هاجس المازوت...و العودة للحطب
هاجس المازوت...و العودة للحطب
د. أنس بن فيصل الحجي
منذ عدة عقود و أغلبية الشعب السوري تعاني من نقص في المشتقات النفطية, خاصة مادة المازوت الذي يعتمد عليه الشعب السوري في التدفئة خلال فصل الشتاء. و نظراً لتحرير أسواق الطاقة اللبنانية وزيادة الضرائب على المشتقات النفطية في تركيا بعد الازدهار الاقتصادي فيها و محاولتها تطبيق قوانين بيئية صارمة للالتحاق بالاتحاد الأوروبي في الوقت الذي استمرت فيه الحكومة السورية في دعم أسعار المازوت, أصبح سعر المازوت في سوريا أقل بكثير من الدول المجاورة, الأمر الذي خلق فرصة ذهبية للمهربين الذين استفادوا من فرق السعر. و نتج عن عمليات التهريب زيادة حدة أزمة المحروقات وظهور سوق سوداء للتجارة بالمشتقات النفطية. أم الذين لم يمكنهم "دخلهم" أو "نفوذهم" أو "وساطاتهم" من الحصول على المازوت فإنهم عادوا إلى واحدة من أقدم وسائل التدفئة في التاريخ: الحطب!
ما هو السبب الحقيقي للأزمة؟ وكيف يمكن للحكومة السورية أن تحل هذه المشكلة التي أصبحت عبئاً على الاقتصاد الوطني و هاجساً يشغل المواطن السوري؟
سبب الأزمة
إن الأزمة في سوريا لا تعود إلى عدم وجود النفط في سوريا بكميات كافية, أو لعدم وجود معامل التكرير. فسوريا تحتوي على 2.5 مليار برميل من النفط, و تنتج حوالي 530 ألف برميل يومياً, و تصدر حوالي نصف إنتاجها (تمثل عائدات صادرات النفط حوالي نصف عائدات إجمالي الصادرات السورية). و تستهلك سوريا حوالي 280 ألف برميل يومياً من المشتقات النفطية. و بما أن الطاقة التكريرية تبلغ حوالي 240 ألف برميل يومياً, فإن سوريا مضطرة لاستيراد بعض المشتقات النفطية. إذا, لا يمكن ,من الناحية النظرية, القول بأن سبب الأزمة هو تقص الإمدادات لأن أي نقص يمكن تغطيته عن طريق الاستيراد.
إن سبب الرئيس للأزمة هو تدخل الحكومة في تسعير المشتقات النفطية عن طريق دعم أسعارها. و نتج عن هذا التدخل مشاكل عديدة أولها زيادة العبء على الموازنة العامة حيث تمثل إعانات المحروقات 16.6% من موازنة عام 2004. وثانيها الشح الدائم للمحروقات وعدم توافرها في محطات الوقود بشكل مستمر, الأمر الذي أدى إلى قيام المواطنين بتخزين المازوت باستمرار خوفاً من اختفاء هذه المادة الحيوية من الأسواق. و رابعها ظهور سوق سوداء للتجارة بالمشتقات النفطية. وخامسها تهريب المحروقات إلى الدول المجاورة. إن هذه النتائج تعني أن ضحايا تدخل الحكومة في التسعير هم نفس الفئات التي تهدف الحكومة إلى مساعدتها من خلال تخفيض الأسعار عن طريق تحديدها بأقل من سعرها العالمي من قبل الحكومة!
و عادة ما يقوم الأفراد بتهريب سلعة ما إذا كان سعرها في البلد المجاور أعلى من سعرها في وطنها الأصلي بحيث يغطي الفرق تكاليف النقل و المخاطرة و يحقق ربحاً ما. و بالنظر إلى الحال في سوريا نجد أن أسعار المشتقات النفطية في كل من لبنان و تركيا تبلغ أضعاف السعر في سوريا بحيث تمكن المهرب من تحقيق أرباح طائلة. فسعر المازوت في تركيا يبلغ سبعة أضعاف سعره في سوريا, بينما يبلغ سعره في لبنان أربعة أضعاف السعر في سوريا. و هذا الفرق في السعر يحقق أرباحاً طائلة لأي مهرب. و تقدر الحكومة كميات المازوت المهربة ب 420 ألف طن سنوياً (حوالي 3 ملايين برميل), أو ما يعادل 7% من إجمالي كمية المازوت الموزعة في السوق. ولكن يبدو أن هذا الرقم أقل من الحقيقة لأنه لا يشمل عمليات التهريب "القانونية" التي تتمثل في قيام الشاحنات غير السورية بملء خزاناتها قبل مغادرة الحدود, رغم القيود التي تحدد من ذلك. كما أنها لا تشمل قيام أهل القرى الحدودية في الدول المجاورة بملء خزانات سياراتهم بشكل دائم من الجانب السوري للحدود. ولا تشمل استهلاك السواح العرب و الأجانب الذين يأتون بسياراتهم إلى سوريا حيث تقوم الحكومة السورية بشكل غير مباشر بتغطية جزء من تكاليف إجازة هؤلاء السياح! و بفرض صحة الأرقام التي أعلنت عنها الحكومة, فإن خسائر الموازنة السورية بسبب التهريب لا تقل عن 6 مليارات ليرة سورية سنوياً.
الخسائر لا تتوقف عند التهريب فقط
إن أثر مشكلة تهريب المازوت على الاقتصاد السوري, خاصة خلال الشهور الماضية, أكبر بكثير مما يمكن للمواطن العادي أن يتوقعه لأن نقص الإمدادات في الداخل يجبر الحكومة على الاستيراد من الخارج, خاصة أن إنتاج المصافي السورية من المازوت لا يكفي للإنتاج المحلي. و تستورد الحكومة المازوت بأسعار السوق العالمية التي وصلت إلى مستويات قياسية في شهري نوفمبر و أكتوبر الماضيين. و ليس هذا فحسب, ولكن على الحكومة السورية أن تدفع ثمن هذه الواردات بالعملة الصعبة!
إن أفضل القوانين هي التي تتلاءم مع النفس الإنسانية, و ليس التي تتعارض معها, وهذا أحد تفسيرات انهيار الشيوعية. و نظراً لانتشار التهريب لجأت الحكومة السورية إلى تجريم هذا العمل وأصدرت منذ زمن طويل قوانيناً تحرمه. كما أصدرت لائحة بالعقوبات التي تطبق على من يتجاوز هذه القوانين. ومجرد إصدار هذه القوانين أصبحت الحكومة مسؤولة عن تطبيقها فوظفت الأعين التي تسهر على تطبيق هذه القوانين "الإضافية", و عينت رجال الأمن الذين سيقومون بتطبيق القانون, بدلاً من ملاحقة القتلة و عتاة المجرمين.
و لا تتوقف تكلفة تدخل الحكومة في التسعير عند هذا الحد. فإذا ما قام رجال الأمن بالقبض على مشتبه بهم بتهمة التهريب أو بيع المشتقات في السوق السوداء فإنه يتم إضافة قضاياهم إلى ملايين القضايا التي تغرق المحاكم, كما يتم إيداع المخالفين السجن. لو حسبنا كل التكاليف من بداية تسعير المشتقات النفطية حتى الحكم على المهربين مروراً بكل تكاليف رجال الأمن والسجن لتسائلنا عن جدوى التسعير و قوانينه. هل فوائد التسعير تفوق الخسائر الناتجة عن التهريب و تطبيق قوانين منع التهريب؟
الحل هو تحرير أسواق الطاقة أو رفع أسعارها
إن الحل الأمثل للتخلص من هذه المشكلة هو تحرير أسواق الطاقة أو رفع أسعار المحروقات لتماثل الدول المجاورة (مثلاً, رفع أسعار المحروقات ليماثل الأسعار في تركيا سيؤدي إلى وفرة في المازوت بسبب انعكاس التهريب بحيث يصبح من لبنان إلى سوريا ووقف التهريب إلى تركيا وانخفاض استهلاكه بسبب ارتفاع أسعاره. وإذا ما تام ذلك فإن الطاقة التكريرية في سوريا ستكون كافية للاستهلاك المحلي و ستتوقف سوريا عن استيراد هذه المشتقات!).
إن التهريب و ووجود السوق السوداء يجعلان المجتمع السوري ككل يدفع سعراً أعلى للمحروقات مما لو تم تحرير أسعارها (تحرير الأسعار سيجعل سعر المازوت أربعة أضعاف سعره الرسمي الحالي). لذلك فإن الحل الأمثل يتمثل في تحرير أسواق المشتقات النفطية, و إن كانت مشكلة التهريب تنحل برفع الأسعار إلى حد يوقف عمليات التهريب هذه. إن تحرير أسواق المحروقات سيركز جهود قوات الأمن على القتلة و المجرمين و أمثالهم بدلاً من المهربين, كما أنه سيخفف من الفساد الإداري الناتج عن قيام المهربين برشوة رجال الأمن. إن الذين ينادون باستمرار عملية التسعير بحجة مساعدة المواطنين يتجاهلون التكلفة الحقيقة للتسعير, ويتجاهلون الحقيقة المرة وهي أن المواطن السوري الفقير يدعم بشكل غير مباشر حياة البذخ التي ينعم فيها أغنياء لبنان وتركيا, بالإضافة إلى السواح الخليجيين.
إن شح المحروقات الناتج عن تدخل الحكومة السورية في تسعيرها لا يعود إلى التهريب فقط, ولكنه يعود أيضاً إلى الزيادة في الطلب الناتجة عن الأسعار المنخفضة. لذلك فإنه يتوقع أن تنحل أزمة المحروقات مجرد تحرير أسواقها وارتفاع أسعارها لتعكس التكلفة الحقيقية لها. إن المشكلة التي تواجه الحكومة السورية في تحرير أسواق المحروقات, وهو أمر سيتم يوماً ما على كل الحالات, هو اعتياد الناس على هذه الأسعار المنخفضة, و الذي يولد مع الزمن إحساساً بأنه حقاً من حقوقهم, مع أنه ليس بحق. فإذا ما اضطرت الحكومة يوماً ما إلى رفع الأسعار لتخفيض العجز في الميزانية أو لإجراء بعض الإصلاحات الاقتصادية تذمر الناس و زادت نقمتهم على الحكومة, مما قد يؤدي إلى مظاهرات و أعمال شغب كما حصل في عدد من البلاد العربية و الإفريقية في السنوات الأخيرة.
إن تدخل الحكومات في تسعير المنتجات النفطية, لا يخالف النظرة الإسلامية للأسواق فقط, و لكنه لا يتلاءم مع الطبيعة الإنسانية, و يخالف أبسط قواعد السوق, و يتنافى مع حقوق الملكية سواء كانت عامة أو فردية. لذلك فإنه ليس من المستغرب أن يؤدي تدخل الحكومة في تسعير المنتجات النفطية إلى نتائج عكسية فقط, ولكنه يؤدي إلى خسائر كبيرة تتجاوز كل المنافع التي يؤمن بها مؤيدو قيام الحكومة بتسعير المنتجات النفطية.
ملحوظة: النسخة الأصلية من هذا المقال نشرت في صحيفة "الاقتصادية" السعودية بتاريخ 18 ديسمبر, 2004.