أمة ترجو الترياق عند عدوها
فيصل الشيخ محمد
من خلال قراءتي للتاريخ لم أجد أمة ترجو الترياق من عدوها إلا أذلها الله وجعلها آية لمن اعتبر، والأمة العربية أمة لها تاريخ مرَ بمثل هذه الحقب السوداء، سواء في صدر تاريخها القديم أو تاريخها الحديث.
ولعلَّ الحقبة الأندلسية، بعد أن آل الأمر إلى دول الطوائف، من أخصب الحقب سوداوية في تاريخ هذه الأمة، حيث كانت هناك اثنتان وعشرين دويلة، لكل واحدة منها أميراً للمؤمنين، وراية بلون متميز تخفق على بنود حرسه، وحصون وقلاع عصية بأبراجها وجدرانها على بعضها، مشرعة الأبواب لعدوها، يشد أزر البعض على البعض، وينهش من جسد هذا وجسد هذا، حتى آل الأمر لخروج العرب من الأندلس بعد ثمانمائة عام، أذلاء خانعين يهيمون على وجوههم في مشارق الأرض ومغاربها، يبكون على ملك ضيعوه كما تبكي النساء.
وفي العصر الحديث ظن العرب _ واهمين – أن الترياق للتخلص من الرجل المريض يكمن في الارتماء في أحضان لندن وباريس وبرلين وفيينا، فحصدوا اتفاقية سايكس – بيكو وضياع فلسطين وزرع السرطان الصهيوني في جسدها، وقيام اثنتان وعشرين دولة برايات مختلفة الألوان وحدود عصية على أهلها مشرعة البوابات على أعدائها.
التاريخ يعيد نفسه وأمة العرب عادت إلى أميّتها لا تقرأ وإن قرأت – كما قال موشي ديان – لا تفهم.. فهذا التاريخ يعيد نفسه، ويعيش العرب حالة دول الطوائف في الأندلس قبل ستمائة عام.. فهل هناك أمة معاصرة قصيرة الأحلام كأمتنا العربية تنشد الترياق عند عدوها، في الوقت الذي باتت فيه دول مجاهل أفريقيا ودول غابات مزارع الموز تتطلع إلى الانعتاق من براثن عدوها، متطلعة إلى ذاتها لتبني كيانها المستقل واقتصادها المستقل وسياستها المستقلة، وتقيم علاقتها مع الآخرين حيث تتقاطع مع مصالحها، دون المساس بالسيادة والمعتقد.
اليوم تفتح العواصم العربية أبوابها لتستقبل العدو بالقبل والابتسامات وفائق الإكرام، وتتبرم عواصم أخرى – ليس عن عدم رغبة بل عن استياء لأن هذا العدو لم يزرها – وقد أدارت ظهرها لنهر الدماء الذي تدفق من أجساد أهلنا في غزة، ولموقف العزة والكرامة والصمود لفئة مؤمنة أعادت لهذه الأمة شيئاً من بريقها الذي خفت وخبا منذ ما يزيد على ستين عاماً.. وكان بإمكان هذه العواصم - إن وعت - أن تستند إلى صخرة المقاومة التي مرغت أنف الجيش الذي لا يقهر بصمودها وصبرها وتضحيتها.. وتحقق لهذه الأمة الكثير والكثير مما يجعلها مارداً في عين عدوها، وقلعة عصية أبراجها وجدرانها عن الاختراق أو النيل منها، وتفرض شروط المنتصرين، وهذا من حقها، على العدو الذي كان ولا يزال – وهنا مكمن الخطر - هو صاحب الكلمة العليا والنافذة في هذه العواصم البائسة التي استمرأت الذل والمهانة والتسول.
جورج ميتشيل.. وسولانا.. وغيرهما من غربان الغرب تتسابق العواصم العربية لاستقبالهم، وتتبرم عواصم عربية أخرى لعدم زيارتهم لها.. ليعلن هؤلاء بكل وقاحة وتحدي وامتهان من على منابر هذه العواصم التي تتكلم لغة الضاد، ناعتين الفئة الصامدة المؤمنة في غزة التي هزمت ربيبتها إسرائيل، بالإرهاب وأنها تشكل الخطر الأكبر على إسرائيل وعلى هذه الدول التي استقبلت (أو تبرمت) هؤلاء الغربان.. وأن التنسيق بين هذه الدول والكيان الصهيوني هو وحده سيجلب الأمن والسلام لدول المنطقة والرخاء لشعوبها.. وأن على هذه الدول أن ترضخ لشروط إسرائيل بأن تكون الحارس الذي يحمي حدودها من اختراق هؤلاء الإرهابين لها، لمنع وصول الدواء والغذاء والسلاح إلى أهل غزة، إلا بما تسمح به إسرائيل وعن طريقها وتحت رقابة عيون رجال أمنها أو ممن تثق بهم من جماعة أوسلو.. وأنه لا فك للحصار ولا فتح للمعابر إلا بعد إطلاق سراح شاليط دون مقابل.. ليحقق هؤلاء الغربان لإسرائيل مكاسب سياسية، لم تستطع تحقيقه بقوة ترسانتها الحربية المدمرة والحارقة!!
غربان الغرب يريدون منا أن نظل مكشوفي الصدر ومطأطئي الرأس ننقاد لمقصلة ربيبتها إسرائيل دون تأفف أو تبرم، حتى لا يصاب أي إرهابي مستوطن بحالة اكتئاب أو هلع أو انهيار عصبي، يثير مشاعرهم الشفافة والرقيقة نحوهم، أما شلالات الدماء وهي تتفجر من أجسادنا، فالنظر إليها تسلية لهم وقت الاسترخاء والراحة والاستجمام، لا تثير عندهم رعشة جفن ولا خلجة إحساس، تكون تسلية لألعاب أبنائهم عبر الفديو والإنترنت!!