ماجد يعاني من حالةٍ نفسيّةٍ صعبةٍ أو من مرضٍ عقليٍّ، وقد يكون هذا سببّا في تخلّي أهلِه عنه، فقرّر احتضانَهُ ورعايتَه، خصوصّا وأنّه في مرحلةِ الشّيخوخة، ولمْ يُنجبْ أبناءً، ويعيشُ وحيدًا بعد وفاة زوجتِه قبل ثلاثةِ أشهر، شدّ بعدها الرّحالَ من مضاربِ عشيرتِه في ضبا القريبة من تبوك، إلى المسجدِ الأقصى، وهو يعود إلى عشيرتِه بعدَ أنْ نفقتْ فَرَسُهُ في القدس.
العرسان
عندما أطلَّ سلطانُ ابنُ الشّيخ مسعود وعروسُه اسليمة وشقيقتُها سلمى عروسُ شقيقِه ماجد على مضاربِ عشيرةِ صهرِه أبي عُقاب، صهلتِ الحمامةُ التي يمتطيها سلطان، فجاءتْها ابنتُها "المُحَجّلةُ" تعدو وتصهلُ، فقد عرفتْ والدَتَها من صهيلِها، اقتربتا بعضُهما من بعض وأخذت كلٌّ منهما تَشُمُّ رائحةَ الأخرى، وكأنّها تُقَبِّلُها، والمُحَجّلَةُ ترقصُ فرحةً بِرُؤيةِ والدتِها، بينما لم تستطعِ الحمامةُ التّعبيرَ عن فرحتِها بلقاء ابنتِها؛ لأنّها تحتَ سيطرةِ فارسِها سلطان الذي شدَّ لِجامَها، واكتفتْ بالحمحمة.
بعدَ الاستقبالِ الحافلِ جلسَ سلطان في ديوان أبي عُقاب الذي تواجدَ فيه عددٌ من أبناء العشيرةِ، بينما جلست سلمى واسليمة في مخدعِ النّساء مع والدتِهما، وعندما سُئلوا عن ماجد قالت سلمى:
إنّه يُعاني من وعكةٍ صحّيّةٍ، وأنّهم جاؤوا دونه احترامًا للتّقاليد، التي تقضي أن يزورَ العروسان أهلَ العروس بعد أسبوعٍ من زواجِهما، وأضافتْ:
وقد جئناكم دونه؛ كي لا تقلقوا علينا -كما قالَ الشّيخُ مسعود-.
عندما اختلتْ أمُّ عُقاب بابنتها سلمى سألتْها:
طمئنيني عن أسبوعِكِ الأوّلِ مع ماجد؟
سلمى: لقد بقيَ ملتَصِقًا بي كالتصاقِ طفلٍ بوالدتِه في بداية فِطامِه. ولمِ أعرف إنْ كان هذا حُبًّا أمْ أنّه مخبولٌ، مع أنّي أرَجّحُ الثّانية.
تنهّدتْ أمُّها وقالتْ:
استُري عليه، ولا تقولي هذا الكلامَ على مسمعِ أيّ إنسان، فيكفيكِ أنّكِ زوجةٌ لابن الشّيخِ مسعود، صاحبِ السُّمعةِ الطّيّبةِ الّتي تسبقُه.
وعندما اختلتْ أمُّ عُقاب بابنتِها اسليمة، سألتْها أيضًا عن أسبوعِها الأوّلِ مع عريسِها سلطان، فأجابتْها بابتسامةٍ عريضةٍ وهي تُحمدل:
سلطان يا أمّي شيخٌ ابنُ شيوخٍ.
فاكتفتْ أمُّ عقابٍ بهذا الجواب، وحمدتِ اللهَ على سعادةِ ابنتِها.
مرحلة جديدة
قال الرّجلُ لماجد:
اسمي يا ولدي عودة، وليس لي أبناءٌ، زوجتي متوفّاه، فهل تقبل أنْ تعيشَ معي كولدٍ لي؟
أجابَه ماجدٌ وقد ارتسم الفرحُ على شفتيه:
نعم أقبلُ.
عودة: أنا أسكنُ بعيدًا جدًّا من هنا، أنا من منطقة ضبا.
ماجد: هذا ما أريدُه.
بعدَ سبعةِ أيّامٍ وصلا" عودة وماجد" ضبا بعدَ غروبِ الشّمس، ناما تَعِبَيْنِ في بيتِ الحاجّ عودة المُكَوّن من غرفة طينيّةٍ واحدة. في اليومِ الثّاني لوصولهما، قال الحاجُّ عودة لماجد، إنّ بيوتَ ضبا متباعدةٌ، وهو يُشيرُ إليها، وغالبيّتُهم يسكنون بيوتَ الشَّعَرِ، وهم في غالبيّتهم يعتاشون على تربيةِ المواشي، والقليلُ منهم يعتاشُ على زراعة النّخيل. بعدَها أشارَ إلى بيتٍ يتكوّنُ من ثلاثِ غُرَفٍ متلاصقةٍ كمُستطيلٍ، وعلى جانِبَيها الغربيّ والشّرقيّ بَيْتا شَعَرٍ، وقال:
ذاك هو بيتُ سعيفان بن كُليب شيخِ القبيلة، سنذهبُ بعد العصرِ إليه؛ لِنُسَلِّمَ على الشّيخ، ولِأُعَرِّفَكَ عليه.
أنصتَ ماجد لكلامِ الحاجِّ عودة مع أنّه لم يستوعبْ شيئًا ممّا قاله.
التزمَ ماجد الصّمتَ في بيتِ الشّيخِ سعيفان بناءً على تعليماتِ الحاجّ عودة،
قالَ الحاجُّ عودة للشّيخِ سعيفان:
هذا الفتى يا شيخُ اسمُه ماجد، اضطُهِدَ من أهلِه وربعِه واستجار بي فأجرتُه.
نظر الشّيخُ سعيفان إلى ماجد وقال للحاجّ عودة:
حيّاكَ اللهُ وحيّاه، فإنْ أرادَ البقاءَ في ديرتِنا حميناه، وإنْ أرادَ عملًا شغّلناه.
الحاجّ عودة: بوركتَ يا شيخ، طبعًا هو يريدُ عملًا؛ لِيَعتاشَ منه.
الشّيخ سعيفان: بإمكانِهِ أن يرعى قطيعًا من أغنامنا، أو أن يعملَ في بساتينِ النّخيل.
التفتَ الحاجُّ عودة إلى ماجد وسألَه:
هل تريد العملَ معي في بساتينِ النّخيلِ أمْ راعيًا للمواشي.
ابتسم ماجد ببلاهةٍ وقال:
أنا لم يسبقْ لي أنْ عملتُ شيئًا.
فقال الشّيخُ سعيفان:
يبدو أنّ هذا الفتى ابنُ خيرٍ ونعمة، خصّصوا له قطيعًا من الأغنام لِيَرعاه، ولا تُثقِلوا عليه. وأضاف:
سأعطيهِ خروفًا أجرةً له عن كلِّ شهر.
في صباح اليومِ التّالي استبدلَ ماجد ملابسَه، وقصدَ بيتَ الشّيخِ سعيفان؛ لِيَسْتَلِمَ قطيعَ الغنمِ الّذي سيرعاه. عندما رآهُ الشّيخُ نظرَ عباءتَهُ وثوبَهُ وكوفيّتَه، ودعاه لِدُخولِ الدّيوان؛ كي يحتسيَ قهوةَ الصّباح، وهناك قال الشّيخ:
يبدو من ملابسِكَ يا ماجد أنّكَ ابنُ شيوخ، فلكَ الأمانُ وقلْ لي من أنت؟
تلعثمَ ماجدٌ بكلامه وقال:
لقد أوصاني أبي وهو يُهدّدُني بسيفه بألّا أُخبرَ أحدًا عن اسمِ أبي.
- قلتُ لك عليكَ أمانُ الله، وسأحتفظُ بالحقيقةِ لنفسي، ولن أبوحَ بها لأحد.
تردّد ماجدُ قليلًا وقال:
أنا ابنُ الشّيخِ مسعود الماجد.
ابتسم الشّيخُ سعيفان وقال:
أهلًا بك يا ولدي، و" من شابَه أباه فما ظُلِمَ"، فيكَ شَبَهٌ من الشّيخ ماجد، وأنتَ مُرَحّبٌ بكَ في ديارنا، وستبقى عندنا كواحدٍ من أبنائي؛ حتّى تعرُكَك الحياةُ، وبعدها ستختارُ البقاءَ بينَنا وبينَ العودةِ إلى أهلِكَ وربعِكَ، وستبقى في ديواني، تخرجُ مع أبنائي للعملِ في بساتين النّخيل، أو في متابعةِ الأغنام والنّوقِ والرّعاة.
لم يستوعبْ ماجد ما قاله الشّيخُ فسأل:
ماذا أعملُ الآن؟
ضحكَ الشّيخُ سعيفان وقال:
قلتُ لك ستبقى معي في الدّيوان.
في ساعاتِ الضُّحى رأى ماجد فتيةً يتمرّنون على الفروسيّة، فخرجَ يتمرّن معهم، فتساءل العبدُ الّذي يصبُّ القهوةَ في ديوان الشّيخ سعيفان عندما رآه:
من هذا الشّابُّ الّذي يلعبُ مع الفتيان؟
فأجابَهُ الشّيخ: هذا من أبنائنا، اتركوه على راحتِه، وإيّاكم أن يتطاولَ عليه أو يُسيءَ إليه أحدٌ.
عند المساء قال الشّيخُ سعيفان لأبنائه:
أريدُكم أنّ تُعلِّموا ماجدًا الفروسيّةَ، وكُلَّ شيءٍ تعملونه. فاصبروا عليه وداروه كما تدارون إخوتَكم، حتّى يشتدَّ عودُه، وتتوسّع مداركُه.
***************
في مضارب الشّيخ مسعود لم تعرفْ صفيّة أمّ ماجد النّومَ منذ طُرِدَ ابنُها ماجد من الدّيرة، تُمضي أيّامَها معصوبةَ الرّأس باكيةً.
تعيش سلمى زوجةُ ماجد في حالةِ ضياع، لكنّها لم تشكُ يومًا من الوحدة، خصوصًا بعدما تبيّنَ أنّها حامل، تُمضي يومَها في مُجالسةِ حماتِها صفيّة، وشيماء زوجة الشّيخِ مسعود الثّانية، تُقدّمُ لها حماتُها الطّعامَ في مواعيدِه وهي على فراشِها؛ كي تُحافظَ على جنينِها، وعندما تسألُ عن ماجد لا تجدُ جوابًا سوى قَوْلِ حماتها:
سيعودُ بإذن الله.
افتقدَ الشّيخُ مسعود ابنَه ماجدًا، لامَ نفسَه كثيرًا؛ لأنّه لم يصبرْ عليه، لكنّه كتمَ شوقَه، وفي محاولةٍ منه لِتَصليحِ ما أفسده، أرسلَ ابنَهُ سلطان إلى شرق النّهر؛ كي يبحثَ عن أخيهِ ماجد، دون أن يُلاحظَ أحدٌ ذلك. بينما هو صار يرتادُ القدسَ بشكلٍ شبهَ يوميّ، لعلّه يعثرُ على ابنِه ماجد بالصّدفة، أو أن يذكرَهُ أحدٌ أمامَهُ.
********
في كَنَفِ الشّيخ سعيفان شعرَ ماجدُ برجولته، فصار يتنبّهُ لأمورٍ ويدركُها، تحسّنت قدراتُه بشكلٍ لافت. بعد مرور خمسِ سنواتٍ عليه صار يُشاركُ في سباقات الخيول، وفازَ في إحداها ممّا أثلجَ صدرَ الشّيخِ سعيفان، كما صارَ يُجالسُ الرّجالَ في ديوانِ الشّيخ، وإذا ما جاء متخاصمان لديوان الشّيخ؛ فإنّ ماجد يستمعُ مع الشّيخ لِحجّةِ كلٍّ منهما، ولا يُبدي رأيًا إلّا إذا طلبَ الشّيخُ ذلكَ منه.
عرضَ عليه الشّيخُ سعيفان أن يُزَوِّجَه فتاةً من عشيرتِه، لكنّ ماجد رفض ذلك باستمرار وهو يقول:
والله يا عمّ أنا لا أرضى بديلًا لزوجتي سلمى.
الشّيخ سعيفان: أينَ سلمى يا ماجد، فهي بعيدةٌ عنك؟ ولعلّها عادت إلى أهلِها وطلبتِ الطّلاق، فهي لا تعرفُ إنْ كنتَ حيًّا أو ميّتًا.
ماجد: قلبي يقول أنّ سلمى لن تترُكَني.
- إن لمْ ترغبْ هي بتركِكَ فإنّ أهلَها سَيُجبرونها على ذلك، فمن غيرِ المعقول أن تبقى مُعلّقةً "لا زواجَ و لا طلاق" كلّ هذه السّنوات.
********
بعدَ خمسةَ عشرَ عامًا قال ماجد للشّيخِ سعيفان:
"البلاد طلبتْ أهلَها" يا شيخ.
- هل تُريد العودةَ إلى أهلك وربعِكَ يا ماجد؟
- نعم يا شيخ؟
- يطيبُ لنا أن تبقى معنا واحدًا من أبنائنا، لكن ما دامت هذه رغبتك، فلا نملكُ إلّا أن ندعو لك بسلامة العودة.
- أريدُ فرسًا ركوبةً لي يا شيخ.
- لكَ فرسٌ وسيفٌ ورُمحٌ وثلاثمائة رأس من الغنم البياض يا ماجد.
- هذا كرمٌ زائدٌ منكَ يا عمُّ، ولن أنسى فضلَك عليَّ ما دمتُ حيّا.
- هذا تعبُك وحقُّك، متى ستُغادرُنا يا ماجد؟
- الآن إذا سمحتَ لي يا شيخ.
النّصائح
فكّرَ الشّيخُ سعيفان بمصيرِ ماجد، وخافَ عليهِ من الّلصوصِ وقُطّاعِ الطّرق، فخطّطَ أنْ يَشدَّ الرّحالَ مع عددٍ من رجالِه إلى المسجد الأقصى، وقرّر أن يُبقيَ قطيعَ أغنامِ ماجد عندَه، لِيَسوقَها إليه في رحلته بعد شهرٍ إلى القدس، فقالَ لماجد:
سأنصحُكَ يا ولدي ثلاثَ نصائح، كلّ واحدةٍ منها بمائةِ رأسٍ من الغنم. أي أنّني سآخذُ أغنامَكَ جميعَها مقابلَ النّصائحِ الثّلاثة.
ماجد: أنا مُوافقٌ يا عمّ، فأنا واثقٌ أنّ نصائحَكَ أغلى من قطيع الأغنام.
الشيخ: عليكَ أن تحفظَ هذه النّصائح، وأن تفهمَها وتلتزمَ بها.
ماجد: أعِدُكَ بذلكَ يا عمّ. انصحني وتوكّل على الله.
الشّيخ سعيفان:
النّصيحةُ الأولى: إيّاكَ أن تنامَ في وادٍ لا تعرفُ بدايتَه.
الثّانية: لا تأمنْ لأيّ شخصٍ عيونُه زرقاء، وخدودُه برقاء، وأسنانُه فرقاء.
الثّالثة:" نَمْ على غيظ كيلا تُصبح على نَدَم."
هل حفظتَ هذه النّصائحَ؟ وهل فهمتَ معناها؟
ماجد: حفظتُها لكنّني لم أفهمِ الأولى.
الشّيخ: هناكَ أوديةٌ بدايتُها بعيدةٌ كتلك السّيول التي تبدأ من بلاد الشّامِ والعراق وتواصلُ طريقَها إلى الحجاز، فقد تكون هناكَ أمطارٌ وتكون أنت في جوّ صيفيّ، وإذا ما نمتَ في أحد هذه الأودية، فإنّ الأمطارَ البعيدةَ قد تصلُكَ وتجرفُكَ معها وأنت لا تدري.
ماجد: شكرًا لكَ يا عمُّ على هذه النّصائحِ الثّمينة. واسمحْ لي الآنَ بالمُغادرة.
- رافقتكَ السّلامة، خُذِ الفرسَ الشّهباءَ، وخذْ هذا السّيفَ وهذا الرّمحَ وعباءتي هذه لك. راقبِ النّجومَ في الّليلِ لِتَعرفَ طريقَك، وفي النّهار إذا لم تتأكّدْ من الطّريقِ اسألْ من يصادفونك، والآن سأجهّزُ لك ما تحتاجُه من طعامٍ وماء.
امتطى ماجدٌ الفرسَ في ساعات ما بعدَ الظّهيرة، واتّجه إلى الشّمالِ الغربيِّ كما أوصاه الشّيخُ سعيفان. عندما رأى الشّيخُ أنّ ماجدًا قد أرخى عِنانَ الفرسِ لِتَعدوَ بأقصى سرعتِها اطمأنَّ عليه، وقال:
لا خوفَ على ماجد، سيصلُ أهلَه سالمًا.
عندما حلّ الظّلامُ سمعَ ماجدٌ عواءَ الذّئابِ وضُباحَ الثّعالب وزمجرةَ الضّباع، ولمْ يَرِفّ له جفنٌ. قبلَ منتصفِ الليلِ بقليل قرّرَ أن يستريحَ وأن يُريحَ فرسَه، نزلَ عن ظهر الفرسِ بجانبِ وادٍ، لكنّه تذكّر نصيحةَ الشّيخ سعيفان الأولى "إيّاكَ أن تنامَ في وادٍ لا تعرفُ بدايتَه"، فقادَ فرسَه وصعدَ إلى بطنِ الجبل، علفَ الفرسَ، وجمعَ حطبًا؛ لِيَشويَ أرنبًا اصطادَه، ألقى عباءتَه بجانبِ الموقدِ وتمدّدَ على جانبِه الأيسرِ واضعًا سيفَهُ ورمحَه أمامه، متّكئًا على مرفقِه، اعتدلَ وجلسَ؛ لِيَستطلعَ خطواتٍ سمعَ وَقْعَها على الأرض، فرأى رجلًا يقتربُ منه، رَحّبَ بالرّجلِ ودعاه لِيُشاركَه الطّعامَ، وعلى ضوء القمرِ ولهيبِ نارِ الموقد تمعّن بوجه الرّجلِ، وإذا به أعجميٌّ تنطبقُ عليهِ نصيحةُ الشّيخ سعيفان الثّانية:" لا تأمنْ لأيّ شخصٍ عيونُه زرقاء، وخدودُه برقاء، وأسنانُه فرقاء." وتأكّدَ من صِحّةِ النّصيحةِ عندما رأى الرّجلَ يُرَكِّزُ نظراتِه على الفرسِ وعلى السّيف والرّمح، فأخذَ حذرَهُ منه. بعدَ أن تناولا طعامَهما، تمدّدَ الرّجلُ؛ لِيَنامَ على الجانبِ الآخر للموقد، وهو يحمدُ اللهَ على لقائِه بماجد؛ لِيُؤنِسَ وحدتَه في هذه الباديةِ الموحشة. تظاهرَ ماجدُ بالنّومِ متدثّرًا بعباءته ويدُهُ على مقبض سيفِه، حتّى خُيِّلَ لهذا الرّجلِ أنّه نائم، بينما كان ماجدُ يراقبُهُ دون أن يلفتَ انتباهَه، وإذا بالرّجل يقفُ ويبتعدُ بخفّةٍ ماشيًا على أصابعِ قدميه، حتّى وجدَ حجرًا بحجمِ رأسه، فانسحبَ ماجدٌ من مرقدِه تاركا عباءتَه مكانَه، واختبأَ خلفَ صخرةٍ كبيرةٍ بجواره يُراقبُ الرّجل، وإذا بالرّجلِ يلقي بالحجرِ على موضعِ رأسِ ماجد، وهو يقول:
لا ردّكَ اللهُ سأغنمُ فرسكَ وسيفكَ ورمحَك وعباءتك، فانقضّ عليه ماجد بسيفِه وقطعَ رأسه.
طارَ النّعاسُ من عينيّ ماجد بعدَ هذه الحادثة، فجمعَ الحطبَ وأبقى موقدَه مشتعلًا، وهو يلهجُ بالشّكرِ للشّيخ سعيفان على النّصيحة.
عندَ ساعاتِ الفجرِ وبينما ماجدٌ بينَ اليقظةِ والنّومِ من شدّة التّعب، انتبه لصوتِ خرير مياهٍ صاخبٍ في الوادي، فراقبَ الواديَ وهو يلهجُ بالشّكر للشّيخِ سعيفان على نصيحتيه الأولى والثّانية. عندما أشرقتِ الشّمسُ توقّفَ جريانُ المياه في الوادي، فنزل ماجد يقودُ فرسَه لِيَسقِيَها من قَرارةٍ في الوادي، وهناكَ وجدَ "خُرْجًا" مليئًا بالذّهبِ جرفته السّيولُ من مكانٍ ما، فوضع "الخُرجَ" على الفرس، وامتطاها وسارَ في طريقهِ وأفكارٌ كثيرةٌ تدورُ في رأسه.
في مساء الّليلةِ الثّانية مرَّ ماجد بالعقبةِ على رأسِ البحرِ الأحمرِ، واصلَ طريقَه إلى أمِّ الرّشراش، استحمَّ بمياه البحرِ، وتمدّدَ على رمال الشّاطئِ ونام، وفي الصّباحِ امتطى فرسَه وواصلَ طريقَه باتّجاه الشّمال.
عندَ الشّاطئ الغربيّ للبحر الميّت صعِد الجبلَ إلى الجهة الشّماليّةِ الغربيّة، وواصلَ طريقَه باتّجاه الشّرق، مارّا ببراري "بقيعة" بني نعيم، والرّشايدة والتّعامرة والعبيديّة، ودخل "بقيعة السّواحرة"، قبلَ غُروبِ الشّمسِ بقليل. عندها تلثّمَ بكوفيّتهِ ولم يُظهرْ من وجهِهِ سوى عينيه، ارتدى عباءتَه وتمنطقَ بسيفه، ورمحُه مُمَدّدٌ على ظهر الفرسِ أمامَه، فقد أرادَ أن يدخلَ مضاربَ عشيرتِه دون أن يعرفَهُ أحدٌ منهم؛ لِيُثيرَ فضولَهم. مرَّ من جانبِ مضاربِ العشيرةِ وهو "يضربُ أخماسًا في أسداس"، وقلبُه يخفقُ للقاء زوجتِه سلمى، مع مخاوفِه بألّا يجدَها، خصوصًا وأنّه غاب عنها مفقودًا خمسةَ عشرَ عامًا، لا تعلمُ إنْ كان حيًّا أو ميتا. عندما أطلّ على المضاربِ رأى بيتَه مكانَهُ وتساءلَ إن بقيَ البيتُ له أمْ انتقلَ لِغَيره، وعندما اقتربَ أكثر، رأى زوجتَه سلمى تجلسُ في وسطِ البيتِ، تسندُ ظهرَها على واسطِه، وتمدُّ ساقيها منفرجين أمامها، ورأى شابّا مُمَدّدا بين ساقيها واضعًا رأسَهُ في حضنِها، فاستشاطَ غضبًا، ومدّ يدَه إلى رمحِه يريدُ رميَهما به؛ لِيَقتُلَهما، فمن هذا الرّجلُ؟ هل تزوّجتْ بعدَه؟ ومن تزوّجَها من أبناء العشيرةِ؟ ولو تزوّجتْ من غير العشيرةِ لارتحلتْ عنها. أخرجَ زفيرًا عميقًا من صدره، واستعاذ بالله من شرِّ الوسواسِ الخنّاس، عندما تذكّرَ نصيحة الشّيخِ سعيفان:" نَمْ على غيظٍ كيلا تُصبحَ على ندم"، فأدارَ وجهَهُ عن بيوتِ العشيرةِ وهو يكادُ أن ينفجرَ غضبًا، وواصلَ طريقَهُ إلى مقام النّبيّ موسى، وقرّرَ أن ينامَ ليلتَه فيه.
بعدَ صلاةِ الفجرِ مباشرةً امتطى الشّهباءَ مُلَثّمًا، متمنطقًا بسيفهِ وعباءتُه على ظهرِه تُراقصُ نسيمَ الصّباح، سارتْ بِه الشّهباءُ خَبَبًا، وهو مزهوٌّ بنفسِه، ترجّلَ عنها أمامَ ديوانِ والدِه، لمْ يجدْ أحدًا في الدّيوان، أنزلَ "الخُرْجَ" عن ظهر الشّهباء، ربطَ عَنانَها بوتدِ أحدِ حِبال البيتِ، دخلَ الديوانَ حاملًا "الخُرْجَ"، أزاح لِثامَهُ عن وجهه، فبانَ ذقنُه الكثُّ الّذي يُغَطّي وجهَه، وضعَ "الخُرجَ" أمامَ الفرشةِ الّتي يجلسُ عليها والدُه، تفقّدّ الموقدَ فوجدَ بقايا جمرٍ تحت دَلّةِ القهوةِ، احتسى فنجانَ قهوةٍ وهو يسمَعُ والدَه يقولُ لزوجتِه الثّانيةِ شيماء:
يا فتّاح يا عليم، أنا ذاهبٌ لأرى هذا الفارسَ الّذي دخلَ الدّيوان دون "تستورِ ولا حذور".
عندما وصلَ الشّيخُ مسعود بابَ الدّيوان، لم يعرِف ولدَه ماجدًا من النّظرة الأولى الخاطفة، خصوصًا وأنّ ماجدًا قفزَ من مكانه وأمسكَ بكفِّ والده الأيمن يقبُّلُه، ثمّ احتضنه وقبّلَ وجنتيه، وهو يقول:
سامحني "يابَه" على هذا الغيابِ الطّويل.
ارتبكَ الشّيخُ مسعود وسأل:
من أنت يا هذا؟ هل أنت ماجد؟
- نعم "يابَه" أنا ماجد.
عادَ الشّيخُ مسعود يحتضنُه ودموعُ الفرحِ تتساقطُ من عينيه، ونادى شيماء قائلًا:
تعالي يا شيماء أنت وصفيّة وسلمى وماجد، فضيفُنا منّا، وليس غريبًا عنّا، وجلسَ في مكانِه المعتاد.
عندما دخلوا الدّيوان قفزَ ماجد المسعودُ يُقبّلُ يدَ والدتِه صفيّة، الّتي هجمتْ عليهِ تُقبّلُه باكيةً وهي تقول:
هذه رائحةُ ماجد.
قبّل ماجدٌ يدَ شيماء زوجةَ أبيه، في حين قبّلتْ سلمى يدَهُ وهي تبكي فرَحًا بصمت، بينما قبّلَ ماجدٌ الصّغيرُ يدَ ماجدٍ الكبير.
أشارَ الشّيخُ مسعود إلى ماجد الصّغير وقال:
لقد تركتَ سلمى زوجتَكَ حاملًا يا ماجد، وأنجبتْ هذا الفتى، فأسميتُه "ماجدًا"؛ ليبقى اسمُكَ بيننا بعدَ أن ظننتُ أنّك ميّتٌ.
بُهِتَ ماجدٌ ممّا سمعَ واحتضنَ ابنَه.
تفقّد الشّيخُ مسعود محتويات "الخُرج" فانبهرَ من كمّيّة الذّهب فيه، وسأل:
من أينَ لك هذا يا ماجد؟ وأينَ أمضيتَ كلَّ هذه السّنوات؟
قصّ ماجد على مسامعِهمِ حكايتَه منذُ غادرهم حتّى عودتِه إليهم باختصار، على أملِ أن يقصَّها مرّة أخرى بالتّفصيل، واستأذن منهم؛ لِيَنامَ وليستريحَ في بيتِه، فغادرَ المكانَ هو وزوجته سلمى، وأمضيا يومَهُما يتناجيان.
لاحظَ الشّيخُ مسعود أنّ ماجدًا عادَ إنسانا جديدًا غيرَ الّذي كانه، وأثنى على الشّيخِ سعيفان الّذي رعى ولدَه ماجدًا كلَّ هذه السّنين، وتساءلَ:
كيفَ أستطيعُ ردَّ هذا الجميل للشّيخ سعيفان؟
أمّا ماجدٌ الصّغيرُ فقد تفاجأ بما سمع ورأى؛ فالتزمَ الصّمتَ، فكلُّ ما يعرفُه أنّه ابن ماجد المسعود المُتوفّى!
قرّرَ الشّيخُ مسعود أن يقيمَ احتفالًا كاحتفالات الأعراس لمدّةِ أسبوعٍ كاملٍ بعودة ماجد، أرسلَ ابنَهُ سلطان؛ لِيُخبرَ صِهرَهُم أبا عُقاب وأسرتَهُ بعودةِ ماجد، وللمشاركة في احتفالاتِ عودة ماجد سالِمًا غانِمًا.
عرفَ أبناءُ العشيرةِ كافّةً أنّ ماجدًا عاد إلى الدّيار بكميّةِ ذهبٍ كثيرة، صدَّق بعضُهم هذه المعلومةَ، بينما سخرَ منها البعضُ الآخر، لكنّ ماجدًا يجلسُ في الدّيوانِ بجانبِ والدِه، وهو يرتدي عباءةَ وثيابَ وكوفيّةَ الشّيوخ غاليةَ الثّمن، يتحدّثُ بأمورِ العامّةِ باتّزانٍ ووعي.
ظهرَ أثرُ النّعمةِ الجديدة على الأسرة، عندما اشترى الشّيخُ مسعود آلافَ الدّونمات في منطقةِ أريحا الّتي تروى من نبعَيّ عين الدّيوك وعين السّلطان، وزرعَها بأشجار النّخيل والحمضيّات ومختلف أنواع الخضار، فأقرّ الجميعُ بطاعة ماجد، ولقّبوه بالشّيخ ماجد بعد أن كانوا يقولون له "ماجد المخبول" عندما ينفردون به بعيدًا عن والده.
ذات يومٍ دخلَ سويلم ديوانَ الشّيخ الّذي يتصدّرُه ماجدٌ في غيابِ أبيه، ورأى وسمع قاصدي الدّيوان كيف يطرحون السّلامَ على الجميع، ثمّ يخصّون ماجدًا بتحيّة خاصّة أخرى فيقول كلٌّ منهم:
مسّاكَ الله بالخير يا شيخُ ماجد..كيفك.
فاستغرب سويلم هذا التّغيير في مخاطبة ماجد، فقال موجّهًا حديثَه لماجد:
"مسّى الله أموالك بالخير يا ماجد المخبول"!
استلّ سلطان شقيق ماجد سيفَه يريدُ أن يضربَ عُنُقَ سويلم، لكنّ ماجدًا أمسكَ يدَ شقيقِه ونهره قائلًا:
اتركْهُ يا سلطان، فما قالَ إلّا الصّدقَ.
ردّ سلطان بصوتٍ لا يخلو من التّهديد:
ماجد لم يكن يومًا مخبولًا ولا مهبولًا، بل كان صبيًّا مُدلَلًا، ولا غرابةَ في ذلك فهو شيخٌ من سُلالةِ شيوخ، ورحم اللهُ امرءًا عرف قدرَ نفسِه يا سويلم.
ابتسمَ سويلم وقال:
هَوِّنْ عليك يا سلطان، لقد تراهنتُ أنا وزميتان على اختبار مدى حُلُمِ ماجد، وما قلتُه عن ماجد هو ما راهنتُ عليه، وقد كسبتُ الرّهانَ؛ لأنّ ردّةَ فعلِ الشّيخِ ماجد كانت كما توقّعتُها.
سلطان:" مَزْحُ الرّجال جدّ".
بعدَ أربعةِ أسابيع وصلَ الشّيخُ سعيفان وعشرةٌ من ربعِه مضاربَ الشّيخِ مسعود، وبرفقتهم عبدان يسوقانِ ثلاثمائةٍ رأس من الغنم البياض، هي أجرةُ ماجد مقابلَ عملِه معهم. فاستقبلَه الشّيخُ مسعود استقبالَ الفاتحين، وقبّل ماجد يدَ الشّيخ سعيفان ووجنتيه. بعدَ أن احتسوا قهوةَ" أهلًا وسهلًا" قال الشّيخُ سعيفان:
هذه الأغنامُ للشّيخ ماجد يا شيخُ مسعود، تركتُها عندي لخوفي من الّلصوصِ وقُطّاعِ الطّرق. فما يدريكَ لو انفردوا بماجد فربّما يقتلونه ويستولون على أغنامه.
أبدى الشّيخُ مسعود شكرَه الجزيلَ للشّيخِ سعيفان ولمن معه، وقال:
دمي لا يكفي لِرَدِّ فضلِكم ورِعايتِكم لماجد.
الشّيخ سعيفان: هذا واجبُنا يا شيخ، وأنتُم أصحاب الأولى" وصاحب الأولى ما يلتحق"، فوالدُك -رحمه الله- حمى والدي قبل أن تولدَ من قطّاعِ الطّرق.
بنى الشّيخُ مسعود بيتًا كبيرًا متعدّدَ المداخلِ والطّوابق، قريبًا من قصرِ سليمان بن عبد الملك، تحت إلحاح ماجد وإخوانِه، وخصّصوا فيه ديوانًا فسيحًا، وانفردَ ماجدٌ وزوجتُه سلمى ببيتٍ منفردٍ قريبًا من البيت الكبير. وانتقلوا من تربيةِ المواشي إلى الزّراعة. لكنّ الشّيخَ مسعودًا لم يتخلَّ عن ماشيتِه، فضمّنَها لِلرُّعاة على أن يتقاسم معهم مردودَها من الحليب ومشتقّاتِه والخراف المولودةِ مناصفةً.
انتهى
وسوم: العدد 1085