متى كان بين واشنطن والإسلاميين مودة

ولماذا يصر اليساريون على وجودها؟

الطاهر إبراهيم *

بعد مقاله الذي نشرته جريدة النهار بتاريخ 28 تشرين الثاني الماضي تحت عنوان "الإخوان المسلمون والإرهاب والإسلام السياسي"، وزعم فيه أن إخوان مصر كانوا على علاقة مع الإنكليز والأمريكان والملك فاروق. وقد رَدَدْتُ عليه في جريدة النهار في 30 تشرين الثاني بمقال تحت عنوان "حقيقة علاقة الإخوان بالأميركيين والإنكليز وفاروق". وقد عاد "غسان المفلح" (سوري يساري معارض ) ليكتب في النهار ثانية في 21 كانون أول الجاري تحت عنوان "الإخوان المسلمون بين الإرهاب والسلطة".

إذا كنت فهمت من مقاله الأول أن "مفلح" أراد أن يغمز من قناة الإخوان المسلمين المصريين فيزعم أنه كانت للمرشد العام للإخوان المسلمين الشيخ "حسن البنا" علاقة مع الإنكليز والملك فاروق والأمريكيين، متكئا في ادعائه هذا على شهادات بحق الإخوان لا تصح، كمالم يوثقها "مفلح" بشهادات مؤرخين ثقاة، إلا ما كان من مقولة كاتبٍ ليس له قدم تؤهله في مجال كتابة التاريخ . لكني عند قراءة مقال "مفلح" الثاني ما استطعت أن أتبين ماذا أراد أن يقول؟

مع أن الأستاذ "مفلح" كتب مقاله هذا بلغة عربية، إلا أن المصطلحات والتعبيرات التي كتبها كانت غير ذات مدلول واضح من مثل قوله: ("المفاهيم السياسية" ليست سوى تراكم مفردات لا قيمة لها ما لم تدخل في سياق الصراعات الأيديولوجية والسياسية، وهذا ما حاولنا تلمسه في مقال سابق حول انبثاق الظواهر السياسية الإسلامية، والمصطلحات التي عبرت عنها، وكيف تطورت في حقل الصراع والتداول الإعلامي والسياسي، التي نتج عنها معادلات غدت كلها عبارة عن مسلمات، وكأنها فكر ديني جديد!).

إذا كان من حق القارئ أن يجد كتابة متماسكة في جملها، يعتني فيها الكاتب بوضع المفردات حسب معناها، بحيث تؤدي إلى معنى واحد، ولا يهمل وضع علامات الترقيم، لأن الفواصل والنقط وعلامات التعجب والاستفهام تعين القارئ على فهم مقصود الكاتب بشكل واضح لا لبس فيه.. فإن من حق القارئ أيضا أن يجد أفكارا ودعاوى مُبْرهناً عليها بالشهود والأدلة والاستقراء الصحيح، وإلا أصبح كلاما منمقا مصفوفا لا روح فيه ولا معنى، وربما أصبح تزويرا للحقيقة. سأضرب صفحا عن تتبع عدم الوضوح والترابط في أفكار المقال الذي نحن بصدده، مركزا على فشل الكاتب في أن يأتي بأدلة وإثباتات على ما يقول:

قال "مفلح": (لا أعرف أين الحساسية إن قلنا إن الإخوان تنظيم سياسي، وله علاقات سياسية، يتبادل فيها المصالح مع أطراف سياسية أخرى، الملك المصري أو الإنكليز أو أميركا أو العراق أو غيرها أليست كلها أطرافا سياسية؟ وهل العلاقة الجيدة التي كانت تربط المرشد السابق للإخوان مع إيران هي علاقة غير سياسية؟).هذا المقطع يرد به "مفلح" على ما جاء في مقالي المنشور في النهار في 30 تشرين ثاني (أن اتهام الإخوان بهذه العلاقة المزعومة إنما هو إدعاء ينقصه الإثبات). كنت أتوقع منه أن يرد علي بمقاله الحالي بالدليل والبرهان، لكنه في مقاله هذا الذي يرد فيه على ردي عليه نسي أو تناسى أولا يملك الإثبات نهائيا، مما أبقى ما ادعاه "مفلح" في مقاله السابق لا سند له ولا إثبات، وبالتالي لا قيمة له.

مرة ثانية يتساءل "مفلح": (ما الذي جرى الآن، هل تحول الإخوان المسلمون إلى تيار نقيض للعالم الحر وقيمه؟ يجد القارئ الآن، و-قد- رمي كل ما تكدس من كتب عن تاريخ الإخوان في المرحلة السابقة بصفتها قوى رجعية لأنها قوى سياسية مدعومة من دول الغرب، أو هي قوى سياسية مؤمنة بقيم العالم الحر الذي ساند ما سمّاه آنذاك الصحوة الإسلامية تسانده في صراعه مع الشيوعية.(
ومرة أخرى يضرب "مفلح" بعقل القارئ عرضَ الحائط! وإلا متى كانت جماعة الإخوان مدعومة من دول الغرب؟ ومتى ساند "العالم الحر" الصحوة الإسلامية؟ بل ومتى ساندته هذه الصحوة في صراعه مع الشيوعية؟ وأقلّ ما يقال في هذا الإدعاء أنه باطل، هذا إن لم نصفْه بأنه ادعاء مغرض. والصحيح أن الإخوان المسلمين في معظم الأقطار العربية كانوا عرضة لتسلط الأنظمة التي نصّبها أو دعمها الغرب عموما وأمريكا خصوصا لقمع الشعوب.

في آخر المقال يقول "مفلح": (مطلوب من الإخوان المسلمين وغيرهم من التيارات الإسلامية تبن حقيقي للنظام الديموقراطي، ولدولة القانون والمواطنة وحرية الرأي والمعتقد. بهذا فقط يسحبون ورقة ضغط من السلطات ومن الغرب ويخدمون مجتمعهم). العجيب الغريب أن مفلح يعرف أكثر من غيره أن "الإخوان المسلمين" السوريين تبنوا الديمقراطية في مشروعهم السياسي الذي اعتمدوه في مؤتمر لندن في كانون أول من عام 2004. وقد حضر المؤتمر لفيفٌ من المعارضين السوريين اليساريين والأكراد والإسلاميين. وكان الإخوان قبل ذلك قد ضمّنوا رؤيتهم هذه في "ميثاق الشرف" الذي صدر في أيار 2001، ووزع على كل الجرائد .وقد نشرت النهار وغيرُها في حينه عدة مقالات ناقشت ميثاق الشرف هذا.

ما جاء في "المشروع السياسي للإخوان" يمكن اختصاره بأن الإخوان يسعون إلى أن تكون الدولة السورية:(دولةَ مواطنة، تعاقدية، تمثيلية، تعددية، تداولية، مؤسساتية، قانونية). أليست هذه هي أهم مظاهر الديمقراطية؟ بل يندر أن تكون هناك دولة غربية تتمتع بهذه المقومات.

أخيرا: لا بد من التنبيه إلى أن عنوان مقال مفلح: "الإخوان المسلمون بين الإرهاب والسلطة" هو عنوان "موهم". لأن أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ أن "مفلح" أراد أن يقول: إن الإخوان المسلمين يؤيدون الإرهاب للوصول إلى السلطة. هذا المعنى أكد "مفلح" خلافه في مقاله هذا عندما يقول عن الإخوان المسلمين: (لا بل يصرون على نبذ العنف بكل أشكاله، ماعدا نشاط "حماس"، وبعض أطراف ما يسمى بالمقاومة العراقية وليس كلها، لهذا تجدهم يسارعون إلى إدانة مجزرة كنيسة سيدة النجاة في بغداد بكل تنظيماتهم تقريبا).

بل إني أزيد على ما قاله "مفلح" بأن الشيخ "يوسف القرضاوي" الذي يعتبر الزعيم الروحي للإخوان المسلمين، كثيرا ما كان يندد بالعنف الذي كان يضرب العراق وغيره وينسب إلى القاعدة. بل إن "القرضاوي" ندد بأحداث 11 سبتمبر التي ضربت نيويورك في عام 2001، وقد نسبت إلى القاعدة.

هناك الكثير مما ورد في مقال "غسان مفلح" الذي ردّ فيه على مقالي، يحتاج إلى تفنيد. لكني أكتفي بما ذكرت خشية الإطالة.

يبقى مفهوما أن اليساريين ما كانوا يخفون عداءهم لواشنطن أيام كان نجم الاتحاد السوفياتي مرتفعا. ويبقى مفهوما انحياز أكثر هؤلاء اليساريين بالولاء إلى واشنطن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لأنهم يحسون أنهم بحاجة إلى من يدعمهم في مواجهة الإسلاميين. لكنّ ما ليس مفهوما أن يحاول هؤلاء اليساريون إثبات أن هناك علاقة ما بين واشنطن والإسلاميين، مع أن بينهما ما صنع الحداد.

* كاتب سوري معارض يعيش في المنفى.