مؤسس دولة البلطجة

في أحد أيام العيد، وفي جو حار، قرر الرجل الأربعيني وزوجته أن يصطحبا ابنهما إلى شاطئ البحر تلبية لطلب ابنهما الوحيد، لا سيما وأنهم يسكنون في المدينة الساحلية، والذهاب إلى الشاطئ لن يكلف الأب الذي يعيش وعائلته على الكفاف؛ في زمن طحن فيه الغلاء كل الناس. خرج الأب وزوجته وابنه إلى الشاطئ في الإسكندرية، لترمي الأقدار في طريقهم أحد البلطجية، والذي غازل الأم، وهو ما أغضب الزوج المسالم الذي لم يخرج إلى الشاطئ ليتشاجر لكن قد يُدفع المرء إلى ذلك دفعا، فلم يقبل الرجل أن يرى زوجته يتحرش بها، فنهر البلطجي ونشبت مشاجرة طعن فيها البلطجي الزوج طعنات متفرقة في جسده ثم ذبحه، ليلقى الرجل مصرعه أمام زوجته وابنه.

هذه القصة ربما لم تكن الوحيدة خلال السنوات الأخيرة، لكنها الأشهر لأنها وثقت بتسجيل مصور من أحد شهود العيان ومن ثم تلقفتها القنوات التلفزيونية، وإن كان هدفهم في تسليط الضوء عليها هو إلهاء الناس، لا سيما بعد حملة الاعتقالات التي طالت رموزا سياسية وثقافية وعلمية منذ أيام، إلا أن قنوات النظام أدانت سيدها بتسليط الضوء على مثل هذه الجريمة، ذلك لأن رأس النظام الذي جاء على مركب الأمن والأمان الذي وعد به لم يحققه خلال خمس سنوات من استيلائه على السلطة بانقلاب عسكري أطاح بالرئيس الشرعي للبلاد.

لكن الحقيقة التي تغيب عن العامة أن رأس النظام الذي كان على رأس جهاز المخابرات العسكرية إبان ثورة يناير، وتولى شأن تأمين البلد داخليا، وأصبح مسؤولا عن رصد والتعامل مع التظاهرات، وقتها ورث فيما ورث دولة البلطجة التي أنشأها جهاز أمن الدولة أيام مبارك، لكن الرجل - والشهادة لله - طور أداء تلك الدولة (دولة البلطجية) واستفاد منها كثيرا. ولقد شهدنا بأنفسنا دور تلك المليشيا في العديد من المواقف والأحداث خلال الثورة، وأيام المجلس العسكري الذي سحب الشرطة تماما وجعل الجيش في المؤخرة وصدّر مليشيا البلطجية لقمع التظاهرات وتكميم الأفواه إلى الأبد بقتل المتظاهرين بدم بارد.

المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية (وهو مركز حكومي) رصد في تقرير له صادر في أيار/ مايو عام 2015 ارتفاع معدلات الجريمة في مصر بدرجة كبيرة، خاصة جرائم القتل والسرقة بالإكراه وسرقة السيارات وحوادث الاغتصاب والتحرش، فيما تصاعدت حوادث الجنايات بصفة عامة في عدد كبير من المحافظات.

والمفاجأة أن التقرير كشف عن وجود أكثر من 500 ألف بلطجي ومسجل خطر في محافظات مصر، يرتكبون كل يوم شتى أنواع الجرائم بمقابل مادي، حيث تحولت "البلطجة" إلى "مهنة" ولديها قوة وعتاد لبث الخوف في نفوس الآمنين. وأشار التقرير إلى أن هناك ما يقرب من أربعة آلاف قضية موجودة داخل أدراج القضاء، من بعض الأهالي ضد شخصيات معروف عنها الإجرام، كما أن هناك نسبة مماثلة ترفض التقدم ببلاغات خوفا من بطشهم.

لكن السؤال: من يحمي هؤلاء؟ وهل يعملون لصالح أحد؟

والجواب أن هؤلاء استمدوا حصانتهم من الأعمال الجليلة التي قدموها للنظام منذ ثورة يناير وحتى استيلاء الانقلاب على الحكم بعد 3 تموز/ يوليو، وكان لهم دور طليعي في التعامل مع التظاهرات الرافضة للانقلاب العسكري مرورا بمجزرة القرن (رابعة العدوية)، وبعدها في الاحتجاجات عليها وعلى الانقلاب. لقد رأيت بأم عيني مليشيا البلطجية وهي تحمي أحد أقسام الشرطة مقابل عدم التتبع الأمني، علاوة على تقديم الشرطة المخدرات لهم لزوم الترضية. مليشيا البلطجية في مصر تعمل تحت قيادة ضابط المباحث في القسم، وتعد مورد دخل يزيد به ضباط القسم دخولهم، من خلال تيئيس أصحاب الحقوق من استرداد حقوقهم بالقانون؛ لدفعهم لطريق البلطجية لإعادة هذه الحقوق بمقابل مالي يتقاسمه الضباط مع البلطجية.

لقد تحدث رئيس حزب الوسط في عام 2013 عن هذه المليشيا، وقامت الدنيا ولم تقعد حينها. وحدد أعداد البلطجية وقتها بـ300 ألف، واليوم وبعد صدور تقرير المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، فإن الرقم قد زاد، وهي زيادة طبيعية مع زيادة الطلب في ظل دولة غاب عنها القانون طوعا، بعد أن انتحر لعدم قبوله العيش في دولة ظلم يعز فيها المجرم ويذل فيها الشريف المخلص.

على مدى التاريخ مرت عصور ودول سميت بأسماء عظماء قدموا أعمالا جليلة لأوطانهم، وأسسوا لعصور ساد فيها ملكهم، كمعاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية، أو أبو العباس عبد الله مؤسس الدولة العباسية، أو صلاح الدين مؤسس الدولة الأيوبي، أو عثمان بن أرطغرل مؤسس الدولة العثمانية.

أما رأس النظام في مصر فقد كشف عن فكره وقواعد دولته في تسريباته وخطاباته، فقال عن تقديم الخدمات ومنها خدمة الاتصالات "اللي هايتكلم يدفع واللي يسمع يدفع"، وقال عن حلفائه في الخليج: "لازم نتعامل معاهم زي سوريا عام 90 خذ وهات"، وقال أيضا عنهم: "احنا ورانا شعب جعان ومتنيل بنيله وظروفي انيل وانتوا عايشين حياتكم بالطول والعرض وفلوسكم متلتلة ومتكدسة قد كدة"، وقال القولة المشهورة في نفس السياق: "الفلوس عندهم زي الرز".. لحري بالتاريخ أن يكتب عنه أنه... مؤسس دولة البلطجية.

 

وسوم: العدد 787