أميركة .. والشرق الأوسط الكبير .. ومواعظ إبليس!..

أميركة .. والشرق الأوسط الكبير .. ومواعظ إبليس!..

بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف

منذ سنةٍ وبضعة أشهرٍ، افتتح وزير الخارجية الأميركي (كولن باول) مَزاد الإصلاحات الديمقراطية الأميركية في الوطن العربيّ الكبير، على مبدأ تجّار التنـزيلات الموسمية: اشتروا ديمقراطية واحدة بـ (29) مليون دولار (لا أكثر ولا أقل) .. فنقدّم لكم الثانية (ببلاش)!.. ثم توالت علينا إفرازات العبقرية الأميركية (الغبية)، بالحديث عن الإصلاح والشرق الأوسط الكبير!.. وفي حقيقة الأمر، يبدو أن الأسمر (كولن باول)، الذي نسي أنه من أحفاد المستَعبَدين السود، الذين اختطفهم الرجل الغربيّ والأميركيّ الأبيض من إفريقية وغيرها منذ مئات السنين، ليمارس عليهم أبشع صنوف العنصرية والاستعباد والانتهاكات .. يبدو أنّ (كولن باول) هذا، يظن أنه يتحفنا بمواعظه عن الإصلاح والديمقراطية والشراكة القسرية الاستبدادية والشرق الأوسط الكبير، التي يريد مع أمثاله من مهرِّجي أميركة أن يفرضوها علينا وعلى وطننا العربيّ الكبير!.. فبهذا الصلف والاستبداد، يريد (كولن باول) أن يمارس علينا ديمقراطيته الأميركية وإصلاحاته الملغومة!..

هل نحن ضد الحرية والمساواة واحترام حقوق الإنسان والعدل والتطوير والرفاهية؟!.. وهل هناك إنسان في الأرض كلها يملك نفساً بشريةً سويّة، يمكن أن يقف حائلاً أمام تحقيق كل تلك المبادئ الإنسانية السامية؟!..

إننا أمّة تعشق الحرية والكرامة الإنسانية، بل تضحّي بالمهج والأرواح في سبيل تحقيقها، ولعلّ مشاعر الغضب التي ما فتئت تنفجر هنا وهناك ضد المصالح الأميركية والغربية والصهيونية .. لعلّ ذلك يدلّ على أننا أمة حيّة ترفض عوامل الهيمنة والضيم والظلم والقهر والاستبداد، التي استجمعتها أميركة في نفسها، ولا تريد أن ترى الحقائق إلا بمنظارٍ صهيونيٍ يهوديٍ، وعنجهيٍ أميركيٍ وغربيّ!..

نعم .. نعشق الحرية، بل إنّ ديننا: الإسلام الحنيف، هو منهج كامل متكامل للحياة، أرسله الله عزّ وجلّ عبرنا إلى الإنسانية، لتحقيق صلاحها وحرّيتها وسعادتها، ولتحريرها من العبودية لغير الله سبحانه وتعالى، ومن الشرّ والشقاء اللذَيْن تستجلبهما إليها المناهج البشرية الوضعية!.. نعشق الصلاح والإصلاح والحرية والعدل .. لكننا لا ننتظر ذلك من معتوهي أميركة وجبّاريها ومجرميها، الذين يذبحوننا في العراق وفلسطين وأفغانستان والشيشان .. والذين يسحقون كرامتنا ببساطير الأنظمة الدكتاتورية الظالمة، التي صنّعوها لنا وحاولوا إقناعنا بأنها أنظمة وطنية، انتهت -بتنصيبها على رقابنا- حقبة الاستعمار البغيض .. والذين ينتهكون أبسط حقوقنا في (سيرك) ما يسمى بالأمم المتحدة ومجلس الأمن الدوْليّ .. والذين يفتحون سجونهم ومعتقلاتهم لنا على أرضهم الأميركية، فضلاً عن أرضنا في أوطاننا، ليُمعِنوا في إذلالنا .. والذين يقتلون أسرانا في (جانجي) وفلسطين والعراق وغيرها من المواقع والمعسكرات الإجرامية .. والذين يسرقون أموال أيتامنا وأراملنا وفقرائنا بمصادرتها، تحت ذريعة تجفيف منابع الإرهاب .. والذين يعتدون على ديننا ومقدّساتنا وقرآننا ونبيّنا صلى الله عليه وسلم وأخلاقنا وقِيَمِنا، تحت شعار حربٍ صليبيةٍ عاتيةٍ لمكافحة ما يسمى بالإرهاب .. والذين ينهبون ثرواتنا ويشيّدون قواعدهم العسكرية على أرضنا وفي بحارنا وعند موانئنا .. والذين يحاصروننا في والسودان وفلسطين وليبية واليمن والجزيرة العربية، فيقتلون الملايين من أطفالنا جوعاً ومرضاً وقهراً .. والذين يغتالون أبناء شعبنا في العراق واليمن والجزائر والأردن والسعودية وقطر والكويت و.. !..

يزعم (كولن باول) أنه -بملايينه التسعة والعشرين من الدولارات- سيحقق لنا الحرية والإصلاح، عن طريق شراء ذممنا بمبلغ (تسعة سِنتاتٍ ونصفٍ) لكلٍ منا، أي أن ثمن كل عشرةٍ منا أقل من دولارٍ أميركيٍ واحدٍ فقط!.. وهو بذلك يقهرنا حين يُشعِرنا بأننا على هذه الدرجة من الرخص، لكنه لم يقل لنا من أيّ رصيدٍ سينفق علينا -نحن أمّة الثلاث مئة مليون نسمة- ملايينه التسعة والعشرين من الدولارات!.. أمِن رصيد أموال الأيتام والأرامل والجمعيات الخيرية التي سرقها، أم من رصيد أموال ثرواتنا التي نَهَبها، أم من رصيد الرشاوى الصهيونية التي تُقدَّم له ولأقرانه في الإدارة الأميركية، للاستمرار في شنّ الحرب علينا .. أم من أي رصيدٍ سينفقها؟!..

يزعم (كولن باول) أنّ أميركة (ستستخدم طاقتها وقدرتها ومثاليّتها، لجلب الأمل إلى عباد الله في الشرق الأوسط)، ولا نعلم عن أيّ أملٍ يتحدّث هذا (الباول)، وها هي ذي أساطيله وجيوشه تحيط بنا من كل جانب، تغتال كل آمالنا، وتدمّر أوطاننا ومستقبلنا ومستقبل أجيالنا!.. ولا نعلم عن أية مثاليةٍ يتحدّث هذا الأميركيّ المتعجرف، وها هي ذي بلاده قد أعلنت علينا حرباً صليبيةً شعواء، وفرضت علينا حالةً بوليسيةً تجتاحنا من المحيط إلى المحيط!..

يزعم (كولن باول) أنّ مشروعه (سيوفّر لنا فرص العمل، ويطوّر الاقتصاد، ويدعم الديمقراطية والحريات العامة، ويطوّر التعليم ووضع المرأة العربية)، وكل ذلك على طريقة رعاة البقر الأميركيين!.. وهو يعلم أننا أغنى أمّةٍ على وجه الأرض بثرواتها، لكنّ طغيانه وطغيان أذنابه علينا يحرمنا من استغلال ثرواتنا بالشكل الصحيح، لدعم اقتصادنا وتوفير فرص العمل الكريمة لإنساننا!.. ويعلم أنّ ديمقراطيّته المزعومة تُستَخدَم لقهرنا لا لتحريرنا!.. وأنّ التعليم في بلادنا سيكون بألف خيرٍ لو كفّ شرّه وبلاويه وأذاه عنا، وتَرَكَنا نتفرّغ للعلم والتعلّم والتعليم، لا لصدّ عدوانه ودفع أذاه وشرّه!.. كما يعلم أنّ المرأة عندنا لا يمكن أن تصدّق مزاعمه الباطلة بتحسين وضعها، وهو الذي ذبحها في لبنان وفلسطين والعراق، وقصف بيتها الطينيّ في أفغانستان، وسحق فلذات كبدها في العراق والسودان، وجعلها ثكلى في اليمن وسائر البلدان العربية، واعتدى على كرامتها وحِجابها ومظهر عِفّتها في كل بقعة أرضٍ إسلامية!..

تفيد أحدث الدراسات في أميركة، أنّ نسبة جرائم القتل ازدادت بمقدار (2.3%) على العام الماضي (2001م)، فيما ازدادت جرائم الاغتصاب بمقدار (8.1%) خلال عامٍ واحد، كما سجلت جرائم السطو والسرقة ارتفاعاً مقداره (1.7%) .. وأنّ نسبة جرائم القتل في المدارس الأميركية التعليمية في ازديادٍ مستمرٍّ من حيث العدد والوحشية .. وأنّ (41%) من المراهقين الأميركيين يستهلكون كمياتٍ ضخمةً من المخدّرات، وأنّ (63%) منهم يحتسون الخمرة .. وأنّ أكثر من ثلث المواليد ليس لهم آباء شرعيون، فهم أبناء زنى .. وأنّ أكثر من (70%) من نسائهم يمارسن الجنس خارج مؤسّسة الزواج الشرعيّ.. وأن عشرات الملايين من المواطنين الأميركيين -لا سيما السود- يعيشون تحت خط الفقر .. وأنّ أمراء الجنس والفجور والمخدّرات والنصب والاحتيال يسيطرون على أكثر من (65%) من المدن والبَلدات الأميركية .. وأنّ نسبة الأمّية بين الكبار في أميركة فاقت نسبتها في (العراق)، الذي تحاصره الأساطيل الأميركية منذ أكثر من عشر السنوات، وهي أعلى من نسبة الأمّية في (كوبا) المحاصرة أميركياً منذ أكثر من أربعة عقود .. وأنّ النظام التعليميّ الأميركيّ أنتج قائمةً لا تنتهي من الإرهابيين الأميركيين المجرمين، من أمثال: (تيموثي ماكفيه) و(تيري نيكولز) و(وليام بيرز) و(تشارلز وايتمن) .. وغيرهم من الذين ارتكبوا أفظع الجرائم على التراب الأميركيّ، بل في المدارس التعليمية الأميركية أيضاً!..

إننا يا (كولن باول) أمّة مسلمة الاعتقاد والولاء والهويّة والانتماء، ونتشبّث بطريقة حياتنا العربية الإسلامية، كما تتشبّثون بطريقة حياتكم الأميركية، وفق ما يصرّح به رئيسكم (بوش) في كل مناسبة!.. إننا أمّة كريمة عزيزة حضارية أسّست حضارتها بالأمس، فقامت على أسسها حضارتكم التي تتبجّحون بها اليوم!.. أما أنتم فأمّة طارئة على التاريخ الإنسانيّ، تأسّست على إبادة عشرات الملايين من أصحاب الأرض الأميركية الأصليين، وقد بنيتم اقتصادكم من الاستغلال والنهب والسيطرة على ثروات الأمم، وأقمتم قوّتكم العسكرية وصناعتها على قهر الشعوب المستضعَفَة والعدوان عليها واستباحتها!.. وإنّكم إذ تفعلون ذلك لا تعلمون أنكم تُسرّعون عملية زوالكم، بغطرستكم وظلمكم وانفلات مجتمعاتكم .. فقبل إلقاء مواعظكم علينا، ماذا لو التفتّم إلى ما يجري حولكم في بلادكم، وما ينتشر فيها من أمّيةٍ وفقرٍ وفاحشةٍ وفجورٍ وانفلات، ومخدّراتٍ وشذوذٍ ومادّية، وإفلاسٍ لكبريات شركاتكم الاقتصادية، وسَحقٍ للمرأة وامتهانٍ لكرامتها وإنسانيّتها، وتشرّدٍ للأطفال أبناء الزانيات، وجريمةٍ منظّمة، واستغلال، وضياعٍ لفرص العمل؟!.. فديمقراطيّتكم المنفلتة لم تنفعكم، ولن تنجيَكم من الانهيار المحتوم، وهي لا تصلح لنا، فنحن خير أمّةٍ أُخرِجَت للناس، نملك منهجاً ربّانياً عادلاً، لو ارتقينا إليه وتمكّنا من تنفيذه لساد عدلنا مواطئ أقدامكم في البيت الأبيض والكونغرس، ولسعدتم بتبنّي قِيَمنا وأخلاقنا وشرعنا، ونظرتنا إلى الحياة والإنسان والأرض والكون!..

إننا على يقينٍ أنّ دعوتكم إلى الشراكة، ودعاويكم العراض بدعم الديمقراطية وتطوير وضع المرأة العربية والتعليم والاقتصاد، وتوفير فرص العمل .. تفتقر إلى المصداقية، ويكذّبها الواقع اليوميّ المرّ الذي صنعتموه لنا، وإننا على يقينٍ أنكم تستهدفون بخطواتكم الزائفة ثقافتنا ودِيننا وحضارتنا وإنساننا، وتَسعون لإجهاض صحوتنا الإسلامية التي تقلقكم وتقضّ مضاجعكم، بما بدأت تفرزه من تَبَنٍّ للأطروحات الإسلامية، لإعادة الإسلام إلى الحكم، وتحقيق نهضتنا وعِزّنا وتحرّرنا من تسلّطكم، وتسلّط الدمى من بني جلدتنا، التي تدعمونها لتبقى مسيطرةً علينا، ومستبدّةً بنا، وقاطعةً الطريق من أمامنا، نحو الوحدة والتقدّم والعزّة والتحرّر والنهضة الحقيقية الشاملة!..

إننا يا (كولن باول) أمّة حيّة تملك قوّةً بشريةً ضخمة، وثروةً هائلةً تقدّر بأكثر من نصف ثروات العالَم، وأفضل موقعٍ جغرافيٍ واستراتيجيٍ في الأرض، وزخماً هائلاً من القوّة الحضارية التي تتطاول من عمق أعماق التاريخ، ودِيناً ومنهجاً ربّانياً لو تمكّنا من اتخاذه منهجاً شاملاً وحيداً لحياتنا .. لَغَيّرنا وجه التاريخ، ولملأنا الدنيا عدلاً ورخاءً وسعادةً وأمناً، بعد أن أثخنتموها جَوْراً وذلاً وشقاءً وخوفاً!.. فأنتم طغاة العصر، والفئة الوحيدة التي لا يحق لها أن تتشدّق بالحديث عن الديمقراطية والحرية والتحرير والتطوير، لأنّ مَنطقكم هو منطق فرعون الطاغية، الذي زعم ذات يومٍ للناس ما تزعمونه لنا اليوم: (.. قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَاد) (غافر: من الآية29)، وفرعون هو أحد طغاة الأمس الذين قَصَمهم الله عز وجل وزالوا، وستزولون كما زالوا، وسيبقى الحق وتبقى الحقيقة ثابتةً على أرض الواقع!.. (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) (غافر:21).

إنّ دعوتكم يا (كولن باول) مكشوفة مفضوحة، ترومون من ورائها ترقيع ما يمكن ترقيعه من مواضع التآكل الذي أخذ من هيمنتكم وهيبتكم، كما أعلنها صريحةً خبيثكم اليهوديّ الصهيونيّ (هنري كيسنجر)، في تصريحه لمجلة (نيوزويك) الأميركية: (.. في واقع الأمر، إنّ قبول هيمنتنا كأمرٍ واقعٍ آخذ في التآكل) (مجلة العصر-22/2/2002م).

إنّ إعلان الشراكة الذي أطلقتموه منذ أكثر من سنة، وخُطّتكم لما يسمى بالشرق الأوسط الكبير، هما صرخة المستغيث الذي يشعر باقتراب نهايته، ونهاية تاريخه الطارئ وحضارته المادّية الزائلة، التي تفتقر إلى الروح الإنسانية الكريمة الحقّة، وقد عبّر عن هذه الحقيقة حليفكم الاستراتيجيّ اليهوديّ الصهيونيّ الإرهابيّ (بنيامين نتنياهو)، في تصريحه لجريدة (معاريف) العبرية ذات يوم: (لقد آن الأوان لتطوير الديمقراطية في السلطة الفلسطينية والعالَم العربيّ، لأنه الخيار الوحيد لمنع ظهور الإسلام الذي يهدّد العالَم بأسره)!.. (المركز الفلسطيني للإعلام-27/4/2002م).

نتحدّاكم يا (كولن باول)، أن تنفّذوا مزاعمكم عن الشراكة والحرية والديمقراطية بصدقٍ وأمانةٍ في بلادنا، فأنتم أول من يعلم، أنّ ذلك معناه انتهاء وجودكم الأميركيّ والغربيّ والصهيونيّ، من أرضنا ومقدّساتنا ومياهنا وبحارنا وآبار نفطنا، لأنّ تحرّرنا الذي تزعمون أنكم ستحققونه لنا، يعني أول ما يعني، تحرير أنفسنا من احتلالكم لأرضنا واستعبادكم لنا ودَوْسكم على كرامتنا، وهذا لا يتحقق إلا بطردكم من بلادنا شرّ طردة، هي طردة المسحوق المستَضعَف الذي يتمكّن من ساحِقِهِ وظالِمِه، وسنفعل ذلك بإذن الله عزّ وجلّ ذات نهارٍ قريبٍ قادم، هو أقرب إلينا مما تتوقّعون!.. (.. وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران: من الآية140).

(كولن باول): الإصلاح لا يمكن أن يحقِّقَه المفسدون في الأرض، ومواعظ الوسواس الخنّاس لا يمكن أن تغيّر من حقيقة الشيطان، حتى لو تدثّر بحكايات الملائكة!..