محمد جمال صقر نديم العروضيين المجلس الأول

تفريغ ندى الشربيني ومراجعة أنوار محمد

سلام عليكم!

وعليكم السلام!

طبتم مساء -يا أبنائي- وطاب مسعاكم إلينا، بسم الله -سبحانه، وتعالى!- وبحمده، وصلاة على رسوله وسلاما، ورضوانا على صحابته وتابعيهم حتى نلقاهم!

كيف حالكم؟ كيف أمسيتم؟

الحمد لله!

لله الحمد والشكر! بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، ويسر لنا ولكم كل عسير، وسهل كل صعب!

أنا محمد جمال صقر أستاذ النحو والصرف والعروض بكلية دار العلوم، من جامعة القاهرة، الأستاذ المشارك بقسم اللغة العربية وآدابها من كليتنا هذه الحبيبة في جامعتنا هذه الغراء، أتشرف بأن أدرس لكم علم العروض.

وكما تعرفت إليكم تتعرفون إلي، أريد أن أسمع من كل واحد اسمه ولقبه ومنطقته؛ حتى أتخيله في مكانه، وأعرف شأنه وأمره كله -إن شاء الله- فأنا لا أحب أن أعيش في مكان هكذا غافلا عما يجري فيه.

نبدأ بتلميذنا مسعود الجديدي.

مسعود بن عبد الله الجديدي، من ولاية بهلاء.

بضم الباء، وفيها نظر.

فيصل المعمري من ولاية لواء.

عمر الرشيدي من ولاية السويق.

المهلب، ومن سميته فقد دللتكم على أنه تتلمذ لي من قبل حقيقة أو حكما، حقيقة أو حكما، أما التلمذة الحقيقية فأن يجلس مثل هذا المجلس، وأما التلمذة الحكمية فأن يواصلني عن طريق وسائل التواصل أو الزيارات أو ما تيسر.

المهلب البوسعيدي من ولاية بهلاء.

مروان الرديني من ولاية الخابورة.

مسعد الجعفري من ولاية جعلان بني بو علي.

عبد الرحمن البوسعيدي من ولاية السويق.

عبد الرحمن هذا يشرفنا بحضوره، وهو أصلا خريج الأدب الإنجليزي، وهو الآن باحث، أي هو أكثر من طالب، وحضوره هنا حضور خاص جدا، نقدره له، ونحييه عليه!

أحمد الناصري من ولاية عبري.

أحمد هذا شيطان من الشياطين!

سالمة الغدانية من ولاية دماء والطائيين.

منى النوتكية...

ما شاء الله!

ذكرى البلوشية من ولاية الخابورة.

انتصار الشاعرة الجميلة!

انتصار الحربية...

ميسون الراشدية من ولاية سمائل.

ميس الريم، ها!

مريم المقبالية من ولاية صُحار.

أنوار الرشيدية من ولاية بركاء.

نورة الشريقية من ولاية بهلاء.

تلميذتي، بارك الله فيك!

كاذية الدغيشية...

لميس الزكوانية...

بدرية الشكيلية من ولاية الرستاق.

ما شاء الله!

مروا السعيدية...

اسمك بالألف؟

نعم.

مشكلة الألف، هذه طبعا مشكلة الكاتب، مشكلة الكاتب معروفة في كل مكان. لا أدري هل من السهل أن نصحح مثل هذه الأشياء، نحاول إن شاء الله!

هذه تلميذتي.

أماني الجابرية من ولاية صحار.

حنين الحجرية من ولاية بدية.

خديجة البوصافية...

تلميذتي.

أصيلة الحجرية من ولاية بدية.

وكذلك أصيلة كأنها تلميذتي!

أنا هنا أدرس للعائلات؛ فرتبوا أموركم على هذا الأمر، أنا أدرس للعائلات، كنت هنا من أكـثـر من عشرين سنة، فدرست للآباء والأمهات، والآن أدرس للبنات، وإن شاء الله أدرس للأحفاد، إن شاء الله!

راية الغافرية من ولاية عبري.

شفاء البدرية...

بارك الله فيكم جميعا، تشرفنا بكم، وإن شاء الله نزيد بكم، ولا ننقص أبدا! المكان طيب، هذا الفصل مريح جدا، واسع، يتحرك الواحد فيه هكذا، ويتنفس، أحسن من الفصول الضيقة.

أتشرف كما قلت لكم بتدريس علم العروض، لن أقول كما كنا نقول دائما: "بتدريس المقرر عليكم من علم العروض"، لأنكم لن تدرسوا علم العروض إلا في هذا المقرر في هذا الفصل!

قليل؟

قليل، لكن ماذا نفعل؟ لا حل.

كنت قديما أقول للطلاب: أتشرف بأن أدرس لكم المقرر عليكم من كذا، أي جزءا طرفا من مقرر ما، أما الآن فلم يعد هذا الكلام يصلح، ينبغي أن أدرس لكم كل شيء!

كيف هذا؟ لا أدري! هذا عمل أشبه بعمل السحرة، يعرفه أهل بهلاء -بفتح الباء أو ضمها، المهم أنهم يعرفونه!- هذا أشبه بما يسمونه في المثل المصري "الفيل في المنديل" -جَلَا جَلَا!- بعمل السحرة، أي أن تخرج الفيل من المنديل! وكيف يخرج الفيل من المنديل؟ وكيف سيكون هذا المنديل؟ هذا يخرج منه مثلا كتكوت، أما أن يخرج فيل فهذا شيء عجيب!

لكن ما لا يدرك كله يدرك بعضه، ولاسيما إذا كان بعضه هذا نائبا عنه، أو إذا كان خلاصتـه، روحه، أهم ما فيه، وهو ما سنجتهد فيه، إن شاء الله! لكن عليكم أن تكملوا وأن تتوسعوا إذا أعجبكم الأمر، وسيعجبكم، إن شاء الله!

هذا ملف المحاضرات، ينبغي أن يكون بين يدي كل واحد منكم، أرسلته إليكم في رسالة، أو ملحقا برسالة شرحت لكم فيها كيف تُصوِّرونه، فهل فعلتم؟ هل فعلتم؟ من فعل؟

ابنتي هذه؟

نعم.

هاتي الملف! هذا الملف؟ لا، إذن أخطأت -لهذا تتوجس أن آخذ الملف!- خطأ هذا، خطأ، خطأ!

سالمة؟

صواب.

إذن هذا الذي فعلته ابنتي خطأ، لأنها وفرت الأوراق -قالت: سأوفر نصف الأوراق وسأطلع على الصفحات كلها بي دي إف!- ستواجه فيما بعد مشكلة، ما هذه المشكلة؟ أن تفتش عن أماكن لتكتب، فلا تجد، لتكتب الإضافات، لتكتب الزيادات، تكتب المعلومات التي تحب أن تكتبها؛ فلا تجد، ستندم عندئذ ولات ساعة مندم! بل قلت لكم: من شاء أن يضيف أوراقا أضاف، فجاءني بعضكم ومعه مجلد ضخم: ما هذا؟ قال: أضفت بعد كل صفحة ثلاث صفحات! معقول! أنا ظننت أنه صور الدنيا كلها، فتبين أنه ملف، وبعد كل صفحة ثلاث صفحات، توقَّعَ توقَّعَ! كان أخوه تلميذي قبله؛ فتوقع! فماذا ستفعلون -إن شاء الله!- ولا حول ولا قوة إلا بالله!

إذن أوصيتكم أن تطبعوا هذا الملف، أرسلته إليكم ليلة الخميس، لتطبعوه الخميس، ليكون اليوم بين أيدينا بحيث لا عذر، بحيث لا عذر؛ لأنه ملف محاضرات، وليس مرجعا، ليس هذا الملف مرجعا! كيف؟ ما هو إلا ملف محاضرات نستهلكه في المحاضرات، نستهلكه كالذي كنتم تستهلكونه في الثانوية، في حصص الرياضيات، نحلّه في أثناء المحاضرات، تمام؟

أما المرجع فكتاب "العروض المُغنّى" مثلا الذي تسلمتموه من هذا المخزن، وليس هذا بمرجع على الحقيقة، لكنه كتاب في الخلف، هذا الكتاب فكرة نفذها هلال الحجري، وهلال كما تعرفون، شاعر، وهذا كتاب شاعر، شاعر جميل، وكان رئيسا لقسمنا -حضرتموه؟- ثم استقال في ثورة من ثورات الشعراء، في غضبة من غضبات الشعراء، غضبة فنية، وانتقل إلى وزارة الثقافة! هذا الكتاب فكرة، هو رجل متخصص، لكن قال: لماذا لا أقدم كتابا في هذا المعنى؟ فأقام كتابه على القصائد المغناة "الأغاني"؛ فقدم شيئا لطيفا، تجربة لا مرجعا. هو تجربة لطيفة نستفيد منها؛ لهذا لم ألغه من المقرر، ولا سيما أنه ليس معنا، ليس من الخلق أن نلغي كتابا لغياب صاحبه، أن نقرره لأن صاحبه رئيس القسم –"عاش الملك، مات الملك"!- لا لا، وأنا أحب هلالا -بارك الله فيه!- أهداني نسخة، حينما نشره -ولم أكن هنا أصلا- أرسلها إلي بإهداء لطيف؛ فله منا كل التقدير.

لكنني من أجل أن أعالج هذه المشكلة رفعتُ لكم على موقعي -(www.mogasaqr.com)- ما يسد الخلل، فمن شاء منكم أن يحقق أو يدقق فليذهب إلى موقعي يحمل من عليه "ميزان الذهب" للهاشمي، و"كن شاعرا" لعمر خلوف. من فعل؟ من فعل هذا منكم؟ لا أحد! سلمى، ثم من؟ مروة، ومن؟ حنين، ومن؟ ما شاء الله! مجتهدات، ما شاء الله، ميس لم تفعل شيئا!

ومن؟ مسعود، مهلب -ما شاء الله بارك الله فيكم!- حملتم من على الموقع؟ ما شاء الله! ما الذي يتعبنا في هذا والجوّالات النقّالات -ما شاء الله!- وصلت إلى مئات الجيجات؛ يعني تستطيعون أن تحملوا مكتبة الجامعة، كلها كلها على النقّال، تقرؤون منها وقتما تشاؤون، نعمة، نعمة! هذا هو الجانب المحمود في الشبكة، فكيف نهمله؟

أنا عندي آلافُ آلافِ الكتب، آلافُ آلافِ الكتب، وعندنا على الواتساب مجموعات لتداول الكتب، نتداولها فيما بيننا، كمجموعة "روابط لغوية مقروءة" مثلا، التي يقوم عليها فهد العبري من نزوى -وهو طبعا في الدراسات العليا، بنزوى يعني، ويريد أن ينضم إلينا في الدكتوراة، ما شاء الله!- لا يكل ولا يمل، وعنده ما لا تجد عند غيره، سألته مرة عن ديوان المعولي  -لم أتخيل أنه رفع على النت- فأرسله إليّ -ما شاء الله!- فهذه نعمة ينبغي أن نستفيد منها.

رفعتُ لكم إذن على موقعي ما يسد الخلل الذي يختل بطبيعة كتاب "العروض المغنى" الخاصة، وبطبيعة ملفنا (ملف المحاضرات)؛ فأنا في العادة أجهز للطلاب ملف محاضرات -مهما كان المقرر- ليطبعوه، نتناول المقرر من خلاله، فهو ملف محاضرات لا يطمح إلى أكثر من أن يكون نفسه.

 ما الذي في هذا الملف؟ أنا سميته اسما من اقتراحكم: "علمني عروض الشعر". اسم قريب، نعم، لكنه يكفيه أنه من تسمية الطلاب، يكفيه فخرا أنه من تسمية الطلاب، يمكننا أن نسمي اسما أوغل منه في الفن، فيه الإيحاء، وفيه كذا، ولكن يكفي هذا شرفا أنه من تسمية الطلاب!

طبعا هذا الذي يريده الطالب:

علمني عروض الشعر!

أعلمك، إن شاء الله!

وهذا الذي هنا توقيعي:

كنت أكتب اسمي فخطر لي أن أضع التوقيع حتى تميزوه حينما تجدونه على ملفاتكم (ملفات الأعمال، من الواجبات، والأبحاث، وكذا).

قال لي أحد أساتذة كلية الطب: "أتوقيع هذا أم رسم قلب"! فأعجبني كلامه جدا، أعجبني جدا، "أتوقيع هذا أم رسم قلب"! وهل يرجو الواحد لتوقيعه أحسن من أن يكون هو رسم قلبه! يا سلامًا! أن يكون توقيعي رسم قلبي أي أن أوقع لك بقلبي، بدم قلبي كلما وقعت لك، هل في الإمكان أحسن من هذا؟ لا.

 هذا هو الملف، وقد شكلته لكم بالأحمر بعد أن تعلمته طبعا، لم أكن أعرف سر هذا فيما سبق طبعا! أول ما رأيت التشكيل بالأحمر رأيته في بكين من الصين، فقلت: هذا من عجائب الصينيين، حولوا لي الملف، كنت أحاضر في جامعة بكين، فحولوا لي الملف إلى الشكل بالأحمر، ما شاء الله، عفاريت! كنت أحاضر في  مكان به مكتب ينفتح فتخرج من بطنه العجائب! قلت: هذا من تحضير العفاريت! ومكبرات الصوت في الجدران، تقف بجوار الـجدار تتكلم هكذا؛ فينتشر صوتك في المكان، وأمام كل طالب جهازه، وملف المحاضرة وصلهم قبلها -أنا الآن أقلدهم- ليكون أمامهم في المحاضرات! أعجبني هذا جدا، وتعلمت من التجربة؛ اطلبوا العلم ولو في الصين، وقد فعلنا، وليست هذه العبارة بحديث، ولكنها قول مشهور، يُستعمل في مثل هذه المواقف.

بطاقة التخريج العروضي

يا جماعة، لا نطمح في هذا المقرر إلى أكثر من أن نستطيع كلما سُئلنا تخريجَ شيء من الشعر تخريجا عروضيا، أن نقدم ما أثبتُّه لكم في أول الملف، على طريقة قول الشاعر:

رَأَى الْأَمْرَ يُفْضِي إِلَى آخِرٍ فَصَيَّرَ آخِرَهُ أَوَّلَا

أو كما نقول في اللهجة: هات من الآخر! جئت لكم بالأمر من آخره. نريد في آخر المطاف أن نستطيع أن نفعل هذا في كل شعر يقدم إلينا. يقول لك صاحبك من كلية كذا أو كلية كذا أو كذا: خرِّج لي هذا الشعر في علم العروض، فتكتُب له فيه مثل ما أثبتُّ لك، بل أدعي أن طريقتنا في التدريس -إن شاء الله!- ستوصلك إلى تخريجه شفويا من دون حاجة إلى كتابة، وهذا هو الأصل؛ فلغتنا -واللغة على وجه العموم- صوتية لا كتابية، وما الكتابة إلا تسجيل.

أنتم الآن مثلا مع الأسف تسجلون على النقال بالحروف اللاتينية أحيانا، فما هذا؟ ما هذا؟ هذا خطأ قطعا، لكنه يدلكم على أننا في الكتابة إنما نسجل فقط. وأحيانا تسجلون، هل تكتبون الآن على الحاسوب بالخط؟ لا، بل بالنقر، بعد أن كنتم تخطون صرتم تنقرون، وأحيانا تفعلون غير هذا، كل هذه وسائل تسجيل، أما اللغة فالمنطوقة، اللغة هي المنطوقة، كل ما تجدونه مما سوى المنطوقات فليس بلغة، بل وسائل تسجيل فإذا أردتم أن تتمكنوا من اللغة وعلومها وفنونها؛ فتمكنوا منها صوتيا ونطقيا، أن تستمعوا وتتحدثوا قبل أن تتمكنوا منها كتابيا، فما الكتابة غير تسجيل، والتسجيل متاح بكل وسيلة. ولا ريب في أننا نريده أن يكون بحروف العربية حتى نحافظ على تاريخنا، على استمرارنا.

هل سمعتم عن الدعوة إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية! أطرف ما فيها أن الذي دعا إليها في أول الأمر كان عضوا بمجلس الشورى -ونعم المشير!- كان يدعو إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية، وكان مصريا اسمه عبد العزيز فهمي باشا، وكان عضوا بمجلس الشورى -أية شورى هذه، وأية إشارة!- فهاجمه الناس! وكتابه في هذه الدعوة "كتابة العربية بالحروف اللاتينية"، عندي، وقد قرأته، ومن طرائفه أنه كان يمليه على خريج لغة عربية، خريج دار العلوم، ذكره في الهامش، وشكره! فاعجبوا لكتاب في الدعوة إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية، يؤلفه قاض مستشار، ويمليه على خريج إحدى أكبر كليات اللغة العربية!

نحن لا نطمح في آخر المطاف إلى أكثر من أن نستطيع أن نخرِّج كل شعرٍ مثل هذا التخريج:

فماذا ترون؟

أليس بطاقة كالبطاقة الشخصية؟

ما الذي في البطاقة الشخصية؟

أليس صورة وبيانات؟             

 قبل نشأة الصور كانوا يصفون الشخص، لقد زرت أرشيف معلومات مصر بالقلعة، سمعتم عن صلاح الدين، عن قلعة صلاح الدين؟ عندنا في مصر مكان اسمه القلعة، هذا قريب من بيتي، مكان قديم، كان قلعة لصلاح الدين، هازم الصليبيين الفاتح البطل المنتصر، نقلوا إلى هذا المكان الملفات القديمة كلها، فزرت هذا المكان مرة؛ فوجدت صورة للبطاقة القديمة فوجدتها خالية من الصور؛ لكن فيها أوصاف، فيها يصفون الفم والعين والشعر والأذن، يصفون هذا بالكلام، فلما نشأت الصور؛ استغنوا عن هذا، وصوروا، وألصقوا الصورة، وبجوارها بيانات أخرى ليست موجودة في الصورة كاسم صاحبها وبلده وكذا وكذا.

أريد أن أقدم للشعر بطاقة كالبطاقة الشخصية، هذا الجزء فيها هو الصورة:

وهذا هو البيانات:

في بطاقة عروضية للقصيدة، شخصية صريحة.

واعلموا أن هذه البطاقة تحتاج إلى أكثر من بيت، لأن البيت الواحد لا يكفي، لأنه ربما كان مخادعا، مخادعا يخدعك عن نفسه؛ إذ يحدث أحيانا أن يستعمل الشاعر بعض التغييرات التي تلبس عليك، فتنخدع، فإذا حكمت على القصيدة بهذا البيت وحده أخطأت! فما الحل؟ الحل ألا تكتفي ببيت، أن تضيف، أن تمر في القصيدة حتى تطمئن، ومن باب طمأنة الآخر تضيف إلى البيت بيتا آخر، فكأنك تقول له: قد مررت في القصيدة واطمأننت إلى أنها جرت على هذا المجرى، وهذا بيت منها آخر، قد أضفته للأول.

معي؟

هذا هو.

فإذن لا تكتمل البطاقة ببيت واحد؛ لهذا سأوصيكم في تكاليف الأبحاث التي ستقيمونها على الدواوين الكاملة، ألا تقتصروا من القصيدة على بيت واحد، لا يجوز، وإلا كان خادعا؛ فربما كان البيت من بحر الكامل مثلا، ملتبسا بالبيت من بحر الرجز التباسا تاما، فماذا نفعل؟ وربما كان البيت من بحر الوافر ملتبسا بالبيت من بحر الهزج، فماذا نفعل؟ نحتاج إذن إلى أكثر من بيت، ونكتفي ببيتين، وإذا أضفت إليهما فهذا أحسن، إلا أن يكون الديوان كبيرا؛ ففي مرة قدمت لي إخلاصُ مثلا -تعرفون إخلاص؟- مجلدا، دخلت علي بمجلد:

ما هذا؟ رسالة ماجستير؟

بحثها في علم العروض، دخلت تحمله تحتاج إلى أخت أخرى تحمله معها! حصلت في هذا المقرر على تقدير "ألف" طبعا، لا بالبحث فقط؛ ولكنه دل على مبلغ اجتهادها.

في هذه البطاقة صورة وبيانات، الصورة تعبير عن الشعر بطريقة عجيبة ينبغي أن تفصل:

1)  فيها تقطيع للبيتين على أجزاء.

2)  ثم إضافة رموز من الدال والنون.

3)  ثم إضافة رموز من الفاء والعين والواو واللام والنون والميم والياء.

4)  ثم إضافة أوصاف عجيبة!

ما هذا يا أستاذ؟ هذا هو تخريج وزن الشعر. وأنا أستعمل في تخريج الوزن آلة حادة، آلة حادة هي هذه العصا:

اخترت لكم في هذه البطاقة بيتين من شعر شاعر مغمور، هو سويد بن كُراعَ العكلي، وكُراعُ أمُّه؛ لهذا منعت الكلمة من الصرف، لو كانت اسم أبيه لصرفت وقيل: سويد بن كراعٍ العكلي، لكن لما كانت اسم أمه منعت من الصرف للعلمية والتأنيث.

سويد بن كراع العكلي هذا شاعر مغمور، تعرفون جريرا والفرزدق ولا تعرفونه، ولكنه في هذا الموقف أشعر من جرير ومن الفرزدق، هو في هذا الموقف يتكلم عن الشعر كيف يحس به، وكيف يعالجه حتى يقوله؟ قدم في هذه الأبيات شيئا لم يقدمه لا جرير ولا الفرزدق ولا المتنبي ولا أبو تمام ولا البحتري ولا كذا ولا كذا...؛ فاستحق أن يقدر، ولم يضِرْه أنه مغمور؛ فرب مغمور أفضل من مشهور، والنقاد النقاد هم المشتغلون بالمغامير لا المشاهير، ومغامير جمع مغمور كمشاهير جمع مشهور، هم المشتغلون بالمغامير، يشتغلون بهم ليشهروهم وينصفوهم، لا بالمشاهير ليشتهروا بهم. في الكلام عن المشاهير شبهة، أما الكلام عن المغامير فلا شبهة فيه، في الكلام عن المشاهير شبهة الطموح إلى أن أشتهر كشهرتهم، حينما أكتب عن المتنبي أريد أن أكون لصيقه وقرينه، كلما دخل شخص، فكشف في الشبكة عن المتنبي خرجت أنا ببحثي فيه، لكن من هذا الذي يدخل ليبحث عن سويد بن كراع؟ من؟ لا أحد!

لا، سأعلم الناس كيف يبحثون عنه، سأدلهم عليه، والدال على الخير كفاعله؛ انظروا ماذا قال:

"أبيت بأبواب القوافي

الله على الكلام الجميل!

               كأنما أصادي بها سربا من الوحش نزعا

أكالئها حتى أعرس بعد ما يكون سحيرا أو بعيد فأهجعا

ما هذا الكلام؟

انظروا كيف جعل الشعر كأنه في مكان له مدخل، كأنه مكان فسيح بين جبال مثلا، له مدخل، فهو يبيت عند المدخل هكذا، يراقب من بعيد، وجعل القوافي هي الأبواب، وهو يريد الشعر كله، هذا مجاز عن الشعر، مجاز مرسل علاقته الجزئية؛ "أبيت بأبواب القوافي"، أي بأبواب الشعر، لكن لماذا ذكر القوافي؟ لأهميتها، وهي شبيهة بالمدخل حقًّا، كأنها مدخل، تدخل به من الآخر كما تدخل من الأول، فللبيت مدخلان: أوله وآخره، حتى إن بعض النقاد -هو جمال الدين بن الشيخ في كتابه "الشعرية العربية"- جعل القوافي للأوائل والأواخر، أي نبهك على أن تعتني بالأوائل كما تعتني بالأواخر، والعرب قد انتبهوا إلى هذا، فسموا الأوائل المطالع والأواخر المقاطع، هذا مطلع وهذا مقطع، ودلُّوك؛ فهذا ابن رشيق في "العمدة"، ينبهك على العناية بالمطالع والمقاطع، لأن المطالع أول ما يقع على السمع، والمقاطع آخر ما يبقى في السمع؛ فانتبه!

"أبيت بأبواب القوافي كأنما أصادي"، أخادع وأقاتل، بها "سربا"، جماعة، "من الوحش"، من الحيوان غير المستأنس، "نزعا"، غريبة. انظروا! كيف شبه الشعر؟ شبهه بجماعة من الوحش أي الحيوانات غير المستأنسة، نُقلت من مكانها إلى مكان آخر، فهي أشد فزعا. تخيلوا مثلا أننا أحضرنا إلى عُمان دُبًّا أبيض، كيف كان سيكون فيها! هذا أشبه بـكينج كونج في الفيلم الأمريكي، أرأيتم كيف حمَله ذلك المجرم من الغابة، آه! شيء مؤلم! حمله من الغابة ليجذب به الناس! وفيلم آخر عن شخص حمل قِردًا من الغابة إلى بيته، ورباه، وأحسن إليه، وفي النهاية تركه القرد إلى الغابة! رباه حتى صار القرد يتكلم، ثم رجع القرد، بل ثار وثوَّر القرود التي كانت تحت التحليلات والتجارب، ورجع بها جميعا إلى الغابة، فذهب إليه صاحبه، ولقيه وقد صار زعيم القرود، فقال له: هيا فلنعد إلى البيت! فقال له: أنا في البيت! الله على الكلام الجميل! قال له: أنا في البيت، هذا بيتي لا ذاك، أنا الآن في البيت! هذه كانت نهاية الفيلم، أنا الآن في البيت، جميل!

"أكالئها"، أي أتابعها بعيني ماذا فعلت؟ ذهبت يمينا يسارا، تقدمت، تأخرت، "حتى أعرس"، ما التعريس؟ نزول المسافر من آخر الليل عن دابته حتى يرتاح، بعد سفر الليل الطويل، وهكذا كان الشعراء يفعلون، يسهرون للشعر الليل، حتى قال بعضهم:

"فَإِنَّمَا اللَّيْلُ نَهَارُ الْأَدِيبْ"؛

فعلقت عليه أنا: في المصالح لا المفاسد يا شيطان!

"أكالئها حتى أعرس بعدما يكون -أي الزمن- سحيرا"، سُحَيْر تصغير سَحَر، والسحر وقت ما قبل الفجر، فالتصغير كأنه تقريب إلى الفجر، يقول: أظل طوال الليل أطلب الشعر -ما شاء الله، يتهجّد!- بل ربما بقيت إلى الفجر، وإلى ما بعد الفجر، فإذا ما حصلتُ على بغيتي أهجع (أنام)، لا أهدأ حتى أحصل على بغيتي! وقد رووا مثل هذا عن كبار الشعراء، رووا عن جرير: أنه لما استغضبه الراعي النميري سهر الليل يحور ويدور ويزأر وينحر وكذا...، حتى فُرِق له عن قوله:

"فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابَا"،

فعندئذ أطفأ سراجه ونام، عرف أنه وصل، وقد صدق، فقد كان هذا البيت هو الطامة الكبرى، كان كلما ذكر انكسر النميري -مهما كان- كلما قيل للنميريين انكسروا، حتى إن شابا من نمير تعقب في الدروب فتاة يغازلها، فوقفت -وكانت أديبة، لا كفتيات هذه الأيام المشغولات بالزينة والملاهي وكذا وكذا!- وقالت له: لا أطعت ربّك -عز، وجل!- ولا أطعت الشاعر، أما ربك فقال: "قُل للمؤمنين يَغضّوا من أبصارهم..."، وأما الشاعر فقال: "فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ"؛ فانكسر الشاب! مسكين، قصف مباشر، بثّ مباشر من الجبهة.

"بعدما يكون سحيرا أو بعيد"، عندئذ فقط، عندئذ فقط أهجع وأرتاح، لا يرتاح لي بال حتى أصل.

مثل هذا الشعر يقدر عليه أحد؟ قدر عليه هذا الشاعر المغمور، ولم يقدر عليه لا جرير ولا الفرزدق ولا الأخطل، لات الشعر وعزاه ومناته عند ابن الأثير، لم يقدر عليه آلهة الشعر، وقدر عليه هذا العبد المسكين الصالح.

تلاحظون أنني فهمت المعنى، فضبطت الكلام وجَوَّدت ضبطه، ليجوز لي الآن أن أتكلم في غنائه؛ فنحن محتاجون -يا جماعة- إلى أن نفهم المعنى، قبل أن نضبط الكلام، ونحقق ضبطه تحقيقا تاما لا خطأ فيه، لنستطيع بعدئذ أن ننظر في تخريجه تخريجا عروضيا؛ ولأمر ما أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط: "ينبغي لطالب علم العروض أن يكون شدا شيئا من علم العربية"، لا أن يقتحم علم العروض من قبل أن يتعلم من علوم العربية شيئا، لأنه في علم العروض سيعتمد على ما حصَّل من علوم العربية وآدابها وعلوم الإسلام وآدابها، أما من اقتحم علم العروض فقد أهلك نفسه، ألقى نفسه في التهلكة، كما فعلت خمس الطالبات اللواتي سجلن عندي قبل عامين مثلا، وحصلن في المنتصف على صفر صفر صفر، ثم جئن لي إلى المكتب وقلن لي: أخطأنا يا أستاذ، لم يكن ينبغي أن نسجل المقرر نحن في الفصل الأول:

"أَلْقَاهُ فِي الْيَمِّ مَكْتُوفًا وَقَالَ لَهُ إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ تَبْتَلَّ بِالْمَاءِ"!

خدَعهنَّ من أغراهنَّ، لا، هذا علم الفصل الآخر أو ما قبل الآخر، لا الأول، لا تقتحم، لا تلق نفسك إلى التهلكة!

هذا علم العلوم؛ لهذا سميته لكم في رسالتي إليكم "مقرر المقررات"، هذا علم العلوم، تحتاج إلى أن تستفيد له من العلوم، فإن لم يكن لديك شيء فماذا تفعل؟ تنهل من العدم، تحتاج إلى علوم تُخرِّج لها أولا الكلامَ في علم اللغة، لتعتمد عليه في تخريجه في علم العروض؛ فإن لم يكن لديك شيء، فماذا تفعل؟

انظروا إليَّ الآن بعد أن فهمت هذا الكلام، كيف أغنيه هذا الغناء:

أبيت

بأبواب اللـ

قوافي

كأنما

أصادي

بها سربا

من اللوحـ

شنزعا

أكالـ

ئها حتى

أعرِّ

س بعدما

يكون

سحيرا أو

بعيد

فأهجعا

رأيتم؟ ضبطت، وجوَّدت الضبط، وكنت قد تعلمت اللحن كما سأعلمكم، فذهبت أخرجه، أخرج الوزن، وكذلك أخرج القافية، فأقول: قافية البيت الأول "نُزَّعَا"، وقافية البيت الثاني "أَهْجَعَا"، وقلب القافية العين المفتوحة...

كيف عرفت هذا يا أستاذ؟ تعلمت من الخليل أن القافية هي آخر ساكنين في البيت مع ما بينهما من متحركات ومع المتحرك الذي قبلهما، وهو ما تقدمه كلمتا "نزعا"، "أهجعا"، أو كما يقول القدماء -انظروا كيف يعبرون!- "مِنْ آخِرِ سَاكِنٍ فِي الْبَيْتِ إِلَى أَوَّلِ مُتَحَرِّكٍ قَبْلَ سَاكِنٍ يَلِيهِ"، هل فهمتم شيئا؟

لا!

"من آخر ساكن في البيت إلى أول متحرك قبل ساكن يليه"، هكذا يعبرون بكلامهم الجزل المحكم القديم، أما بكلامنا الركيك المعاصر فنقول: "آخر ساكنين في البيت مع ما بينهما من متحركات ومع المتحرك الذي قبلهما"، كلام صحفيين، كلام بشع، لكن ماذا نفعل؟ هكذا صرنا بعدما قست قلوبنا!

بعد أن خرَّجنا الوزن بما فعلت لكم، خرجنا القافية: قافية الأول: نزعا، وقافية الثاني: أهجعا، وقلب القافية: العين المفتوحة، قلب القافية أي أقوى أصواتها المكررة (عين "نزعا" و"أهجعا")، كما سأعلمكم، سنتعلم هذا كله على التفصيل، وإنما أنبهكم الآن على ما ينبغي أن نصل إليه في النهاية.

كيف نكتب هذا على الصفحة؟

كما كتبته لكم، نقدمه في بطاقة كهذه البطاقة، من شاء صورها وأرسلها إلى صاحبه، وهكذا فعلت، صورتها، وألصقتها على الحائط، خرجت الوزن والقافية، ثم أضفت عبارة بيانات كما في البطاقة الشخصية التي تشتمل على صورة شخصية وبيانات، هذا الجزء (من "أَبِيتُ"، إلى "أَهْجَعَا")، بمنزلة صورة البطاقة الشخصية، وهذه العبارة (من "طويلية الأبيات"، إلى "الموصولة بالألف")، بمنزلة بياناتها.

إذا استطعت أن تضيف اسم صاحب الشعر فبها ونعمت -فهو من معالم العلم- وإلا فلا؛ فنحن في تخريج عروضي، لا في تاريخٍ أدبيّ، ولا في ديوان شعريّ!

ماذا فعلت؟

قطعت البيت تقطيعا يفصل بين كل قطعة وأخرى بفراغ واضح من الخطوط أو من البياض:

أبيت (فراغ) بأبواب الـ (فراغ) قوافي (فراغ)

 هذا الذي يوازي السكوت في الأداء، تأملوا:

أبيت     بأبواب الـ    قوافي     كأنما     أصادي

...، وهكذا.

فأنا أعبر أولا عن هذا الصمت بفاصل من البياض أو من الخط الذي يهبط من أعلى إلى أسفل، مما فوق أعلى المكتوب إلى ما تحت أسفله.

وثانيا أكتب صوت العزف -تعزف بعصا، بقلم، بقدم، بإصبع، بما شئت من آلات، وتكتب هذا الصوت- كان الخليل بن أحمد -رضي الله عنه!- مؤسس هذا العلم الذي سأكلمكم عنه كثيرا في فرص كثيرة، يذهب إلى سوق الصفّارين أي النحاسين (صُنّاع النحاس، وتُجّاره)، فيأخذ من أوعيتهم، ويضرب عليها كما أضرب الآن [(ددن د)، (ددن دن دن)]، كان يضرب، لكنه لم يكن يكتب بالدندنة صوت الضرب، بل بالتفعيل: فعول مفاعيلن، ولن نستغني عما فعل، لكن سنضيف إليه كتابة صوت العصا كتابة مجردة من الدال والنون -من الدال للمتحرك والنون للساكن- تأملوا:

تكتب للمتحرك دالا وللساكن نونا! لماذا يا أستاذ فعلت هذا؟ كنا في الثانوية نكتب الخطوط والباءات، كانت تلك الكتابة كتابة مقطعية، كنتم تكتبونها ترسمون المقاطع اللغوية المستعملة في علم الأصوات هكذا، ومن الناس من كان يستعمل الخطوط المائلة والدوائر، الخط المائل للمتحرك والدائرة للساكن، وهو عكس الطريقة القديمة، وأحسن من هذا كله استعمال الدال للمتحرك والنون للساكن، لأنه مأخوذ في العربية من "دَنَّ"، أي نغم بكلام غير مفهوم، ومنه "دَنْدَنَ"، ومازلتم تستعملونه في كلامكم -تقولون: جالس يدندن، جلس يدندن- دخل رجل على رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- فسأله عن الجنة، فقال: حولها ندندن، أي: كنا في سيرتها قبل أن تدخل، نتكلم كمن ينغم تنغيمة المتردد، لا نمل منها، لا نمل من حديث الجنة؛ إذا ما ذكرت الجنة بكوا شوقا إليها، وإذا ما ذكرت النار بكوا خوفا منها، فهم في بكاء مستمر، خوفا وشوقا، خوفا وطمعا، هكذا!

في الخطوة الثالثة نكتب تفعيلات سيدنا الخليل الذي علمنا، لأنه صاحب العلم ومؤسسه، وهذه مصطلحاته، فهذا الجزء "أبيت"، اسمه عند الخليل "فعول"، هكذا سماه، كما في النحو تقولون: جاء محمد، محمد فاعل- "أبيت" هنا اسمها "فعول"، وهذا مصطلح عليها، مصطلح، وينبغي أن نحافظ على المصطلحات. من الناس من يسخر الآن من المحافظين على المصطلحات: جددوا المصطلحات! يا أخي هذه منفعتها ظاهرة، "فعول" هذه منفعتها أنها تخيِّل لك الوزن صوتا وصورة، إذا قلت: "فعول"، أديت الصوت، وإذا رسمتها صوّرت الصورة، سبحان الله! هذا إعجاز أن يعتمد على رموز تخيل للناس الصوت أو التفعيلة صوتا وصورة، منطوقة ومكتوبة.

نرى التفعيلة -وهي عند الخليل جُزء ورُكن وإِفعيل، وعنده التفعيل، ومنه أخذنا التفعيلة- تتحول أحوالها، فـ"فعولن" تصير "فعولُ"، و"مفاعيلن" تصير "مفاعلن"، و"مفاعيلُ"، إلى آخره؛  فكيف نضبط هذا؟  نضبطه بالخطوة الأخيرة التي نصف فيها التفعيلات، فنقول:

 هذه سالمة كما هي،

وهذه مغيرة.

لكن التغيير أنواع، فنحتاج إلى تحديد التغيير؛ لهذا نقول في "فعولُ": مقبوضة.

ما معنى مقبوضة؟

مغيرة بتغيير اسمه القبض.

 سالمة؟ ما معنى سالمة؟

لم تتغير، وهكذا.

تخريج الوزن في علم العروض إذن -يا جماعة- خطوات أربعة؛ نخرج الوزن:

1)  بالتقطيع

2)  ثم التوقيع

3)  ثم التفعيل

4)  ثم التوصيف

 وسترون أن الأمر كله هنا أمر أصوات، لا ننخدع بالكتابة، لتكن الكتابة ما تكون، لتكتب باللاتينية -وهذه خيانة قبيحة!- أو لتكتب بالرموز الصينية، لتكتب بما تكتب -لا يعنيني!- المهم أن تقرأ ما كتبت على أذني حتى أخرِّجه لك في علم العروض، بل إنك أنت إذا أردت أن تخرّج قرأت على أذنك.

بعد كتابة صوت العصا تأتي خطوة التفعيل، وفيها نكتب رموز سيدنا الخليل التي وضعها لتسمية هذه الأجزاء. وبعد خطوة التفعيل، نكتب في خطوة التوصيف الأوصاف التي وَصَفَ بها التفعيلات، لأن التفعيلات تتغير، "فعولن" تكون "فعول"، وأحيانا تكون "فعو"، إلى آخره؛ فكيف نضبط هذا؟ نضبطه بالتوصيف؛ فنؤكد للسائل أننا نعرف أنها مغيرة، نقول: هذه سالمة من التغيير، هذه مغيرة بتغيير كذا، ونذكرها مباشرة.

وهنا لطيفة، شيء لطيف، ما هو؟ أنه إذا تغيرت التفعيلة امتنع أن تسميها سالمة، ووجب أن تسميها مغيرة -إن لم تعرف التغيير- أو أن تسميها بالتغيير نفسه إذا عرفت التغيير، أما أن تسميها بغير اسمها فهذا خطأ. ماذا تقصد يا أستاذ؟ أقصد أنه إذا تغيرت التفعيلة ولم تعرف اسم التغيير فالأحسن أن تقول: مغيرة، بدلا من أن تقترح اسما للتغيير ليس هو، ليس صحيحا، تقول في المقبوضة مثلا إذا لم تذكر "القبض": مغيرة، فهذا أحسن كثيرا، وأحسن منه أن تعرف اسم التغيير، أن تعرف فتقول: هذه مقبوضة، أحسن من ألا تعرف فتقول: مغيرة.

ما المقبوضة؟

المغيرة بتغيير القبض.

ما القبض؟

تغيير سنعرفه فيما بعد، وهكذا.

قد خرّجنا الوزن في علم العروض، فماذا عن القافية، كيف نخرِّجها؟

في الصورة من البطاقة العروضية المذكورة فيما سبق، نُثقِّل جزءها من آخر البيت (آخر ساكنين مع ما بينهما من متحركات ومع المتحرك الذي قبلهما)، نُثقّله في الكتابة، أو نخط تحته، وبعضكم يدير عليه دائرة، لنتفرغ لبقية البيانات.

من خلال هذين البيتين المصوَّرين آنفا، نعرف أن القصيدة: طويلية الأبيات -أي من بحر الطويل- الوافية -أي التي أبياتها استوفت أعداد التفعيلات- المقبوضة العروض والضرب.

 ما العروض؟

آخر تفعيلة في النصف الأول من البيت.

 ما الضرب؟

آخر تفعيلة في النصف الثاني من البيت.

 لماذا نركز على هاتين التفعيلتين؟

لأنهما أظهر أطراف البيت.

نقول في الوزن: أبيات هذه القصيدة من بحر الطويل، وافية قد استوفت الأعداد، مقبوضة العروض والضرب، أي: مقبوضة أظهر التفعيلات-  وفي القافية: قافية هذه القصيدة عينية، ننسبها مباشرة إلى أقوى أصواتها المكررة.

كيف نعرف القوة؟

سأعلمكم، لكن يكفي الآن أن تعرفوا أن أقوى الأصوات إسماعا أقوى الأصوات المتمكنة رسوخا في السماع.

عينية القوافي المفتوحة -نسبة إلى فتح العين، نجعل القوافي مفتوحة، لأن أقوى أصواتها مفتوح- المجردة.

وصفت القوافي بأنها مجردة، فما التجريد؟

التجريد خلو ما قبل هذا الصوت القوي من الألف والواو والياء الساكنات.

الموصولة بالألف.

ما الموصولة بالألف هذه؟

التي بعد صوتها القوي ألف مد، وأحيانا تكون واو مد، أو ياء مد، أو هاء، وهكذا.

 عندنا إذن بطاقة عروضية شخصية، ستخرجون لي بها القصائد في الواجبات وفي الاختبارات وفي الأبحاث، وهي التي ينبغي أن نتقنها في آخر المطاف، جئتكم بها في أول المطاف، حتى تتقدموا إليها على بينة.

 

مبدؤنا العروضي

يا جماعة، لكل قوم مبدأ يتمسكون به وينطلقون منه ويترسخ في قلوبهم ترسخ العقائد، ولنا في علم العروض مبدأ كذلك نحب أن يترسخ في قلوبكم ترسخ العقيدة، وتحفظوه مثلما تحفظون أسماءكم!

ما هذا المبدأ؟

هو الذي عبرت عنه بهذه العبارات الأربع:

إِذَا كَانَتِ الثَّقَافَةُ أَسَاسَ الْحَضَارَةِ الرَّاسِخَ،

وَاللُّغَةُ قَلْبَ الثَّقَافَةِ النَّابِضَ،

فَالشِّعْرُ عَصَبُ اللُّغَةِ النَّافِرُ،

وَالْعَرُوضُ دَمُ الشِّعْرِ الدَّافِقُ!

أنا أشبه الحضارة دائما بالشجرة، تزرع كل أمة شجرة حضارتها، فلنا شجرة هي شجرة الحضارة العربية الإسلامية، وللصينيين شجرة هي شجرة الحضارة الكونفشيوسية، وللإنجليز شجرة، ولكذا شجرة. لكل أمة شجرة حضارتها، جذرها المعنويات وهي الثقافة، وفرعها الماديات وهي الأشياء المرئية المدركة بالحواس المادية. جذرها ثقافتها المدركة بالعقل، وهي غير مدركة بالحواس المادية غالبا، وفرعها الأشياء المنتجات المدركة بالحواس المادية، شجرة تخلفها كل أمة،  ومقتضى العقل أن أهم ما في الشجرة جذرها لا فرعها، لماذا؟ لأنه قد تبين لنا بالتجربة أن الفرع يُجتث فيخرج من الجذر فرع آخر، لكن إن انتُسف الجذر ذوى الفرع، وسقط إلى غير رجعة؛ فأهم ما في الشجرة جذرها لا فرعها.

في أيام الحملات الصليبية القديمة كانوا يهجمون علينا فيجتثون فروعنا، فننشأ مرة أخرى، فأما في هذه الحملات الصليبية الحديثة فقد صاروا ينزلون إلى الجذور؛ ليجتثونها من تحت، صرت تسمع الآن وترى على تويتر وعلى اليوتيوب وعلى الفيس بوك وعلى كذا، من يقول لك: هذا القرآن مكذوب ليس بصحيح، محمد لم يكن له وجود أصلا، يدعي بعضهم أنه من اختراع الأمويين، وكذا، وكذا! نزلوا إلى أسفل من الفروع، إذا ما اجتثوا الجذور سقطت الفروع، ولم يحتاجوا إلى هدم البيوت ولا إلى قتل الناس، زال الوجود من غير عناء معنٍّ، فانتبهوا!

الثقافة أساس الحضارة الراسخ، واللغة قلب الثقافة النابض؛ سمعت الدكتور نبيل علي، مهندس المعلومات الكبير الفذ، في برنامج "الشريعة والحياة"، وقد سأله أحمد منصور عن الثقافة، يقول: دعنا نفككها حتى نعرف مكوناتها، فلما فككها أثبت له أن قلب مكوناتها اللغة، فوصل إلى أن اللغة هي قلب، قلب مركب الثقافة، فهذا التعبير عن علم. اللغة قلب الثقافة النابض، القلب نابض بالحيوية، إذا كان هذا هكذا فالشعر عصب اللغة النافر، ينفر دائما، ويذهب إلى بعيد، ويضطرب في المواقف، وتظهر عليه آثار الأحداث. والعروض دم الشعر الدافق في مجرى هذا العصب!

هل عرفتم قيمة العروض الذي تدرسونه عليَّ هذا الفصل؟

من سألكم عنه إذن فأجيبوا سؤاله بهذا المبدأ؛ حتى يعرف قيمة ما تدرسون، ولا يستخف به!

لم يكن من فراغ إذن وصفه بأنه علم العلوم ومعرفة المعارف وكذا وكذا؛ فالعروض دم الشعر الدافق، الشعر الذي هو عصب اللغة النافر، اللغة التي هي قلب الثقافة النابض، الثقافة التي هي أساس الحضارة الراسخ، الحضارة التي هي منجز الأمم على وجه العموم وشجرتها في بستان البشرية، كلما جاءت أمة زرعت شجرتها، ثم زالت هي، وبقيت شجرتها تدل عليها؛ فمن فرط في العروض؛ فقد فرط في الشعر، ثم في اللغة، ثم في الثقافة، ثم في الحضارة!

كنت أدرس في بعض الجامعات العربية علم العروض، ولم أجد ما وجدته عندكم من قابلية -فالعمانيون متميزون في هذا المجال بقابلية خاصة ستتأكد لكم فيما بعد، وهذا معروف، بارك الله فيكم!- فلما أنكرتُ الحال قالت لي إحدى الطالبات: نحن لا نحب الشعر، هكذا مباشرة! جاهلة مسكينة! إذا لم تحبوا الشعر لم تحبوا اللغة، ثم لم تحبوا الثقافة، ثم لم تحبوا الحضارة؛ فابنة أية حضارة أنت إذن، ابنة أية حضارة!

هذه الطالبة دعيّة غير أصيلة، والعربية اللسان -يا جماعة- لا أن تكون من قحطان أو عدنان، بل أن تفكر بالعربية، وتتكلم بالعربية، وتقرأ بالعربية، وتكتب بالعربية. ولو أن رجلا من آل بيت رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- خرج فعاش في الصين مثلا أو في أوروبا أو في أمريكا، واستعجم، فصار بالإنجليزية يفكر ويتكلم ويقرأ ويكتب- ما كان من العربية نصيب، وهو الشريف النسب!

ومثلما اجتمعنا على ذلك المبدأ عقيدةً نعتقدها، ونصا نحفظه- نجتمع فيما بين الغناء والشعر على هذه الكلمة الموجزة الآتية.


 

لولا الغناء لم يكن الشعر،

ولولا المغني لم يكن الشاعر!

لقد نشأت الموسيقى وعَرُوض الشعر نشأة واحدة؛ فكان المغني الأول إذا شغله أمر من الحزن أو الفرح دَنْدَنَ أصواتًا غُفْلًا من المعنى، يُلَحِّنُها من سِرِّ نفسه تلحينا يُمَثِّل مشاعره ويُهَدْهِدُها. ثم صار يدندن الأصوات مركبة في كلمة ذات معنى، فهو يكررها باللحن نفسه. ثم صار يدندن كلمات مختلفة مؤتلفة في جملة واحدة -وعندئذ كان البيت من الشعر- فهو يكررها باللحن نفسه. ثم صار يدندن جملا مختلفة مؤتلفة -وعندئذ كانت القصيدة- فهو ينتقل من بيت الجملة منها إلى بيت الجملة باللحن نفسه؛ فإذا الأغنية (القصيدة) دورات متشابهات لا تكاد تبدأ حتى تنتهي، تَضْبِطُها قَرَارَاتُها (قَوَافِيهَا). ثم نشأت الآلات، فاسْتَقَلَّتْ بالموسيقى عن عروض الشعر، ومضى كُلٌّ في سبيله حتى تباعد ما بينهما، ولكن بَقِيَتْ صلة الغناء الواصلة، تحمل الموسيقيين والشعراء جميعا معا، على أن يجتمعوا على لُغَةٍ سَواءٍ، وعندئذ يراجعون ذلك الأصل البعيد؛ فتلتبس أنغام الموسيقيِّ بتفعيلات الشاعر، والبحر العروضيّ بالمقام الموسيقيّ، وتتفجر اللغة السواء، ويتجلى خِصْبُ توظيف العروض توظيفا موسيقيا. ولقد ينبغي أن يعرف متلقو الشعر، أن الشاعر يغني شعره في أثناء تكوينه -وإن باعدته الموسيقى بآلاتها!- ولا يُمِرُّ عمله على ورقته حتى يُمِرَّه على أذنه!

سيستنكر عليَّ هذه الكلمةَ، بعض من يرون أحوال المغنيين المعاصرين الموغلة في الفسق والفجور، يقول:

معقول هذا -يا أستاذ- معقول هذا؟

وماذا علينا منهم؟ دعوهم عنا! طيب، بعض قراء القرآن من الفسقة، ماذا تقولون؟ هل أدلكم على بعض المدمنين من القراء؟ بعض أئمة الناس من الفجرة، أدلكم على بعض هؤلاء؟ أسمي لكم بعض الفجار من علماء الدين مثلا أو المنتسبين إلى علم الدين؟، أسمي لكم بعض الأئمة من الفجرة؟ ننكر الإمامة من أجل فجور بعض الأئمة؟ ننكر قراءة القرآن من أجل فجور بعض قراء القرآن؟

"لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله"، كلام من هذا؟ كلام سيدنا علي لتلميذه الكميل، "يا كميل، لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله، يا كميل"،... حينما أخذ بيده وجعل يعلمه، وكميل هذا له قيمة عالية عند الشيعة، من قيمة سيدنا علي، وكان تلميذه، لا تعرف الحق بالرجال، يعني لا تقل: كل ما خرج من فلان فهو صحيح، كأن تنسبه إليَّ أنا هكذا: قال أستاذنا كذا، فيقول لك: أخطأت أنت وأستاذك، أنت وأستاذك في النار! ها...، لا لا. قل له الصواب، وأصلح إذا أفسدتُّ، وسُدَّ إذا أخللتُ، وأكمل إذا نقصتُ- تحسن إليَّ، إن شاء الله!

"لولا الغناء لم يكن الشعر، ولولا المغني لم يكن الشاعر"، هذه حقيقة ثابتة أعبر عنها بهذا المقال القصير الذي يستحق الحفظ. سأقرأه لكم، وأستمعه منكم، ومن أحسن أداءه أعطيته خمس درجات ولا أبالي، أعطيته خمس درجات ولا أبالي، ومن حفظه وأداه فيما بعد في مكتبي أداء سليما أعطيته خمس درجات ولا أبالي، ولا يهم، خمس درجات تفوت ولا أحد يموت!

اسمعوا، "اسمعوا ها السَّمْعة"!

"لقد نشأت الموسيقى وعَرُوض الشعر نشأة واحدة؛ فكان المغني الأول إذا شغله أمر من الحزن أو الفرح دَنْدَنَ أصواتًا غُفْلًا من المعنى، يُلَحِّنُها من سِرِّ نفسه تلحينا يُمَثِّل مشاعره ويُهَدْهِدُها".  

ما معنى هذا الكلام؟

في أول الزمان، في أول وجود الإنسان، كانت الموسيقى والعروض شيئا واحدا، فكان المغني الأول -وهو الشاعر الأول- إذا حزن من شيء أو فرح لشيء دندن -كأنما يبكي أو يضحك أو يغني- "أصـواتا غفلا من المعنى، يلحنها من سر نفسه"، إذا كان في فرح لحن تلحينا سعيدا، وإذا كان في حزن لحن تلحينا حزينا، هكذا، وأنتم تميـزون بين الضحك والبكاء، فرق واضح، سبحان الله! هذه أصوات وهذه أصوات، وهذا ضحك، وهذا بكاء، "وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالْبُكَا"، وهذا كلام المتنبي:

"وَمَاذَا بِمِصْرَ مِنَ الْمُضْحِكَاتِ وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالْبُكَا"!

"دندن أصواتا غفلا من المعنى"، ما معنى "غفلا من المعنى"؟ خالية من المعنى، "يلحنها من سر نفسه"، من قلب نفسه، من الداخل، تلحينا يخرج من قلب روحه، يا سلاما! وكانت الأمور في ذلك الزمان صادقة صدقا تاما، تخرج من القلب، وما خرج من القلب وقع في القلب، وما خرج من اللسان لم يتعد الآذان. فكان الشخص عندئذ إذا ما دندن حزينا أو دندن سعيدا؛ أثّر؛ لهذا تجدون الغربيين إذا ما اشتغلوا بالشعر العربي اشتغلوا بالشعر الجاهلي، ففي كتاب "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي"، ترجم جوتيه عن الشعر الجاهلي، ترجم قصيدة "إِنَّ بِالشِّعْبِ الَّذِي دُونَ سَلْعٍ" وفتن الناس، لماذا هذا؟ الناس أذكياء، يعرفون أن الناس قديما كانوا أصدق، وكانوا في راحة بال وحسن إنصات وفراغ وقت وشدة دأب، حتى يظهر المعنى. "يلحنها من سر نفسه تلحينا يمثـل مشاعره ويهدهدها"، ما معنى يهدهدها؟ يطمئنها، يكفكفها، يهدئها، يهدئ مشاعره؛ فبعد أن يبكي يرتاح حقا، وبعد أن يضحك يرتاح. ثم صار يدندن الأصوات مركبة في كلمة ذات معنى: عندكم مثلا في الشرقية فن يُسمى المُلالاة، حدثني عنه أحد الحجريين، يقف فيه المنشد يلالي، ما معنى يلالي؟ يقول: لا لا أو: للا للا، لا لا للا، بلا لا فقط يسمونه الملالاة، ما معنى لا؟ لا هذه كلمة واحدة، أو ربما كانت حرفا لا معنى له. مر بعض الناس قديما ببعض العرب يقول لابنه قل: نعم لا نعم لا نعم لا نعم، نعم لا نعم لا نعم نعم لا نعم ، فقال له: ما هذا؟ قال: هذا التنعيم، شيء نعلم به أولادنا الشعر، يعلمونهم الشعر بـ"نعم" و "لا"، "لا لا نعم" هذا وزن آخر، "لا لا نعم لا لا نعم لا لا نعم لا لا نعم"، "لللا نعم لللا نعم لللا نعم"، "نعم لا لا نعم لا لا نعم لا"، تستطيع أن تعبر عن كل شيء بـ"نعم" و "لا"، قال له: هذا التنعيم، ثم لما جاء محمد العلمي من العَروضيين المتأخرين قال: هذا من علم العروض الذي كان قبل الخليل، أي من الإرهاصات التي كانت قبله؛ فلم يأت الخليل على فراغ تام، ولكنه عبقري استفاد من هذا كله، وطوره.

ثم "صار يدندن الأصوات مركبة في كلمة ذات معنى، فهو يكررها باللحن نفسه"، أي يستطيع بدلا من النواح أو الضحك بأصوات غفل، أن ينوح أو أن يضحك بكلمة واحدة، كأن تقول مثلا بعد النتيجة مثلا: نجاح أو تفوق تفوق تفوق تفوق، هكذا تقول أحيانا:

تفوق تفوق تفوق تفوق،

كبار كبار كبار كبار،

هكذا تقول الشعر بتكرار كلمة واحدة، بل إن بعض الناس يروي في نشأة الشعر العربي، أنه في أصل نشأته ينتمي إلى عربي رحل بناقته ثم وقع عنها فانكسرت ذراعه فصار يصيح:

وا ذراعي وا ذراعي؛

فحنت له الإبل، فانعطفت عليه طربا بـ"وا ذراعي"، و"وا ذراعي" هي (فاعلاتن) أصلا، فمن هنا تكوّن الشعر العربي، حتى رأى بعض علمائه أن "فاعلاتن" هي أصل البحور:

وَا ذِرَاعِي        وَا ذِرَاعِي      وَا ذِرَاعِي   

وهكذا!

 ما معنى "وا ذراعي"؟ آه من ذراعي، يتوجع، وهذه نستطيع أن نعدها جملة كاملة إذا شئتم، جملة كاملة، لأنها أسلوب ندبة.

ثم "صار يدندن كلمات مختلفة مؤتلفة في جملة واحدة، وعندئذ كان البيت من الشعر"، عندئذ فقط كان البيت من الشعر، لم يعد يكرر أصواتا غفلا، ولم يعد يكرر كلمة واحدة، بل صار يكرر جملة كاملة، كأن يقول مثلا: نجحت اليوم بعد الجهد والإتقان يا أمي، وهذا كلام مستقيم في بيت كامل:

نجحت اليو      م بعد الجهـ     ـد والإتقا      ن يا أمي

نجحت اليو      م بعد الجهـ     ـد والإتقا      ن يا أمي

يكرره باللحن نفسه مشحونا بمشاعره، ثم صار يدندن جملا مختلفة مؤتلفة، وعندئذ كانت القصيدة بدلا من تكرار "نجحت اليوم بعد الجهد والإتقان يا أمي"، يضيف جملة ثانية ينتقل إليها فثالثة... وهكذا؛ فتتكون القصيدة، أي ينتقل من بيت جملة منها إلى بيت بجملة باللحن نفسه؛ "فإذا الأغنية القصيدة دورات متشابهات، لا تكاد تبدأ حتى تنتهي، تضبطها قراراتها (قوافيها)"، أي تدل على نهاياتها قوافيها؛ فهذه القوافي التي تجدونها في الشعر لم تكن عبثا، إنها تحدثنا عن الأواخر، تحدد أواخر الأبيات، إذا ما وصل إليها الشاعر عرف المستمعون أنه انتهى من البيت وسينتقل إلى بيت ثان؛ فأي عبث فيها وهي جمة الفوائد: هي شحنة موسيقية، ثم هي دلالة إجرائية، تمام؟

ولكن ما ذا بعدما كان المغني هو الملحن والشاعر هو المغني يعزف على أوتار حنجرته؟

نشأت الآلات.

عرف الجاهليون من الآلات الموسيقية العُود والدُّفّ والمزمار، ماذا قال رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- لسيدنا أبي موسى الأشعري؟ "لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُودَ"! وماذا قال في حديث أم زرع، حينما اجتمعت إحدى عشرة امرأة، وذكرن أزواجهن -وهذا من سوء الأدب!- وتعاهدن أن يصدقن، وحفظ كلامهن رسول الله -صلى الله عليه، وسلم!- وحكاه للسيدة عائشة يؤنسها به، ليقول لها بعقبه: "كُنْتُ لَكِ كَمَا كَانَ أَبُو زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ"، وأبو زرع أحد الأزواج في الحكاية. يعنينا هنا من الحكاية كلام المرأة التي ذكرت زوجها مالكًا، بقولها: "زَوْجِي مَالِكٌ، وَمَا مَالِكٌ! مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ -من كل هؤلاء الذين ذكرتُنَّهم- لَهُ إِبِلٌ قَلِيلَاتُ الْمَسَارِحِ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ -يقل سَرْحُهنّ في الفضاء، ويكثر بروكهن في الحظائر، لماذا؟ للذبح للأضياف!- إِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ"، أي إذا سمعن صوت الدف عرفن أن بعض الأضياف قد حضروا، وأنهن مذبوحات حتما! "زوجي مالك وما مالك"، سؤال تَعْجيب، من طريقة قول الحق -سبحانه، وتعالى!-: "الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ"، عن العاقل بـ"ما"، لأنه سؤال عن الحقيقة، لا عن الاسم، من طريقة قول الحق -سبحانه، وتعالى!-: "مَا رَبُّ الْعَالَمِينَ"؟ "مَالِكٌ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، لَهُ إِبِلٌ قَلِيلَاتُ الْمَسَارِحِ كَثِيرَاتُ الْمَبَارِكِ، إِذَا سَمِعْنَ صَوْتَ الْمِزْهَرِ أَيْقَنَّ أَنَّهُنَّ هَوَالِكُ"! فهذا المزهر في القديم، أما العود فعندكم في معلقة سيدنا لبيد -وهو سيدنا من الصحابة أسلم فيما بعد- يقول: "بِمُوَتَّرٍ تَأْتَالُهُ إِبْهَامُهَا". فها قد ذكرتُ لكم المزمار والدف والعود، فماذا بقي؟ ماذا بقي؟ الدرامز؟ لا، صعبة هذه، هذا غربي هذا. البيانو؟ هذا غربي. تلك آلات عربية، وهذه آلات أعجمية، وأنا أحب الآلات العربية حتى إن الدكتور مصطفى محمود آخر فلاسفة العرب، قال فيه مرة: أفضل الآلات الموسيقية الناي (المزمار) -وكان من عازفيه- الأداة الوحيدة التي تأخذ من الروح، أما سائر الآلات فتأخذ من خارج الروح ثم تؤدي، انظر إلى الفلسفة! يا سلاما!

نشأت الآلات، فاستقلت بالموسيقى عن عروض الشعر، فصرت تستمع إلى العود وحده، وإلى المزمار وحده، وإلى الدف وحده في المناسبات، بعدما كنت تستمع إلى العزف والشعر في وقت واحد؛ لأن الشاعر كان هو العازف. أما الآن فتفرقت القبائل، ومضى كل في سبيله حتى تباعد ما بينهما، ولكن "بقيت صلة الغناء الواصلة تحمل الموسيقيين والشعراء جميعا معا على أن يجتمعوا على لغة سواء، وعندئذ يراجعون ذلك الأصل الواحد البعيد؛ فتلتبس أنغام الموسيقي بتفعيلات الشاعر، والبحر العروضي بالمقام الموسيقي، وتتفجر اللغات السواء، ويتجلى خصب توظيف العروض توظيفا موسيقيا". ماذا يحدث إذا أمر جلالة السلطان بإعداد نشيد العيد الوطني؟ يجتمع الشاعر والموسيقي -أو الملحن- والمغني، فيجتهد الشاعر أن يضع كلمات مناسبة، والموسيقي أن يلحن تلحينا مناسبا، والمغني أن يؤدي أداء مناسبا، انظروا! فإذا ما تجاوز الشاعر حده إلى كلمات صعبة، قال له الموسيقي: لا، هذه صعبة، فيغيرها، والعكس بالعكس، أي إذا ما وضع الموسيقي جملة موسيقية صعبة، قال له الشاعر: لا، هذه صعبة، فيغيرها، وكذلك المغني يقول: يا جماعة، يستحيل أن أغني هذا، كما كانت أم كلثوم- المغنية المصرية الشهيرة التي يسمونها "السّتّ"- تغير من شعر الشعراء، تقول: هذا مستحيل، لن أغني هذا! عندئذ فقط يعود الأمر سيرته الأولى في الزمان الأول، حينما كان هذا كله من عمل شخص واحد!

الله على الجمال!

"ولقد ينبغي أن يعرف متلقو الشعر أن الشاعر يغني شعره في أثناء تكوينه"، أي لا تظن أن الشاعر حين يكتب الشعر على الصفحة ينفصل من الأصوات، لا؛ فإنه يغنيها، ينطقها على أذنه، يكتب ويغني، أو يغني ويكتب، بل يغني أولا قبل أن يكتب، هكذا لا بد أن يدندنها أولا في أثناء تكوينها -وإن باعدته الموسيقى بآلاتها!- و"لا يُمِرُّ الشعر" -ما معنى "يُمِرّ"؟ أَمَرَّ الشيء: جعله يَمرّ- ولا يمر عمله، لا يجعل العمل يمرّ إلى ورقته حتى يُمرّه على أذنه، ليطمئن بمروره على أذنه أنه قد استقام.

لقد  مر الإنسان في سعيه إلى القصيدة، بأربع المراحل المنطقية الآتية:

1)  مرحلة الصوت (جزء التفعيلة)، وفيها صَدَحَ بترديد صوت لا معنى له، كـ"لَلَا لَلَا لَلَا لَلَا لَلَا لَلَا"، في "الملالاة" التي حكوها لنا عن أهل الشرقية، و"تِرِيرَرَا تِرِيرَرَا تِرِيرَرَا"، التي يستعدُّ بها الموسيقيون.

2)  مرحلة الكلمة (التفعيلة)، وفيها صَدَحَ بترديد كلمة واحدة ذات معنى واحد، كـ"نجاح نجاح نجاح نجاح"، التي يقولها السعيد، و"ضياع ضياع ضياع ضياع"، التي يقولها الحزين، ولا جملة ثَمَّ، بل كلمة واحدة فقط.

3)  مرحلة الجملة (البيت أو الشطر)، وفيها صَدَح بترديد جملة واحدة ذات فكرة واحدة، كـ"نجحنا نجاحًا كبيرًا مثيرًا"، التي يقولها السعيد، و"ضللنا ضلالًا مبينًا ثقيلًا"، التي يقولها الحزين.

4)  مرحلة النص (القصيدة)، وفيها صَدَحَ بجُمل مختلفة في نفسها، مؤتلفة بالهم نفسه الذي صدر عنه في المراحل السابقة، ولكنها أشمل وأغنى.

والآن أستمع منكم إلى النص، فمن يستطيع أن يؤديه أداء سليما؛ فيأخذ خمس درجات كاملة، ولا أبالي؟ من؟ من؟ لا أحد، لا أحد، من؟ ما اسمك؟

مروان.

كيف -يا مروان- وقد كنت نائما أصلا! سبحان الله! اعجبوا معي لمروان، يجترئ على الأداء السليم وقد كان نائما! من يفعل هذا من بهلاء بلا ريب، يسمع وهو نائم!

يَنَامُ بِإِحْدَى مُقْلَتَيْهِ وَيَتَّقِي بِأُخْرَى الرَّزَايَا فَهْوَ يَقْظَانُ هَاجِعُ

ذئب، ما شاء الله! تفضل!

"لولا الغناء لم يكن الشعر...

أحسنت!

... فكان المغني أَلأول...

خطأ، لا نقطع همزة وصل في الوسط، إذن نقول:

... فكان المغنيُ الأول...

خطأ!

لا لا، هذا الذي يسمونه المنقوص، تختفي من عليه الضمة والكسرة، لا تقول: المغنيُ، ولا المغنيِ، لكن تقول عند النصب: المغنيَ، سمعت المغنيَ، وعند الرفع تقول: كان المغني الأول، وعند الجر تقول: صوت المغنّي الأول.

... ثم صار يدندن أَلأصوات مركبة...

خطأ، قطعت همزة الوصل!

ثم صار يدندن الأصوات مركبة في كلمة ذات معنى، فهو يكررها باللحن نفسَه نفسُه

خطأ، لا نفسَه ولا نفسُه، بقيت واحدة.

... نفسِه...

... في جملة واحدة وعندئذ كان البيت من الشعر فهو يكررها باللحن نفسه...

نفسَه نفسِه نفسُه، لا لي لو، قال له: هل أخاك أخيك أخوك موجود؟ فقال له: لا لي لوَ، "لا" إجابة "أخاك"، و"لي" إجابة "أخيك"، و"لو" إجابة "أخوك"، ما شاء الله! فهو يكررها باللحن نفسِه، أكمل!

... باللحن نفسه فإذا الأغنيَة...

"الأغنيَة" تخفيف للأصل، الأصل: الأغنيَّة، والتخفيف صحيح كذلك، لكن أحببت أن تعرف أن "الأغنية" تخفيف "الأغنية"، و"الأمسية" تخفيف "الأمسية"، والأصل "الأغنية" و"الأمسية"، وكلتاهما مستعملتان، وتقول: "الأغاني"، "كتاب الأغاني" للأصفهاني.

... فإذا الأغنية القصيدة دورات متشابهات لا تكاد تبدأ حتى تنتهي تضبطها قراراتها قوافيها...

أحسنت، وقد درجنا على أن نضع بين القوسين تفسير ما قبلهما، وقد أحسن مروان حين قال: قراراتها قوافيها، لم يقل: قراراتها أي: قوافيها، فأضاف هذا هكذا، وسيفهم المتلقي أنه من بدل التفسير.

... ثم نشأت الآلات فاستقلت بالموسيقى عن عروض الشعر، ومضى كل في سبيله حتى تباعد ما بينهما، ولكن بقيت صلة الغناء صلة الغناء الواصلة...

أرأيتم كيف استفاد خوفا من قطع همزة الوصل، صار مرعوبا الآن من قطع الهمزة، فصار يعود ليصل ما قطع "صلة الغناء الواصلة"!

... تحمل الموسيقيين والشعراء جميعا معًا على أن...

إذا ما وقفت فدع التنوين "جميعا معَا"!

... على أن يجتمعوا على لغة سواء...

ما اللغة السواء؟

المستوية المتساوية، يتساوون فيها يشاركون فيها.

... وعندئذ يراجعون ذلك الأصل ذلك الأصل البعيد...

أرأيتم، خواف!

ههههه!

...فتلتبس أنغام الموسيقي بتفعيلات الشاعر، والبحر العروضي بالمقام الموسيقي...

والمقام السلم الذي درستموه في الثانوية.

... وتتفجر اللغة السواء، ويتجلى خصب...

خِصْب، "الخصوبة" مبتدعة، والأصل "خِصب"، ... ويتجلى خصب...

...ويتجلى خصب توظيف العروض توظيفا موسيقيا...

أي مشاركته في بناء القصيدة، وأخيرا!

... ولقد ينبغي أن يعرف متلقو الشعر أن الشاعر يغني شعره في أثناء تكوينه...

أحسنت!

... وإن باعدته الموسيقى بآلاتها، ولا يمر عمله على ورقته حتى يمره على أذنه".

ومروان حسن، هذا مستوى لا بأس، بارك الله فيك، لكنني استمعت في الشعبة الماضية إلى محمد القصابي، وكان رائــعــا جدا.

سامحوني على التأخير -إن شاء الله يتكرر!- تفضلوا، بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، والسلام عليكم!

وسوم: العدد 1091