تفاقم الفساد ما بعد الحراك العربي ووأد فكرة الإصلاح المنشود في مهدها
استضاف مركز الدراسات والبحوث الاجتماعية والإنسانية بوجدة مؤتمره الدولي الخامس تحت شعار : " الإصلاح مسارات ومآلات ما بعد الحراك العربي "، وهو شعار يستدعي وقفة تقدم في شكل وجهة نظر قد يتفق معها المؤتمرون وقد يختلفون معها ، ومهما يكن من أمر فهي مجرد وجهة نظر ككل وجهات النظر التي تعرض ، وتحتك بغيرها ليزداد أصحابها قناعة بها أو ينصرفوا عنها إذا هي لم تثبت ذاتها وهي تقارع غيرها ، وأعوزها إقناع هذا الغير . لقد تضمن شعار المركز لهذه السنة في مؤتمره الخامس ست كلمات تحتاج كل واحدة إلى وقفة على الشكل الآتي :
1ـ الإصلاح: كلمة يتفاءل بها لأنها تدل على زوال ونهاية الفساد ، والأصل في الأشياء صلاحها ، فإذا زال حل محله فسادها وهو طارىء . ويذكر الإصلاح دائما مقابلا للفساد كما هو الشأن في قوله تعالى : (( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها )) وقوله : (( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون )) . فالصلاح أو الإصلاح والفساد أو الإفساد ضدان ينفي أحدهما الآخر . ولقد وردت إشارات كثيرة في كتاب الله عز وجل تدل على أن الخالق جل وعلا إنما خلق الأشياء كلها على هيئات صالحة، وأن الفساد يطرأ عليها ومصدره الإنسان المخلوق المستخلف في الأرض . ومن الآيات الدالة على خلق الأرض على هيئة صالحة قوله تعالى : (( وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها )) فالجعل الإلهي ، ومباركته ، وتقديره هو إصلاحه الأرض أي خلقها صالحة على هيئة تحقق الغرض من خلقها . وقوله تعالى : (( بعد إصلاحها )) يدل على أن الإصلاح أصل والإفساد طارىء . وأن الإصلاح دأب الخالق بينما الإفساد دأب المخلوق . وعندما يتحدث المخلوق عن الإصلاح كيفما كانت خلفيته ، فهو يقر بحدوث الفساد وإلا فلا مبرر للحديث عن الإصلاح دون وجود فساد طارىء على الأشياء التي يكون الأصل فيها الصلاح . وقد يلتبس على المخلوق الصلاح والفساد أو الإصلاح والإفساد ، فيفسد الصالح وهو يعتقد أنه يصلح فاسدا ، وقد وقع هذا كثيرا عبر التاريخ البشري، لهذا كان الله عز وجل يرسل رسله الكرام صلواته وسلامه عليهم لتصحيح الأوضاع الفاسدة بفعل البشر لتصير صالحة . وسيستمر الحديث عن الإصلاح والإفساد إلى قيام الساعة ، وسيظل الصراع قائما بين الناس بخصوص الصلاح والفساد، علما بأنه لا أحد يقر بأنه يفسد الصالح بل حتى من يفعل ذلك يعتبره إصلاحا ، ولعل المخلوق الوحيد الذي أقر بالإفساد هو إبليس ، وقد يسير على نهجه بنو الإنسان ولكنهم لا يقرون بأنهم مفسدون كما أقر إبليس اللعين بذلك . والغرض من هذا الطرح هو التنبيه إلى أن كلمة إصلاح لا يمكن حصول الإجماع حول دلالتها ما دام الكل يدعي الصلاح والإصلاح ، ويتنكر للفساد والإفساد . ويمكن أن نضرب مثلا عن حدوث الاختلاف في دلالة الإصلاح بين الناس ،فالمتدين على سبيل يعتقد الصلاح في نفسه والفساد في غير المتدين في حين أن هذا الأخير يعتقد بدوره الصلاح أيضا في نفسه والفساد في المتدين ، علما بأن الصلاح لا يمكن أن يكون معا في شيئين على طرفي نقيض . وهنا ننبه إلى أن ما سيخلص إليه مؤتمر مركز الدراسات من توصيات بخصوص الإصلاح ستعتبره جهات أخرى غير ذلك انطلاقا من وجهات نظرها وزاوية رؤيتها المختلفة عن زوايا رؤية غيرها .
2ـ مسارات : جمع مسار ، وهو مصدر ميمي لفعل سار ، ويدل على الطريق والمسلك ، وخط السير.ويبدو أن واضعي شعار المؤتمر يعتقدون بأن الإصلاح أخذ مسالك متعددة من خلال استعمال جمع المسار . وإذا ما تعددت مسارات الإصلاح ، فمن الصعوبة بمكان أن تتوحد حولها الرؤى .
3 ـ المآلات : مجمع مآل ، وهو مصدر ميمي لفعل آل ، ويدل على المفاد والمقصد والمغزى والمضمون والنهاية والنتيجة ، فأي هذه المعاني قصد واضعو الشعار ؟ والغالب أن كلمة مسارات قد رجحت أنهم يريدون بالمآلات النهايات ما دامت المسالك تفضي إلى نهايات بالضرورة . وههنا أيضا يصعب أن تتوحد الرؤى .
4 ـ ما بعد : ما موصلة ، وبعد ظرف مبهم نقيض قبل ، وبينهما تنحصر الأحداث إذ لكل حدث ما قبله وما بعده . ويتعلق الظرف ما بعد في شعار مركز الدراسات بحدث أو أحداث الحراك العربي . واستعمال ما بعد يوحي بأن الحراك قد انتهى وإلا لما كان له بعد ، وهذا موضوع خلاف أيضا إذ يعتقد البعض أن الحراك لا زال مستمرا ويؤيد اعتقادهم الأحداث الجارية حاليا في الوطن العربي .
5 ـ الحراك : نقيض السكون ، وهو حركة كل مظهر من مظاهر النشاط ، ولا يرقى إلى مستوى الثورة التي هي الخروج من وضع إلى آخر وتغييره بدافع التطلع إلى الأفضل . وههنا أيضا وقع الخلاف حيث يرى البعض أن الحراك ثورة ، في حين يرى البعض الآخر أنه حالة دون الثورة . ويقع الاختلاف أيضا في نوع الحراك في مختلف الأقطار العربية لأن بعض الحراك غيّر الأوضاع السياسية في بعض الأقطار في حين لم يقع تغيير في غيرها ، وهذا يعني أن الحراك لم تكن له نفس المآل . ويرى البعض أن تسمية ما حدث في العشرين من فبراير في المغرب هو حراك مختلف عن كل حراك شهده الوطن العربي .وإذا ما تأملنا نتيجته، والتي لم تعد تغيير بعض فقرات الدستور قياسا مع ما حدث في أقطار عربية أخرى حيث أفضى حراكها إلى الخروج من وضع سياسي إلى آخر كان في حراكنا نظر لأنه لم يغير شيئا من وضعنا السياسي. ولا بد من الإشارة إلى أن الحراك في أقطار عربية تولدت عنه فوضى سياسية وعدم استقرار بل حروب أهلية طاحنة، الشيء الذي أضفى على الحراك صفة سلبية في تلك الأقطار،علما بأن المتوقع منه أن يكون إيجابيا لأنه تطلع نحو الأفضل . فهل كان حراكنا في المغرب إيجابيا من خلال تغيير بعض فقرات الدستور ؟ وهل حصلنا به على الأفضل ؟
6 ـ العربي : النسبة للعرب ، وهو ههنا صفة ونعت للحراك ، ولا ندري أيجوز أن نعمم هذه الصفة على الوطن العربي مع أن أقطارا عربية لم تشهد أي حراك أو شهدت شبه حراك سرعان ما فتر .
وإذا كان المنتظر من كل حراك حصول انتقال من فساد إلى صلاح ، فإن الفساد قد تفاقم بعد الحراك العربي ، وتم وأد فكرة الإصلاح في مهدها . فما وقع في مصر حيث وقع الانقلاب العسكري على الشرعية والديمقراطية هو ارتداد نحو فساد أكبر مما كان قبل الحراك المصري . وما وقع في تونس لم يحدث كبير تغيير في الوضع السياسي السابق حيث بقيت رموز النظام المنهار هي صاحبة القرار الشيء الذي يعني وقوع انقلاب انتخابي أبيض على ما نتج عن الحراك . وما وقع في ليبيا واليمن وسوريا هو الانتقال من وضع سياسي فاسد إلى فوضى عارمة تؤججها النعرات الطائفية . ومن هنا يبدو الحديث عن الإصلاح ما بعد الحراك العربي ضربا من الوهم إذ لا توحي الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الراهنة في الوطن العربي بشيء اسمه الإصلاح . ولربما رأى البعض أن وضعية ما قبل الحرك على علاتها أفضل من وضعية ما بعده . وأخيرا إن مؤتمر مركز الدراسات الدولي الخامس يتحدث عن تطلعات المؤتمرين نحو إصلاح يرجى ، ولا يتحدث عن إصلاح فعلي حاصل أو قد حصل بالفعل.
وسوم: العدد 699