بل الحاظرون هم المحظورون -1-
بل الحاظرون هم المحظورون -1-ش
د:جابر قميحة
جاء في معاجم اللغة: "الحظر هو المنع والحجْر، وهو ضد الإباحة .
وحظره، فهو محظور أي مجرم" وجماعة «الإخوان المسلمين» تكاد تفرد.. في الساحة السياسية بإلصاق هذا الوصف بها.
فيقال «جماعة الإخوان المحظورة».
ويجري هذا التوصيف علي ألسنة كبار الحزب الوطني, ورجال السلطة, ومن سار علي دربهم من الصحفيين, وغيرهم.
وأوصاف أخرى..
ومن
الأوصاف التي تُخلع علي الجماعة أيضًا ما نراه في قولهم «جماعة غير شرعية» أو
«جماعة غير مشروعة, وأقدم من ذلك قولهم «الجماعة المنحلة». وهو وصف غالط لغويًا»
لأن «الانحلال» -وهو يعني التفكك- فعل ذاتي, وليس فعلاً غيّريًا, فهو يعني أن
الجماعة حلّت نفسها بنفسها, فهي «منحلة» أي مفكوكة مبعثرة, من «حلّ» العقدة, أي
فكها.
كذلك يخالف هذا الوصف «العرٍف الاستعمالي» الذي دأب علي استخدام الكلمة بمعني
«الانهيار الخلقي», فيقال «هذا إنسان منحل» أي: فاسد عربيد, سيئ الخلق والسلوك.
ويقال «حزب مشروع» أي يتمتع -قانونًا- بالوجود, ومزاولة النشاط, والمشاركة في
الحركة السياسية.
ويقال: حزب محظور أي يحرم القانون قيامه ومزاولة نشاطه, وعمله الحزبي كشخصية
«اعتبارية» وإن سمح بذلك لأفراده بوصفهم مواطنين.
التمادي في المغالطة والتخبط
وقد
رأيت وسمعت أكثر من واحد من «أساطين» الحزب الوطني-في أوقات متفرقة- ينكرون وجود
الإخوان مطلقًا بتصريحات غريبة تكاد تتفجر غيظًا ونقمة وحقدًا, مثل «مفيش شيء عندنا
اسمه إخوان», «مفيش حاجة عندنا اسمها إخوان»!!!
عجيبة والله!! والملايين التي كان لها حضورها القوي الساطع في «مظاهرة الاستاد»,
والنقابات, والجنائز, ومجلس الشعب...إلخ, ألا تدخل هذه الملايين تحت مفهوم «الشيء»
اللي اسمه إخوان?!! أم أن هؤلاء من الهكسوس, أو الهنود الحمر?!!
ومع ذلك نجد كبارًا جدًا يرفضون الأخذ بالديمقراطية في صورتها السوية.. لأنه لو حدث
ذلك «لجاء» «الإخوان المسلمون« أي لاختارهم الشعب حكامًا ونوابًا. فكيف يستقيم
الرأيان المتناقضان? بل قرأنا «لأستاذ كبير» يقول إن التطبيق الديمقراطي -في صورته
السليمة- يوجب علينا تخطي «الإخوان المسلمين» الله!! إذن هناك «شيء» خطير اسمه
الإخوان المسلمون.. ولاّ إيه??
السخرية من رسول الله صلي الله عليه وسلم
وربما
استأنس الكاتب المذكور بما كتبه أحدهم في أحد «مواقع النتًّ» يقول: «لابدّ من ركن
هؤلاء الإخوان علي جنب (أي إغفالهم) عند التطبيق الديمقراطي, لأن الواحد منهم -مثل
عمرو خالد- لو رشح نفسه للرياسة لحصل علي أغلبية مطلقة, إذا بشّر -في دعايته- من
ينتخبه بشربة هنية من الحوض الذي سيشرب منه «النبي محمد» يوم القيامة, شربة لا يظمأ
بعدها أبدًا» (ملاحظة: عمرو خالد ليس عضوًا في جماعة الإخوان» وهكذا لا مانع عند
هذه الفقاقيع السياسية والصحفية أن تهبط إلي الدرك الأسفل من الرجولة والخلق بالكذب
والافتراء, والسخرية من رسول الله صلي الله عليه وسلم, والمبادئ والمقولات والقيم
الإسلامية.
الحظر في واقعنا السياسي..
الحظر
-لغة- هو المنع والحجر -كما ذكرنا. ودون أن ننفصل عن هذا التعريف, وفي ضوئه أري من
الضروري -في هذا السياق- أن نلقي نظرة علي واقعنا السياسي والحزبي في العهد
المباركي:
1- فهناك أحزاب وُلدت «محظورة بطبيعتها, وحظرها حظر ذاتي إرادي, فهي أحزاب «مجمدة»
أو معلبة, لأنها لا تملك من «القدرة» والقوة الشعبية ما يمكنها من التحرك والتأثير.
والناس لا يعرفون إلا اسم رئيس الحزب, وأعضاء مجلس إدارته هم جمهوره وأنصاره, ولا
يعرفهم الناس, ولا يعرفون عنهم شيئًا, وما سمحت الحكومة بقيام عدد من هذا «النوع»
«الجامد أو المجمد أو المعلب» إلا ذرا للرماد في العيون, وهي تدعي بأننا «دولة
ديمقراطية» بدليل وجود هذا العدد الكبير من الأحزاب عندنا.
2- وهناك أحزاب محظورة حظرًا جزئيًا فهي مشروعة ولكنها لا تملك من حرية الحركة إلا
ما تسمح به الحكومة, وشبيه بذلك حالة حزب «العمل» الذي «جُمد» نشاطه مع أنه نشأ
مشروعًا في الأصل.
الحزب الوطني هو المحظور
والذين
يحكمون بالحظٍر, أو الإباحة في مجال الأحزاب يعتمدون علي الظاهر المشهور من التحرك
والنشاط والإجازة القانونية. ويغفلون أهم قواعد الثبات والبقاء والتفوق الحزبي.
وأعني بها القاعدة النفسية, أي مكان أو مكانة هذا «التنظيم الحزبي» قادة, ومبادئ,
وخططا في نفوس أعضائه بخاصة, ونفوس الشعب بعامة, لأن الحظر أو الإجازة لا يكونان
بقرار حكومي سلطوي, ولكن بقرار شعبي عملي يصدر بلسان الحال , لا لسان «المقال»,
ويتمثل في ثلاثية: الحب والاعتناق والالتفاف. أي حب الأعضاء للحزب وإخلاص الود
والوفاء له, واعتناق مبادئه والإيمان بها إيمانًا عميقًا, والالتفاف بمعني حماية
الحزب, والتضحية في سبيله بالنفس والولد والمال.
ولننظر إلي الحزب الوطني, وترجمته تتمثل مفرداتها فيما يأتي:
1- إمكانات ضخمة من المال والمباني والحراسات وأمن السلطة.
2- أغلبية مدّعاة, قالوا إنها لا تقل عن ثمانين في المائة, وأنها لن تقل عن ذلك في
المستقبل, وكل مستقبل, بل ستزيد زيادات مطردة, بذلك صرح الشاذلي ذات يوم لصحفي
«بالعربي الناصري» وأقول «قلبك أبيض يا شاذلي... فالغيب لا يعلمه إلا الله».
3- براعة فائقة في فنون تزوير الانتخابات والإرادات, والتأمين «الأمني» المكثف.
4- تقديم أهل الولاء الحزبي علي أصحاب الخبرات والولاء الوطني, بصرف النظر عن مصلحة
الشعب, وخصوصًا الطبقات الدنيا.
5- الوعود البراقة التي لم يتحقق منها شيء, بل تحقق بها نقيض المنشود مثل: الوعد..
بل الوعود برفع المعاناة عن المواطنين, والقضاء علي البطالة, والارتفاع بمستوي
التعليم والثقافة... إلخ.
وبعد كل أولئك من حقي أن أقول إن هذا الحزب الوطني هو «المحظور» الأول في كل
الأحزاب, فهو «المكروه» الأول, وهو «المعزول» الأول, فليس له «قاعدة نفسية» في نفوس
الشعب, بل بني كبارهم بينهم وبين قلوب شعبنا المطحون حائطًا خرسانيًا سميكًا
متينًا. فإذا سمع أحد المواطنين اسم «الحزب الوطني» قفزت إلي خاطره كلمات النفعية
والادعاء والتزوير والبهرجة و«العض» علي الكراسي بأسنان أقوي من حديد «أحمد عز»!
دعوة بريئة
وأساير
كبار الحزب الوطني كالشريف والشاذلي وجمال مبارك وأحاول أن أصدق أن الوطني هو حزب
الأغلبية, والحزب «الشعبي» الوحيد, فلماذا يحظرون أن يكون لقاؤهم مع الناس لقاء
مفتوحًا, بل يكون الحضور لمن «يجيزه» الأمن? ولم يحدث مرة أن جُعلت «الدعوة عامة»,
بل تُختار شخصيات الحاضرين علي «الفرازة» الأمنية. وأكثر من هذا تجد الأسئلة مكتوبة
للسائلين, وقد يحفظ أحدهم سؤاله عن ظهر قلب.
وأذكر أنني من ثلاث سنين دعيت إلي مشاركة شعرية في مقر الحزب الوطني بشارع القصر
العيني بمناسبة انتصار أكتوبر, وبعد أن ألقيت قصيدتي ارتج المبني والشارع بحركة غير
عادية, ورأينا «كبيرًا جدًا» من كبار قادة الحزب الوطني (ولم يعلن عن حضوره من
قبل), وتصدر المنصة فتكلم كلامًا وجه الشباب به إلي العمل علي مصلحة الوطن.. كان
حديثه بالعامية «المكسرة».. أما الأفكار فسطحية.. سطحية, مع أن الحاضرين والحاضرات
جميعًا من شباب الجامعات. وجاء دور الأسئلة... خمسة أسئلة.. ألقاها خمسة أفراد منهم
طالبتان... الورق متماثل, والأسئلة تسير في اتجاه واحد. ثم زال استغرابي حينما
أخبرني أحد أصدقائي أنه كان في الحجرة المجاورة قبل بداية الأمسية, ورأي أحد
المسئولين ينزع أوراقًا من «مفكرة» بتواريخ متتابعة, ويملي علي كل شخص سؤاله
ويراجعه معه.. قلت في نفسي: برافو .. برافو يا وطني!!! أهكذا تعلمون أبناءنا الغش
والتزوير?.
وأذكر
بهذه المناسبة أنه في واحد من لقاءات الرئيس مبارك -شفاه الله- بطلاب الجامعات وقفت
طالبة (وكانت حافظة سؤالها العجيب) ونصه: يا سيادة الريس: أنت بالنسبة لنا الأب
المحب الرحيم, وإحنا قربنا من العيد, وكل أب بيدًّي لكل واحد من أولاده هدية في
العيد. فإيه هي الهدية التي هتديها لنا في العيد?
وصفق الحاضرون تصفيقًا حارًا... وكنت أعتقد أن السؤال سيكون عن كيفية معالجة حمّي
الغلاء التي تخنق الناس وخصوصًا في المواسم والأعياد.
أما تكوين الوطني «للمظاهرات» فمسألة معروفة عند الصغير والكبير.. فبعد المظاهرة
الإخوانية في -ستاد القاهرة- المظاهرة التي حضرها مئات الألوف في نظام عجيب فريد.
ومُنع من حضورها مئات ألوف أخري, وسُدت مداخل القاهرة عن الإخوان القادمين من المدن
والقري, بعدها بأيام كانت «مظاهرة الوطني».. المظاهرة التي كان علي منصتها الشاذلي
والشريف وعادل إمام. يومها نشطت الباصات السياحية في نقل الموظفين, والعمال بالأمر
(أما المقابل فمعروف, والويل لمن خالف), وكانت المظاهرة خارج الاستاد, لا داخله,
ويرجع ذلك لسببين:
الأول: أن كل المتظاهرين لن يشغلوا مدرجًا واحدًا من مدرجات الاستاد الذي ضاق بكل
مدرجاته وطرقه وملعبه عن الإخوان من قبل.
والثاني : العجز المتوقع عن ضبط المتظاهرين وتنظيمهم. ويومها أدرك الشعب الفارق بين
حزب «محظور» بأمر الحكومة, وحزب محظور ملفوظ مكروه «بأمر الشعب».
وضحكت -والله- وأنا أسمع الشريف يخطب الحاضرين قائلاً: «يا مظاهرة المليون.. هذا
يوم من أيام مصر.. إلخ. وضحكت وأنا أري عادل إمام يذكرني بنفسه في فيلم «الأفاكاتو»
رأيته يخطب وقد فتح عينه اليسري «بزيادة» عن اليمني.
فإذا ما أُرٍتُح عليه- أي عجز عن مواصلة الكلام هتف ليردد الجمهور هتافه «لا للحرب,
ونعم للسلام».. ويظل يكررها حتي يفتح الله عليه بكلمتين فيواصل...
ولم
تُخدش أمريكا, أو إسرائيل, أو بوش بهتاف واحد, ولا حتي كلمة مكتوبة علي لافتة. ولكن
يبقي الأكثر إضحاكًا كلمة الشريف «يا مظاهرة المليون..» لأن عدد المتظاهرين لم يكن
يزيد علي عشرين ألفًا بأية حال. ولكن استُخدمت «الحيل» السينمائية في التصوير من
زوايا متعددة, مما يدل علي براعة «الكبار» لا في التزوير الانتخابي فحسب, ولكن في
«التزوير التصويري» كذلك.
وأخيرًا أقول همسًا: إن الذي دفع السادات إلي إنشاء هذا الحزب معروف مشهور «ولا
قيمة لما قاله السادات أيامها «وسينطلق هذا الحزب من بيت الزعيم مصطفي كامل بالسيدة
».. وهذا كلام لا قيمة له, لأنه في منهجه وصورته وسلوكياته لا علاقة له بمصطفي
كامل. إنما وُلد بإصرار من «الصديق بيجن» بطل كامب ديفيد وجاء سليلاً لأحزاب ولدتها
«الميمونة» التي قامت سنة 1952. وشاهدنا في عهدها مصارع أحزابها «الثورية» وسقوطها
الذريع: الاتحاد القومي- الاتحاد الاشتراكي- حزب مصر, ثم الوطني.. ولكل أجل كتاب,
ومازال للحديث صلة.
يتبع إن شاء الله